دفاعاً عن الشاعرية والخيال تعريب
خاص ألف
2012-03-13
كتب (غارسيا ماركيز) هذا النص منذ أربعين عاما تقريباً. وهو نصّ دفاع عن الشاعرية والخيال في الكتابة الروائية. ونص نقدٍ للدوغمائيين من الأساتذة والنقّاد الذين يعميهم تحجّرهم عن تحسس رياح الخيال اللاعبة في فضاء النص الأدبي فيُسقطون عليه أحكامهم المسبقة، ويُقَوِّلونه ما لم يرد الأديب قوله.
وقد تُرجم هذا النصّ عن نسخته الفرنسية المنشورة في مجلة (ماغازين ليترير).
في العام الماضي أنذر أستاذ الأدب ابنة صديقٍ لي بأنّ امتحان نهاية العام سيكون حول روايتي (مائة عام من العزلة)، فارتعدت فرائص الفتاة من الخوف، ولها الحقّ في ذلك: ليس فقط لأنّها لم تقرأ الكتاب، وإنّما أيضاً لما كان عليها تحضيره من مواد أكثر جدِّية من قراءة الرواية. وكان من حسن حظّها أن والدها صاحب ثقافة واسعة في الأدب، ومالك فطرة شاعريّة نادرة. فما كان منه إلاّ أن أخضع ابنته لتحضير قاسٍ وسريع سمح لها أن تتقدَّم للامتحان بمعارف تفوق معارف أستاذها نفسه. وفي الامتحان، فوجئت الفتاة بالأستاذ يسألها عن معنى قَلْبِ حرفٍ في كتابة عنوان الرواية على الغلاف، وكان يقصد بالطبع طبعةً محددةً من طبعات الرواية هي تلك التي صدرت في مدينة (بوينس آيرس)، والتي شاء مصمّم غلافها قلبَ بعض أحرفها. وطبعاً هذا حقٌّ مشروع للفنّان. أمّا الفتاة المسكينة فلم تعرف ردّاً لهذا السؤال العويص. وعندما طرحت السؤال نفسه على (بيسانت روخُو) مصمم الغلاف، وقف ذاهلاً، عاجزاً عن تعليل فكرته تلك.
ومع مطلع هذا العام خضع ابني (غونزاليث) لامتحان قبول في لندن. وكان بين أسئلة مادة الأدب سؤال حول رمز (الديك) في قصّتي: (ليس لدى الكولونيل من يكاتبه). وعلى الرغم من أن ابني يعرف جيّداً أسلوبي في الكتابة، لم يستطع مقاومة الرغبة في الاستهزاء من هذا الحكيم الدهقان صاحب السؤال فأجاب: "إنّه الديك ذو البيضة الذهبية". وقُيّض لنا أن عرفنا بعد زمن أن الطالب الحائز على أفضل تقدير كان ذاك الذي أجاب (كما سبق للأستاذ أن حشا في رأسه) أن الديك هو مثال القوّة الشعبية المضْطُهدة. وطبعاً كانت سعادتي بحسن طالعي السياسي بلا حدود لأنَّ النهاية التي كنت أتصوّرها للقصة – قبل أن أغيّرها لتصبح ما هي عليه الآن – كانت تقتضي أن يقوم الكولونيل بقصم رقبة ديكه ليصنع منه حساءً ساخناً.
منذ أعوام وأنا أجمع هذه الدرر النفيسة التي يقوم أساتذة الأدب بتضليل أفكار طلاّبهم بها. فهناك، مثلاً، أستاذ يقول لطلاّبه إن الجدَّة القاسية الشرهة التي تستغِّل (إيرينديرا) الساذجة لتفيها دَيْنَها، هي رمزّ للرأسمالية الجشعة، وهناك أستاذ آخر كاثوليكي يؤكّد أن صعود (ريميديوس) الجميلة إلى السماء لم يكن سوى اقتباس شاعري لصعود العذراء، وهناك أستاذ قدّم محاضرةً كاملة عن (هيربير) الذي يقوم في واحدة من قصصي بحلّ مشاكل الناس من حوله، وبتوزيع الأموال بسخاء ليستخلص في النهاية أن هذه ال(هيربير) ليس إلاّ صورة تشبيهية لله، وهناك ناقدان من مدينة (برشلونة) فاجآني باكتشافهما أن بنية روايتي (خريف البطريرك) هي نفس بنية الكونشرتو الثالث لآلة البيانو ل(بيللا بارتوك). وقد سررت جداً بهذا الاكتشاف لأنّي معجب ب(بارتوك) وبهذا الكونشرتو تحديداً، لكنني لم أفهم بعد كِنْهَ التماثل الذي وجده هذان الناقدان بين العملين. وهناك أيضاً استاذ في كليّة الآداب في مدينة (هافانا) انتهى في محاضراته الطويلة عن تحليل عملي (مائة عام من العزلة) إلى نتيجة مفادها أنَّ هذا العمل لا يقدِّم أيَّ حلٍّ.....
كلُّ هذا يدفعني للاقتناع بأن هَوَس التفسير هو في النهاية شكل من أشكال التوّهم التي غالباً ما تفضي إلى الغباء.
لا شك أنّي قارئ ساذج حتّى لا أرى في ما يقوله الروائيون غير ما يقولونه. فعندما يقول (فرانز كافكا) أنَّ (غريغوار سامزا) أفاق ذات صباح ليجد نفسه ممسوخاً على شكل حشرة هائلة، لا يبدو لي أنه أراد أن يرمز بذلك إلى شيء آخر، وكل مايثيرني حتّى اليوم هو الشكل الذي كانت عليه تلك الحشرة الغريبة. إنّي أومن بأنه وُجِدَ – حقيقةً – زمنٌ عرف بساط الريح، وعرف عفاريتاً مسجونةً في قماقم، وأومن حقّاً أنّ حمارة – بلعام – قد تكلمت – كما يرد ذلك في الإنجيل – وجلَّ ما آسف له أننا لا نحتفظ بتسجيلٍ لصوتها، وأومن حقاً أن (يوشع) هدم أسوار مدينة (أريحا) بقوّة صوت الأبواق، ويحزنني أنّنا لا نحتفظ بنوطة هذه الموسيقى الهدّامة، وأومن أخيراً أن الموظف (فيدرييرا) – الذي يرد عند سرفانتس – كان حقّاً من الزجاج كما كان يتخيله أثناء جنونه، وأومن بحقيقةِ فرح (غارغانتويا) وهو يبول فوق كاتدرائيات باريس. بل وأكثر من هذا أومن أن خوارق مشابهة تحدث في عالمنا هذا كلّ يوم. وأننا، إن لا نراها فإنما عاقبة ذلك تقع على العقلانية الظلامية التي أدخلها الفاسدون من الأساتذة في عقولنا.
إني أكِّن كثيراً من الاحترام، ومن المحبة لعمل المدرّسين، لكنّني أتألم لرؤيتهم يتحولون إلى ضحايا لأنظمة تعليمٍ تقودهم إلى النطق بالحماقات. إنّني لن أنسى ما حييت استاذتي التي علمتني القراءة وأنا في الخامسة من عمري فقد كانت فتاة جميلة وعالمة لا تدّعي مطلقاً معرفةَ ما لا تستطيع معرفته. وفوق هذا كانت فتيّة لدرجةِ أنها أصبحت، مع الزمن، أصغر منّي. وما زالت تسحرني تلك القصائد الأولى التي كانت تقرؤها لنا في الصف. وأذكر أيضاً بامتنانٍ مماثلٍ استاذ الأدب في المدرسة الثانوية، وكان رجلاً متواضعاً وحذراً، استطاع أن يقودنا في متاهات الجميل من الأدب دون أن يشوّه ذاك الجمال بشروحاته وتفسيراته. وقد سمحت هذه الطريقة لنا – نحن طلابه – أن نساهم بحرِّيةٍ بابداعنا الخاص في تلك المعجزة المسماة: الشعر.
وختاماً ! لا بد برأيي من المهارة في التدريس، إذ لا يجب على درس الأدب أن يكون أكثر من دليلٍ جيّد للقراءات، أمّا من يدّعي غير ذلك، فاعلموا أنه لن يفيد إلاّ في لجم شاعرية الأطفال.
08-أيار-2021
15-نيسان-2012 | |
13-آذار-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |