عودة دافيد
خاص ألف
2012-07-29
اتصلت بي رجاء وأخبرتني عن قرب موعد وصول دافيد.
و لمن لا يعرف الموضوع هذا اسم موظفة. بالمؤنث. وتعمل في القنصلية ومرت عليها في العمل بيننا فترة تبلغ حوالي عشرة أعوام. وقبل أن تسافر لبلادها تقدمت بطلب الجنسية.
كم أدهشتني حين سمعت منها ذلك. قلت لها: والله هذه نكتة. من يختار أن ينتمي لبلد يعيش في ظل جو حالك. معظم التوقعات تترك لنا فرصة عام أو إثنين على الأكثر قبل أن ندخل في مرحلة من الفوضى والغموض الدامس.
هل هناك من يوافقني على هذا التشبيه؟. أن الفوضى مثل الظلام. ولا حكمة من ورائه غير التخبط واقتراف الأخطاء.
ثم أخبرتها أن أمنيتي بالعكس. أن أهاجر لبلادهم. ولو تحقق هذا المستحيل سوف تنتابني الغبطة التي تحدث عنها الإنجيل.
بعد ذلك سألتها : هل قرأت الإنجيل بشكل جيد؟.
لم ترد، ورأيت التحفز وهو يرتسم على ملامح وجهها. وكانت هذه هي طريقتها بالإيجاب. بمعنى نعم. اطلعت عليه. وهنا أضفت: لو حصل ذلك تخيلي الحرية التي تشبه الخلاص وتكسير القيود التي تغل يدي لعنقي. وتوقفت قليلا، وأنا أفكر: منذ سنوات وأنا أشاهد أضواء المنارة وهي تشرق على ضفاف العالم. وكل ما أحتاج إليه قارب من مطاط. ولو بلا مجاذيف. ثم خطر لي أن أسألها مجددا: هل تفهم مغزى ما أقول. معنى أن تكون اليد مغلولة. ولكن تجاوزت هذه الفكرة. فهي إن اطلعت على الإنجيل لن تتوفر لها نفس الفرصة مع باقي الكتب المقدسة. ولذلك تابعت من حيث وصلت، وقلت: ستكون مشاعري مثل الحالة النفسية لأول رائد فضاء هبط على سطح القمر.
و هنا ردت بكل بساطة: هذه هي المشكلة. الإنسان كائن ضعيف، ودائما يرفض الوفرة المتاحة له، ويبحث عن الفرص النادرة.
**
لم أفهم لماذا سافرت دافيد بهذه العطلة المفاجئة. فهي من النوع الذي يرتاح بالعمل. ولو أمكن ربما حولت مكتبها لبيت أو معسكر. كذلك لم أفهم السر الكامن في اسمها، وإن كانت تعتز به. لماذا تطلق عائلة على ابنة لطيفة ورقيقة مثل هذا الاسم الشاذ. ولما سألت رجاء قالت: هذا مجرد لقب يا ذكي. ومعناه بالعبرية " محبوبة".
سألتها أيضا: ولماذا تركتنا محبوبة بلا وداع...
و كان الجواب جاهزا. قالت: : لتشترك بجنازة أمها.
تساءلت بسري: وهل يوجد لدافيد أم على قيد الحياة.
كانت بنظري أشبه بنقطة النهاية. عبارة عن خاتمة. ستار أخير ولا يوجد بعده شيء. وهكذا قلت لرجاء: لا بد أن المرحومة امرأة مسنة. وأن جرح هذا الموت غير عميق.
فقالت فورا: غلط. بل هي بعمرها تقريبا. لأن عائلة دافيد ماتت في حادث. وعاشت هي لوحدها في بيت رعاية. وفيه تعرفت على بنت من جيلها. وكانت تلعب معها لعبة الأم والابنة.
ثم نظرت لي كأنها تعاتبني، وأضافت : أنت لا تفهم دافيد. وعلى ما يبدو أنت لا تفهم شيئا عن النساء. تتعامل مع المرأة باعتبار أنها لغز، وهي في الحقيقة واضحة مثل النار.
لماذا هذا التشبيه العنيف. لماذا لا تكون واضحة مثل ماء سلسبيل. لماذا لا تكون بسيطة مثل أشجار الغابة في الليل.
لم أحاول في هذه المرة أن أسأل حتى لا أحمل أوزار تفسير خاطئ آخر.
**
لم تصل دافيد في الموعد المحدد. وعلاوة على ذلك كانت السماء مثقلة بغيوم نسميها الوعد الكاذب. لأنها لا تتحرك، وتكون مضغوطة ولا تمطر. وترك ذلك في رأسي أكثر من إشارة تعجب. كيف يمكن لدافيد أن تضحي بميولها للمشرق.
كانت ترى أن الشرق مهم للحياة لأنه يرتبط بلحظة الاستيقاظ، وبخروج الشمس من خدرها. أليست هذه أوهام شعراء وخيالات رومنسيين.
متى آخر مرة وقفنا فيها بين أحضان الطبيعة لنراقب خيوط الشمسس الذهبية. بل كم عدد من يستعمل هنا أسلوب التدفئة بطاقة الشمس. وكنت أقول لها دائما: أنت في هذه البلاد مثل الدواء المسكن. تساعدين على النوم وربما على التمني. ولكن ليس العلاج.
**
لدى العودة للقنصلية من المطار كانت بلا موظفين لأن الدوام انتهى. وحتى الحارس المتخلف عقليا كما نقول جلس أمام الباب على كرسي من الخيزران، وهو في حالة تبلد، وكانت نوافذ نصف الغرف مقفلة لدواعي الاحتياط، والنصف الآخر من غير إضاءة للتوفير.
قلت بلسان حالي: يا للغرابة. لم تشرق أنوار القنصلية على هذا البلد، وبالعكس أخذت منه عدوى الكسل والتأخر.
و هنا خطر لي أن أمر بمكتب دافيد..
كان الباب مفتوحا .. المنضدة عزلاء من غير أدوات، منضدة مجدبة. صماء. كأنها ندبة تدل على جرح لا يندمل.
ترى هل ستعود عما قريب ؟.....
تشرين الثاني 2011
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |