"الفردوس المفقود" في الكتابة الأدبية الفلسطينية
خاص ألف
2012-04-15
الثقافة وعاؤها التاريخ. فليس من كلام في الثقافة يتوهم التعالي على مجريات التاريخ ووقائعه، وبخاصة إذا كانت هذه الأخيرة مفاصل صياغة الثقافة كما هي الحال في الشأن الفلسطيني.
والثقافة الفلسطينية، شأنها في ذلك شأن أي ثقافة وطنية أخرى، متجذرة في التاريخ. غير أن درامية التاريخ الفلسطيني منذ عام 1948 (وهي درامية بالمعنيين الأدبي والقِيمي) تجعل صورة هذه الثقافة مرتهنة لوقائع التاريخ وأفعاله، وكأن قدر هذه الثقافة أن تكون رد فعل على التاريخ وليس فعلا له.
لكن وعلى الرغم من هذا الإلحاح للتاريخي في بناء الثقافي يجدر بنا ألا نتوقف في سؤالنا عن الثقافي عند التاريخ فقط وإنما أيضا عدم التردد في سؤال الثقافة ذاتها حتى لو أدى هذا السؤال إلى جرح المسلمات التي نرتاح لرسوخها واستقرارها في أعماق وعينا.
(انطلاقا من هذه الإشكالية المؤسسة سأحاول في هذه المداخلة قراءة مفهوم الفردوس المفقود كما يظهر في عدد من الكتابات الأدبية العربية، والفلسطينية بشكل محدد.)
تاريخ الشعب الفلسطيني منذ ما اصطلح على تسميته بالنكبة، تاريخ خروج مستمر، نفيٌ على حلقات. بعض هذه الحلقات جاء نتيجة مباشرة للعدوان الصهيوني (النكبة ذاتها، النكسة، الاجتياح...) وبعضها الآخر نتيجة غير مباشرة للعدوان نفسه (الخروج من الأردن، الخروج من المخيمات ومن بعده الخروج من لبنان، الخروج من الكويت بعد الغزو العراقي، الخروج من ليبيا بعد أوسلو...).
النفي المستمر هذا، مغادرة لمكان ( والمكان هو فضاء الكون والكينونة الذي تحدد الحرية شرط وجوده اللازم الكافي) نحو حيّز للإقامة (والحيز هو فضاء مغلق تحدد الضرورة شرط احتماله). حيز الإقامة هذا انشق بفعل التاريخ إلى ثلاث إمكانيات، حيّزات، مختلفة: الحيز المحتل حيث يعيش فلسطينيو 1948؛ الحيز الملتبس المتمثل في الضفة والقطاع وهو حيز يزداد هشاشة والتباسا منذ الثامن والعشرين من أيلول 2000 ويأتي اليوم جدار الفصل العنصري ليضاعف من الالتباس والهشاشة ؛ والحيز المفتت المتمثل بالشتات الممتد عبر جهات الكون الأربعة.
حيزات الإقامة هذه، طبيعتها اللاتعيين، أو اللاثبات. وكما يقابل الحيزُ (حيث لا شيء يقيم) المكانَ (حيث الكينونة ثابتة) كان لا بد من مقابل، في الذاكرة على الأقل، لحيزات الإقامة. هذا المقابل الجامع والثابت هو المكان الأول، مكان ما قبل الخروج، ما قبل النكبة.
والخروج المستمر هو أيضا انزياح عن زمان صوب أزمنة تضجّ براهنيتها. أزمنة لا تُحتمل، ثقيلةُ الوطء، فهي أزمنة محسوسة بدقائقها وبكل تفاصيلها. وفي مقابل هذه الأزمنة ينتصب زمان أصيل وأوحد، ينضغط رغم عمق تاريخيته في لحظة مجردة خارجة عن التاريخ. لحظةٌ تختصر (الكرونوس) وتمزج كلَّ تغيراته ووقائعه في حال وحيد خالد. هذا الزمان الأصلي الأصيل هو زمان ما قبل الخروج. لحظةٌ مشهدية تغطي تاريخا يبدأ مع النكبة ويغوص رَجْعا صوب قاع الزمان، صوب الأزل.
ثمة إذن مُرَكبٌ زمكاني، الذاكرة موطنه، ومنها يُستحضر ليؤدي وظيفة الخلفية أو الأرضية التي تنبني فوقها حكايات الحاضر الزئبقي، الباهت، ومنها ينطلق الحُلُم بمستقبل مضيء.
هذا المركب هو الفردوس المفقود. هو الجنة الأرضية التي أُخرج الفلسطيني منها كآدم حين أخرجه الضِرار من الجنة الإلهية.
يؤسس الفردوس المفقود، في ثقافة المضطَهَدين أيا كانت جنسيتهم، ثلاثية أسطورية مقدسة. يختص الضلع الأول من هذه الثلاثية بتوصيف الفردوس وبتشكيله تشكيلا مجردا وإطلاقيا يسمو على الواقع الأرضي وخسائسه ودنيّاته. أما الضلع الثاني فتحتله صورة الوسيط المقدس، أو المخلّص الفادي الذي يمحو، أو سيمحو، خطيئة الخروج من الفردوس فيحول حالة السلب إلى حالة إيجاب، أو إيجاب متخيّل ومتوهّم ينتظر تحققه في الضلع الثالث. وهذا الأخير هو الضلع الذي تملؤه صورة الأرض الموعودة كنقيض للفردوس المفقود.
وفي هذه المداخلة سأحاول الوقوف عند هذه الثلاثية في بعض نماذج الأدب الفلسطيني بشكل خاص.
1-الضلع الأول (ضلع رسم المكان والزمان المطلقين): المكان في الفردوس المفقود هو، كما رأينا، مكان فريد لا يُعرّف بنظيره، لأن لا نظير له، أو لأن نظيره هو العماء حيث لا كون ولا كينونة. هو جغرافية صمدانية، تنحصر تضاريسها بأسمائها ذات الحمولة العاطفية المضمونة. هو القدس وحسب، هو يافا، حيفا، الجليل ... وهو أيضا "البيت" و "بيارات البرتقال" و "بساتين الزيتون" و"البحر"...
أما الزمان فهو، كما رأينا أيضا، لحظات تائهة فوق التحولات، لقطات عابرة فوق الحِقب ترفض التلّون وتأبى أن تشيخ. في هذا التصور للزمان تصبح كلمات مثل "ذكرى"، "أذكر"، "ذاكرة"، وكل ما يصرّف في الماضي قرينة لزمان كان سرمديا لكنه انتهى مع الخروج من الفردوس.
وقد قدم الشعر، بما يفترضه بدايةً من وجدانية وعاطفة، المجال الأرحب لصياغة هذا التجريد الزماني المكاني. ويمكن أن نذكر هنا بعض الأمثلة:
فالشاعر محمد العدناني يعطي صورة تغلب عليها الرومانسية والإرادوية إذ يختصر المكان إلى اسمه ذي الشحنة العاطفية الموروثة من مركّب ديني ثقافي يجعل لكلمات مثل الحَرَم، القدس،المآذن، المسجد الأقصى ومهد المسيح، قوةً إيجابية في ذاتها وليس في ما تمثله أو تعيد إليه. أما الزمان فيختزل إلى لحظة سلام اجتماعي- ديني لا ندري مدى حقيقتها لكننا نقبلها بلا تردد. يقول العدناني:
ذِكرى تعـانـقـها الأكبـاد مُعـوِلَة على الثرى نافحا طيبا على الحَرَم
على مراتعنا في القدس عامرة بكل ذي رحــِم أو غيرِ ذي رحِــم
على المــآذن في القدس مرددة "الله أكبر في عز وفي شــــــــمم"
على النواقيسِ في مهد المسيح دعـــــــت إلى مؤاخـاة إلياسَ لمعتــــــــصم.
في حين يجعل محي الدين الحاج عيسى من يافا قطعة من الجنة، كل ما فيها مطلق الجمال والإيجابية فيقول:
فـيا ليـت لـي يا أم ســـعدٍ فراشــةً تحوّم في (يافا) وباهي رياضــها
وترشُف في زهوٍ رحيقَ زهورها وتلثم في شـــــوق ثمار غياضـها
وتُـبـلـغ أحـبـابـي هـنــالـــك أنــنا على العهد لا ننسى نَمير حياضها
وهنا نجد أن العناصر المعيِّنة للمكان (يافا) هي بمجملها كلمات ذات دلالة جمالية إيجابية: (فراشة، رياض، أحباب، رحيق،... أما الزمان فليست له إحداثياتٌ تعيّنه لأنه متخيّل "زمن الفراشات" ودائري منغلق يعبر عنه فعل الحوم.
وكذلك أشعار "هارون هاشم رشيد" و"محمود الحوت" و"معين بسيسو" و"يوسف الخطيب" وحتى "محمود درويش" و"سميح القاسم" ولكن بشكل أكثر مواربة وتورية.
أما في النثر فيمكن أن نرى ذلك في غالبية الروايات الفلسطينية، وعلى سبيل المثال لا الحصر رواية "السفينة" ل"جبرا إبراهيم جبرا" فإذا بحثتا عن الزمن في هذه الرواية نجد أن أوائل أيار 1948 هو التاريخ الوحيد المذكور صراحة على امتداد الرواية والمستخدم للتعيين الزماني أو لتعشيق الرواية في الزمن (حسب مفهوم التعشيق عند رولان بارت). ثم تتتالى التعيينات الظرفية اللازمة لتشبيك النسيج السردي مثل (وعند الغروب)، (وعند الفجر)، (في شهر حزيران)، (عند منتصف الليل)... إلخ. لكن ماذا نجد في المقابل ؟ نجد الزمان الأول، الزمان الفردوسي المطلق. يقول الراوي الفلسطيني "وديع عساف" في معرض تذكره للقدس: "هذه الأرض التي نُحت صخرُها مغاور وصوامع وجوامع، معلنةً ديمومة المدينة عبر الحقب الطوال". تاريخ المدينة هذا، زمان سرمدي الطراوة والجمال فبيوت القدس "جواهر منثورة على ثوب الله"، وربيع القدس "هو الربيع المطلق" –لا ننسى أن الربيع الدائم صورة من صور الجنة.
تكتب سميرة عزام (الكاتبة الفردوسية بامتياز) في نص لها بعنوان "وجدانيات فلسطينية"، منشورٍ في آخر مجموعتها القصصية "العيد من النافذة الغربية"،تكتب عن الربيع فتقول :" تسألني كيف كان ربيعنا فماذا أقول ؟ سخاءٌ كيفما تلفتَّ، وخضرةٌ ولونٌ حتى لكأن الحجر يوشك أن يورق. تسألني كيف كان فأقول مثلَ ما لا يكون ربيعٌ في مكان... ربيعنا يأتيك محمولا على غمامات من أريج البرتقال (...) لا تسلني كيف كان ربيعنا بل سلني أي ربيع يطاول ربيع البرتقال".
في السياق نفسه تصبح القدس "أجمل مدن العالم" كما يقول عساف . وكذلك يصبح شاطئ الحرم في رواية (وادي الحوارث) لتوفيق فياض شاطئا لا شبيه له. يقول الراوي: "فهي تعرفه وتعرف أيَّ ذاكرة لموجه، إنها تعرفه بمدّه وجزره، بثورته وسكينته، بصدفه وسمكه، (...) وتشهد أن لا شبيه في الدنيا لبحر الحرم".
أما يافا فتصبح بقلم المؤرخ والكاتب مصطفى مراد الدباغ "واحة أفلتت من الجنة"، ويغدو تاريخها مرافقا للأزل حتى أنّ "معظم مدن الدنيا تبدو طفلة بالنسبة لها".
كل ذكر لزمان الماضي ومكانه يسمو عن التأريخ فهو ينتسب إلى زمن أسطوري/ديني ليس لمعاييرنا الأرضية القدرة على الإحاطة به.
حتى عندما يروي عساف في "السفينة" حكاية صديقه الشهيد فايز، التي دامت سنوات طوال كما يُستشف من تطور أحداثها، لا نجد لها تأريخا يموضعها في التقاويم أو يربطها إلى الوقائع، باستثناء تاريخ النكبة بالطبع, وكأن انتسابها إلى الزمن الأصلي الفردوسي يمنحها العبور إلى إطلاقيته وتجريديته.
2-الضلع الثاني (شخصية المخلص): لما كان الفردوس المفقود بفعل خطيئة أولى مقدساً، صار لزاما أن يكون له نبيّه. أي المخلّص القادر على تصحيح تلك الخطيئة الأولى، وتجاوز الحاضر الذي أفرزته للوصول، أو لإيصال البشرية، إلى المقابل المستقبلي للفردوس، إلى الأرض الموعودة.
وقد تباينت صورة المخلص في الأدب العربي المكتوب عن فلسطين بالتوازي مع تطور نضال الشعب الفلسطيني. وللإشارة إلى هذا التغيّر نأخذ مثالا من بعض النصوص التي غنتها فيروز عن فلسطين ، ولهذا المثال أهميته بلا شك لما كان لأغاني هذه المطربة من أثر قوي في بناء المخيال الجمعي لجيلين على الأقل من أجيال المشرق العربي، (ولا يمكننا بالمناسبة إلا أن نأسف لغياب الاهتمام الأكاديمي في هذا الموضوع الخطير). ففي بداية الخمسينيات غنت فيروز من كلمات الشاعر الفلسطيني هارون هاشم رشيد أوبريت أو (مغناة) "راجعون" وفيها :
أبي قـل لي بحـق الله هل نأتي إلى يافا
فإن خيالها المحبوب في عيني قد طافا
سؤال الخلاص المطروح هنا على الأب يحيل ضمنا إلى سلطة مسؤولة وراعية ويستنجد بها للإنقاذ. فالسؤال لا يلقى على الأب لمجرد السؤال وإنما لتحقيق رغبة أيضا. هي هنا رغبة الخلاص من لعنة الطرد والعودة إلى النعيم.
وفي أواخر الستينات، وبعيد انطلاق الثورة الفلسطينية أنشدت فيروز نفسها من كلمات الرحابنة متغنية بولادة المقاتلين الذين سيأتي المجد على أيديهم، حيث تقول:
يأتي من خلف الأشجار
طفل في سن العشرين ، يحتفل اليوم بميلاده.
عيّده العيد برشاش
فمضى يتصيد ويصيد، في أرض أبيه وأجداده.
والمجد لأطفال آت فالليلة قد بلغوا العشرين.
لهم الشمس، لهم القدس، والنصر وساحات فلسطين.
تحولت صورة المخلّص إذن مع تحول صورة الفلسطيني من اللاجئ إلى المقاوم. وهو تحوّل يجد تعبيره المكثف حتى حدود الشعر في جملة قصيرة يوردها غسان كنفاني على لسان أم سعد التي تقول في الرواية المعنونة باسمها: "خيمة عن خيمة تفرُق". حيث يتمثل المنفى بكل أوجاعه وأوضاعه المأساوية الحزينة بالخيمة الأولى التي ولّت بلا رجعة، في حين تختزل الخيمة الثانية كل ما تضعه أم سعد من آمال في مسالك النضال التي اختارها الفلسطينيون سبيلا لاسترداد حقوقهم وخلاصهم.
و في زمن ولادة الكفاح المسلح الفلسطيني، يرسم محمود درويش هذا المخلص عاشقا من فلسطين يتماهى مع صورة الفارس النبيل الذي يحمل اسم حبيبته(فلسطين) بيرقا ونبراسا يقوده في نضاله المحفوف بالمخاطر والأهوال:
حملتكِ في دفاتريَ القديمةِ
نار أشعاري
حملتكِ زادَ أسفاري
وباسمك، صِحت في الوديان:
خيولُ الروم! ..أعرِفها
وإن يتبدّلِ الميدان.
في شخصية هذا المخلص يمتزج العاشق مع المقاتل الجسور الذي يتملك الوعي بواجبه الأخلاقي وبعدالة قضيته:
وباسمك، صحت بالأعداء:
كلي لحمي إذا ما نمت يا ديدان (...)
خيول الروم... أعرفها
وأعرف قبلها أني
أنا زينُ الشباب، وفارسُ الفرسان.
وعند جبرا إبراهيم جبرا تتلبس شخصية المخلّص إهاب المثقف النخبوي، القادم من النضال في زمن النكبة والمنطلق عبر الثقافة الشاملة ، الموسيقى والرسم والفلسفة والأدب والرحلات نحو الأرض الموعودة كقدر لا يمكن تجنبه. يقول الراوي الفلسطيني كونيُّ الثقافة:"عجيب يا عصام، أنا، حيثما ذهبت ومهما توهمت فإني أركض باستمرار في اتجاه أرضي التي أحاطوها دوني بألف كيلومتر من الأسلاك الشائكة. أركض نحوها وفي يدي قنبلة".
أما عند غسان كنفاني فثمة صورتان للمخلّص. الصورة الأولى، هي صورة سلبية (بالنيغاتيف) صورة لنقيض المخلّص Anti messi المتمثلة بشخصية سائق الشاحنة (أبو الخيزران) في رواية "رجال في الشمس" والتي ترمز حسب ما يقوله شيخ النقاد إحسان عباس إلى القيادة الفلسطينية "التي تؤدي دورا "قاتلا" قائما على المداورة والمراوغة والكذب، شأنها في ذلك شأن "المهربين الآخرين" – ممثلي القيادات العربية الأخرى". وبغض النظر عن إصابة هذا التحليل أو خطأه يظهر كنفاني عجز القائد التقليدي عن تقديم الخلاص للشباب الفلسطيني. لكنه يظهر أيضا أن أي طريق للخلاص لا تكون فلسطين قِبلة له مصيره الموت. أما الصورة الثانية، الإيجابية، فهي للمخلّص الحقيقي ويمثله الابن الثاني في رواية "عائد إلى حيفا"، خالد، الشرف الباقي للوالدين، الذي يصحح خطأهما في اعتبار أن الوطن هو الماضي فحسب، ويؤدي دور المساعد على استرجاع الوعي بأن الوطن هو المستقبل أيضا.
ومع تطور المقاومة الفلسطينية وترسخ ما بات يُعرف باسم أدب المخيمات صار الفدائي، وبعده الشهيد، هو المخلّص، وتكاثرت الروايات (التي لم تصل أبدا إلى المستوى الفني لروايات الجيل الأول بعد النكبة، جيل جبرا وكنفاني) التي تمجد هذا الوسيط المقدس القادم من ذل المخيمات. هذا المسيح الذي يشتري بنفسه الخطيئة الأولى ليبلغ بشعبه ملكوت السماوات. ( وأعتقد أنه لمن المهم جدا أن يقوم أحد الباحثين الشباب بدراسة صورة الصليب في الأدب الفلسطيني).
3- الضلع الثالث (المقابل الحُلُمي): لا تمثل صورة الفردوس المفقود في أدب المضطَهدين عموما مبكىً على الأطلال الدارسة. وليس استحضارها مناسبة للّطم والندب على ما كان وذهب، بل هي عملية تتم في سياق البحث عن حلم بجنة قادمة تعوّض الجنة الهاربة.
وقد ركّب استحضار الزمان والمكان الجامعين البدئيين صورة صالحة دوما لأسى المضطهدين في واقعهم المأساوي وصورة صالحة أيضا لتأسيهِم وبالتالي لاستنهاض مخيلتهم لتصور المستقبل.
ومن المؤكد أن بناء هذا التصور يحتاج إلى مكنونات الذاكرة. إذ ليس من الممكن بناء حلم من عماء. والذاكرة المسبورة لا تُستحضر إلا مصطفاة، أي بعد أن ينتقي منها الحالمون ما يلائم مشروعهم.
ولدى البحث في الكتابة الأدبية العربية عن فلسطين كفردوس مفقود تبينت لي قضية لا أستطيع الآن الجزم بحقيقتها لكنها ظاهرة بشكل واضح، وإن كانت تحتاج إلى المزيد من الدراسة والتعمّق. ألا وهي غياب المعادل الحلمي للفردوس المفقود. أي أن هذه الأسطورة تبقى ناقصة ومبتورة لأنها تفتقد لضلعها الثالث. وكأن المخيلة العربية عاجزة عن صياغة صورة المستقبل الفلسطيني.
يمكننا في مرحلة أولى اقتراح تفسير لذلك. وهو أن النوسان بين الماضي وذكراه والمستقبل وخياله يرتطم في حركته بجدار الحاضر المهشّم فيتعثر الحلم وينكسر. ثمة صدام يقع بين الإيديولوجي أو النظري أو التخيلي من جهة والحاضر بواقعه المتفاقم سوءا وخذلانا وتفكيكا من جهة أخرى. فتهتز البوصلة، ويضيع السمت أو يضطرب وتتلعثم اللغة في فعل كتابتها في حين لا شيء يقف في وجه الذاكرة أو حتى في وجه اصطناعها. فيغدو الضلع الأول في علاقات الفردوس المفقود هو المهيمن على الرؤيا وعلى الكتابة. وينتصر الحنين وتغلب الإبابة، ويغرق الناس في ماضوية كالرمال المتحركة، كل ذهاب فيها خطوة نحو ذهاب أشد وأعمق.
يقدم مثلا محمود درويش توصيفا موجعا لهذا السقوط، مختَصِرا في بيت واحد كل هذه الحقيقة فيقول في ديوان أحد عشر كوكبا:
لم يبق لي حاضر كي أمُرَّ غدا قرب أمسي.
هكذا إذن، أمام فناء الحاضر يعجز الفلسطيني عن صياغة الغد الموعود الشبيه في ضيائه بالماضي الذهبي فلا يبقى من كل المعادلة سوى الأمس منتصبا كعلم.
ويقول في مكان آخر:
(...) أيها اليأسُ كنْ رحمةً. أيها الموتُ كنْ
نِعمة للغريب الذي يبصر الغيب أوضح من
واقع لم يعد واقعا. سوف أسقُطُ من نجمة
في السماءِ إلى خيمةٍ في الطرق إلى ...أين ؟
أين الطريق إلى أي شيء ؟
ويضيف في القصيدة نفسها
(...) لا أستطيع الرجوع إلى
إخوتي فرب نخلة بيتي القديم، ولا أستطيع النزول إلى
قاع هاويتي.
وفي موقف مشابه يقف سميح القاسم في قصيدة تناثر منِّيَ شيءٌ موقف الناسك الزاهد الذي أعيته الحياة ولم تظهر له سوى عكس ما أفنى حياته في تدبيره: بناء وطن، يقول القاسم:
يا من خلقتَ الدروبْ
إلى أيَ دربٍ على ألف دربٍ ألوب ؟
ويا من رسَمتَ البلادْ
ومن طينها المدهش الأوليِّ جبَلت العباد
ألا بيتَ لي بين تلك الجهاتِ
ولا شعب لي بين هذي الشعوب
ألا دُلَّني أين أخطأتُ يا خالقي،
أين أخطأتُ...حتى أتوبْ!
ويعبر القاسم في قصيدة أخرى هي ملك أتلانتس عن غياب الوطن المنشود بل استحالته، بجرعة كبيرة من اليأس وهو يخاطب الملك الأسطوري الذي يمكننا ببساطة أن نرى فيه صورة القائد الفلسطيني الذي نقل القضية الفلسطينية من مقامها الثوري المقاتل إلى إمكانيتها السياسية التفاوضية التي لم تعده من المنفى إلاّ إلى منفى مقلوب. يقول:
وأقول لي ... لتقولَ لكْ
ستعودُ من منفاك قبل الموت في منفىً جديد
غرقا مع الوطن السعيد
يا أيها الملك المقيم وأيها الملك الشريدْ.
ونجد في شهادات لبعض الأدباء الذين عادوا إلى فلسطين عام 1994 (عودة مبتورة) كما يسميها سليم تماري، نجد وصفا دقيقا لسطوة الواقع على الحلم كما في شهادة الشاعر غسان زقطان الذي يقول: "فجأة تبدو (عودتنا) مثلُ خيانة بيضاء للمنفى ولفكرة الأندلس التي سكنا في أرضها عقودا طويلة، وبدون مقدمات كان علينا أن نسترد حقيبتنا ونذهب. لقد أخرجتنا العودة من أندلسيتنا في حين أننا لم نجد الأندلس بعدُ".
في حين يقول حسن خضر في شهادة بعنوان
"هل كنت هنا ؟": "لا توجد إمكانية لإعادة إنتاج الوطن كفردوس مفقود. الوطن بين اليدين ، مفتت ومشوّه وينتظر الخلاص".وهكذا تتلاشى رويدا رويدا صورة الأرض الموعودة تحت الضربات المتتالية للإحباط السياسي العربي والفلسطيني.
لقد انطلق الأدب بعد النكبة بقليل في عملية أسطرة لفلسطين ما قبل النكبة، أسطرة غيبت الكثير من العناصر المؤسسة لوعي سليم قادر على صياغة صورة حقيقية للواقع والمستقبل. ثم أدى السقوط السياسي المستمر إلى زلزال أودى بالرموز الهشّة المؤسسة لذاك الوعي حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه. لا شك بالطبع أن لشراسة العدو، ولتهاون الأنظمة العربية وديماغوجيتها دورا كبيرا في عدم استقرار الأرض تحت الشعب الفلسطيني وفي حجزه في موقف ماضوي وفي منعه من خلق رموزه الهووية الثابتة.
يقول إميل حبيبي في "المتشائل" بلغته المتهكمة الجزلة "إن العرب خضعوا لجميع الغزاة منذ زمن السلاجقة مرورا بالصليبيين وهولاكو والعثمانيين. وهم يخضعون الآن للغزاة الأوروبيين القادمين باسم التوراة، غير أنهم لا يفتؤون يتغنون بانتصاراتهم متقوقعين ضمن شرنقة اللغة والشعارات الجوفاء والتراث والإيديولوجيا ينتظرون مخلصا فضائيا، مهديا آت لإنقاذهم."
وهنا يكمن السؤال الذي لا بد لنا من طرحه:
أليس للثقافة المنتجة عربيا وفلسطينيا مسؤوليةٌ كبيرة في كل ذلك أيضا ؟
أليس من أسباب هزيمتنا أن أسطرتنا للمكان تُفتتح ب "كانت لنا من زمان" في حين أن فاتحة أسطرة عدونا للمكان ذاته تحيته "العام القادم في القدس" ؟
أنا لا أقدم خطابا، أنا أطرح سؤالا فقط.
08-أيار-2021
15-نيسان-2012 | |
13-آذار-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |