شعر أديب كمال الدين بين الوجودية و التصوف – 1
خاص ألف
2012-06-23
• الوجودية و التصوف
لا تندرج تجربة أديب كمال الدين في عداد الحداثة المزيفة أو القصيدة – الصدى، غير المبتكرة، التي تستعير ثيابها من خزانة شعراء آخرين.
إنها تجربة أصيلة فقط لأنها تضع يدها على جرح ينزف، و همّ أسود معطوب استطاع مواكبة كل بكائيات و أحزان هذه المرحلة المأسوف عليها. و استعمل لتحقيق ذلك أهم نغمات اللوعة و الندم و التي وظفها الفن على نطاق واسع ، و أقصد بذلك: الزهد و التصوف من طرف، و القلق و الضياع الوجودي من طرف آخر.
و إذا كانت توجد عدة نسخ من الوجودية ، فهي ملتبسة اليوم مع فلسفة اللامنتمي و كل أشكال ردود الفعل على الحرب العالمية المدمرة و على الاغتراب القسري الذي فرضته آليات إنتاج ثقيلة يبدو الإنسان الأعزل بالمقارنة معها مجرد صدى ضعيف لمخيلته.
و أعتقد أن حالة الاستنفار، التي تعيش في ظلها هذه المنطقة منذ حرب عام 1948 و حتى اللحظة الراهنة، قد مهدت الطريق لدخول أطروحات وجودية، كانت الغاية منها استيعاب حالة الشك بالمنهج.
و هذه هي حلقة الارتباط. أو بلغة فوكو نقطة تمفصل الخطاب.
لقد كانت الغاية هي التعبير عن الغموض الذي يكتنف جميع الأدوات، و عن الحقيقة المؤلمة التي كشفت عن عدم التطابق بين الافتراض و البراهين ( بصيغة الجمع). هذا لو سلمنا جدلا أنه يوجد برهان منطقي واحد.
لقد كان تفسير الواقع ينم عن قدرات على التخيل الوهمي من دون أسانيد. و كأن نشاط الذهن هو حكر فقط على تجربة المشاعر أو لنقل على تجربة لا تفهم قوانينها.
و من هذا الباب دخلت أيضا الأطروحات الصوفية، و التي حاولت أن تبذ الوجودية في تفكيك أدوات الواقع الغامض. و كانت بنسخها المتعددة غير بعيدة عن نفس الالتباس الاجتماع – سياسي الذي وقعت فيه الوجودية. لم يكن من أولوياتها أن تكون انقلابية و ضد الواقع. و لكن حاولت قدر الإمكان أن تفرض على الرموز الأصيلة، و التي لها منشأ حضاري يتحرك من ضمن أدوات التواصل الشعبية، فواصل معرفتها. و هذا يعني أن تفرض على طبيعة الأدوات المستخدمة حقائق الاغتراب المؤلم. و منها عناصر لها علاقة بالحقبة أو بفترة من التاريخ. مثلا أن يترافق الحصار العسكري المفروض على عاصمة الرشيد بـ ( غروب أثقل من الحجر ) كما في قصيدة دراهم كلكامش.
و منها عناصر لها علاقة بالملابسات أو ظروف المجتمع كالظروف الربوية التي تحول الإنسان الطيب و الوديع إلى ( مقاتل مجنون ) كما ورد في قصيدة قطارات سيدني.
و لذلك إن الخط، الذي له جذور شعبية، أصبح أصيلا في ذهن النخبة. و من هذه النقطة تضاعفت المشكلة. لقد تحولت من خطاب تأليب و تحميس ( و هذا يمكن تسجيله في حالة فردية هي قصيدته سلاما عمان ) إلى خطاب اعتزال و انتخاب. و تحولت القيمة الاجتماعية للزهد و التقشف و بكل ما تعنيه من إمكانيات مفتوحة لتشكيل بذور للعصيان المدني و لتكوين المجتمع الكونتون أو مجتمع الجيوب، مجتمع القلعة المرعبة ذات بوابات الحديد السميكة ( كما في بيت المعنى ) إلى قيمة شعرية و قيمة - ذات انحصر دورها في ترويض هذه الذات على الموضوعات المدهشة، و على عناصر الرعب و الفراغ التي بدأت تنخر بالضمير الصناعي للحضارة الحديثة ( و هو ما يشرحه بأقل ما يمكن من الرموز و الزخارف في قطارات سيدني و كأنه يكتب خاطرة ) حيث يقول:
كان الموتى في قطارات سيدني
يتأملون المشهد بانضباط تام
و هم يتنفسون بصعوبة.
كم في هذا المقطع من استعارات ترجم الواقع الميت و الجحود. الواقع الذي يكون فيه الإنسان ميتا، من غير إرادة، و أيضا من غير قدرة على الانفصال عن حالة الركود و العطالة. و كأن العبارة تلخص جوهرة فكرة ( نهاية التاريخ و موت الإنسان ) كما أنهك فوكوياما نفسه في تثبيتها.
و هذا يعني بالضرورة أن الموقف من عموم الواقع، بما فيه السياسي، انتقل لموقف من انعكاس شمولية عالم المادة إلى فروض و طاعات خصوصية الذات، و من جوانبها السرية المبطنة و العسيرة على التأويل أو التواصل.
و لذلك يمكن القول: إن التصوف المعاصر في حقيقته هو موقف من خبرات الذات غير الواضحة، و التي تحتاج لتأويل بنظر الموجود، أو بلغة عربية مختصرة و مباشرة: هو مجرد شكوى إضافية من الظروف الشخصية لتجارب الشخص المفرد ضد عبثية وجوده، و ضد فوضى تاريخه المفروض عليه عنوة و قسرا.
و هكذا يصبح هذا التصوف شكلا غير مسؤول و غير قانوني من أشكال الوجودية و احتجاجها على مسارها.
• المعنى النفسي لحرف النون
على الأرجح إن فكرة التصوف عند العرب و غيرهم تعزو للحروف و للأسماء القيمة الإعجازية نفسها التي يمكن أن نعزوها للرموز. و هذا واضح كالشمس المشرقة في تجربة الشاعر أديب كمال الدين و في مجموعاته المتتالية التي حملت في عنوانها اسم - حرف واحد مثل : جيم، حاء، ميم...
لقد بذل أديب كمال الدين عصارة روحه في حب الحروف و التكهن بمعاني صورها، كما فعل أبو الوجودية هيدجر، و إلى حد أبسط كما فعل الشاعر الشاب الأمريكي شاد دافيدسون . لقد كان يبحث في خصوص الحالة الاجتماعية عن مطلق المعنى الموازي للحرف المناسب.
لقد كان الإنسان، عموما، من بين جميع المخلوقات هو الأقرب لصناعة الحروف. هذا إذا استثنينا قدرة كل المخلوفات على إنتاج أصوات ذات معنى مخصص. فقد امتلك الإنسان زمام القدرات الخاصة للمنطق و الفهم ثم العقل و التفسير. بمعنى أن الحروف عند أهل الكلام هي غيرها عند أهل المنطق. إنها ذات قيمة روحية و وجدانية صرفة، تدل على الطاقة التي تأهل بها الإنسان، و هذا قد لا يتفق مع القيمة المعرفية و العملية.
إن التفكير ضمن دائرة الروح و ما تتصف به من إمكانيات ميتافيزيائية تضع الفعل في خدمتها و ليس العكس قد لا تتوافق مع ما يتوصل له علماء المنطق من دور واقعي نربط به اللغة و بالأخص وظيفتها.
و إنه بتحرير الحرف و الكلمة، و أخص هنا الأسماء سواء هي لبدايات أو لذات نشاط مركب و معقد، يمكن أن نعزو لها وظيفتها الجمالية.
و دائما بوسعنا تقسيم هذه الجماليات غير المتفق عليها إلى سياقين:
- منطوق. و هو التنغيم و الشدو و الذي يؤثر بحاسة السمع.
- ثم مكتوب و هو كل ما يؤثر بحاسة البصر. حتى أنه أحيانا يخلق لدى المشاهد بعض المؤثرات الفانتازية أو لنقل المؤثرات الخاصة المفتوحة على عدة احتمالات.
و من هذا الباب يدخل جميع نشاط المتصوفة. إنه يستند أساسا على المعنى الرمزي لفضل قيمة الحرف كدال. و كأنه نشاط اقتصاد جباية. و أرى من واجبي التنويه إلى تحقيب هذه الظاهرة. و النظر لها في نطاق حقيقتها التاريخية. و لا سيما أن الحروف مرت في معراج درامي خاص، معراج متطور من غرافيم متشابه إلى حرف له معنى مادي شديد التخصيص و منفصل عن ظاهرته الصوتية كنقطة. أو كصفر كما يقول الألسنيون. ثم أخيرا كحرف منقوط و مشكول. و هذا حصل في وقت متأخر من التطور الألسني للغة الضاد.
و إن دراما الحروف تفترض وجود دورة حياة خاصة بها. أدت فيما بعد لوفاة بل لموت و اندثار الجذر الأصلي سواء بدلالته الإثنوغرافية أو حتى بفانتازيا معراجه من المتأخر للمتقدم، من المجتمع الرعوي و الزراعي حتى المجتمع الصناعي التابع لأساليب الإنتاج و لنشاط رأس المال.
و لئن لم يكن هذا في ذهن أديب كمال الدين حينما نعى حروفه و بكاها في أجمل الرثائيات المعاصرة، حيث كان رثاؤه مرفوعا لمن أصبح بين يدي الحضرة الإلهية، و هذا في قصيدته ( جاء نوح و مضى ) حيث يقول : ستموت الآن
أعرف يا صديقي الحرف أنك ستموت الآن.
هذا لا ينفي أن اللاشعور الجمعي ترك في أسفل خبراته قناعة خاصة أن الحرف كائن حي، يولد معنا، و يموت فينا، و له سيرورة. و ربما أحيانا نستطيع أن نتخيل له بيوغرافيا أو CV، و هذه قناعة مؤكدة عند شاد دافيدسون الذي رأى أن الحرف عبارة عن تاريخ حي. أو أنه أقلها دليل سياحي يرشدنا لنقاط الإضاءة في تاريخ الحضارات الميتة. كما في قصيدته عن حرف الألف الشمولي و الدكتاتوري الذي يحجب بغيومه الياء المعقوفة e و الواو المقعرة o و الراء الغامضة r ( قصيدتان للشاعر شاد دافيدسون، بترجمة لصالح الرزوق. منشورة في موقع مجلة ألف . 22 نيسان 2008 ).
و هذا دليل آخر أن للحروف ما يقول عنه فوكو القدرة على التمثيل المضاعف: التعبير عن البنية. ثم كشف الغطاء عن خصوصيات الخطاب أو سياقاته المحددة.
و هكذا يمكن لنا أن نخرج من مضمار المعرفة المشروطة لمضمار المعرفة الدلالية.
و أستطيع ضمن إطار هذا المنطق وحده أن أنظر لمعنى حرف النون.
أولا إنه ينتمي إلى لغة ذات ارتباطات نوعية يتوارثها العقل المعرفي للشعب و روح أو وجدان الحضارة بنفس الشروط التي يتوارث بها الجينات المحددة للشكل و اللون و المؤهلات الأخرى. و هذا يعني ضمنا إنه حرف غير عالمي. حرف له حدوده. بعبارة أخرى إنه مخلوق، و بالضرورة لا يتصل بالحالة الوجودية للماهية التي هي من خصائص الله.
و لكن هذا لا ينسف الأساس الجمالي لفكرة التصوف و كونية المعارف.
فالتصوف يقدم أطروحة إعجازية و أخاذة للاتصال مع الخالق الواحد، و مع جوهر فكرة العلاقة بين الخالق و الموجودات. و يفترض القدرة على التأثير بحاسة السمع و البصر من غير شروط اجتماع - سياسية مسبقة كما رأينا في نظرية غارودي عن علم الجمال الماركسي.
و لذلك يمكن أن تتقاطع هنا أساليب الحرف القوطي التي أسرفت منذ البداية في التفنن و الزخرفة و إضافة طرق الحفر بما يشبه برعما أوشك على التفتح، أو نفسا منطوية و معقدة و أشرفت على الإنبساط، مع الحرف التصوفي الذي يعزو لكل خط و كل صوت قيمة أسرارية، قيمة – انتباه و تيقظ، مثقلة بخشية الله و بعجائب اللامتناهي و بقدرة المجتمع على نشر الذعر في النفوس.
لا شك أن لحرف النون عدة فضائل و هي فضائل مدهشة. و لكن لا نستطيع أن نقول إن تفسير المتصوفة له هو مطلق تفسير معنى النون على امتداد تاريخه. فأصل هذا الحرف باللغة العربية غير منقوط. و هذا يضرب الافتراض التصوفي لابن عربي و سواه في مفصل حساس. و لكنه في نفس الوقت يدعم الأطروحة من زاوية أنها تعكس نوعا من الدراما الاجتماعية. فإضافة النقطة يضع الحرف في موقع العاجز و الذي يحتاج لمساعدة، لإشارة، لنوع من الفيتامينات أو الدعم لرفع معنوياته. و هكذا يسهل على الإنسان التعرف عليه.
و هذا ليس حال الميم مثلا. لقد اختار أديب كمال الدين الميم ليكون حرف موته ( قصيدة موت المعنى ) ، و ليكون رمزا لموت الماضي السحيق ( قصيدة ماضي المعنى ) ، و ليكون أخيرا زهرة بمجرد أن تتفتح تطير منها الأعاجيب ( قصيدة طلسم ) . فالميم حرف دائري مغلق. حرف لا يريد أن يتطور.
إن المقارنة بين النون و الميم ليس مسألة اعتباطية. فكلاهما حرف مضاعف و متكرر و نلفظه بتكرار صوته مع إضافة حرف علة، مقابل حروف أخرى مختلطة كالدال التي تلفظ بإضافة حرف اللام، أو الجيم التي تلفظ بإضافة حرف الميم ذاته، و تكتب بإضافة نقطة.
و إن هذه الصفات الخاصة لحرف النون تؤهله لأن يكون موضوعا شعريا. أو مخلوقا ألسنيا لديه أسراره و مناقبه. و لذلك يمكن أن يحتمل ألعابنا اللغوية و أخيلتنا بنقطته و بدائرته المفتوحة، بصورته الأصلية التي كانت عمياء من غير تنقيط.
و قد فعل ذلك على أكمل صورة و بأتم وجه من خلال تركيبه لشخصيات مأزومة ( كما قالت حياة الخياري في كتابها أضف نونا )، حيث أنه أكد على وظيفة التعالي على الواقع المتدهور و ليس بدق طبول الحرب ضده ( ص 77 ). و هي شخصيات كانت في جوهرها أقرب للبطل الوجودي من ملامح النبي، المختار حامل الرسالة ( ص 77 أيضا).
المصادر : مثبتة في نهاية القسم الثاني و الأخير من هذه المقالة.
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |