فصل من كتاب سيرة كاتب و مدينة
خاص ألف
2012-08-10
البدايات
- نبدأ من مسقط الرأس والفترة الزمنية. فالفن حكاية. ويجوز عليها ما يجوز على كل الظواهر التي تلعب بالتاريخ. الأنغلوساكسون الذين انتشروا في ربع أرجاء المعمورة وتركوا إرثا عرقيا ولغويا في ثلاث قارات يقولون هذا manipulation. فلنركب آلة الزمن ولنتقدم بالعكس ونحو البدايات. ما هو تاريخ ومكان الولادة. وما هي الظروف الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة يومذاك..
- ولدت في مدينة بعقوبة مركز محافظة ديالى العراقية عام 1954 حسب الوثائق الرسمية التي أحتفظ بها حتى يومنا هذا، ولكن على وفق ذاكرة والدي ــ وهو عسكرى مخضرم خاض غمار الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948 ــ فإنني ولدت عام 1952 ذلك لأنه لم يكن راغبا في دفعي مبكرا إلى أوار حرب تنبأ بوقوعها بين قوات الحكومة، وبين مليشيا الملا مصطفى البرزاني في شمال العراق على أمل أن تضع أوزارها قبل عام السوق إلى الخدمة الإلزامية.
- أين شارك بالقتال وبأية صفة. وكيف تصف شخصيته. من كان آمر فوجه العسكري. كيف دخل إلى فلسطين. وما مصير ذلك الفوج. هل من تفاصيل؟..
- أنت تعرف أن المنفذ المثالي للجيش العراقي هو الأردن. كان والدي يحمل رتبة رأس عرفاء وكانت والدتي تقول عنه إنه آمر فوج ولا أعرف مدى دقة هذا الكلام. لم يحدثنا يوما عن بطولات الجيش وعندما نسأله عن صورة له وهو يرتدي البزة العسكرية الأردنية يكتفي بالقول إنها صورت إبّان حرب 1948 في الأردن. ثمة سر لم يشأ التحدث عنه. وكانت رغبته شديدة في أن لا أزج بأي حرب محلية أو دولية.
- من المؤكد أنه لم يمت بالسيف. كيف كانت نهايته ومتى. ما الأسباب المباشرة. وماذا عن الوالدة. متى وكيف توفيت. أرى أنك لا توفر مناسبة في أعمالك دون أن تفتح موضوع الموت.
- مات بالجلطة الدماغية. كان ذلك إبّان الحرب العراقية الإيرانية عندما وصله خبر مقتل ابنه الأصغر على جبل ماوت سقط مغميا عليه. نقل إلى المستشفى وبدأ الاطباء بمعاجة البروستات ولم يفطنوا إلى وجود جلطة دماغية. بعد تسع وثلاثين يوما عدت بإجازة من جبهة القتال لحضور أربعينية شقيقي الصغير فوجدت أن مجلس الفاتحة كان قد نصب من أجل والدي الذي فارق الحياة في مستشفى اليرموك ببغداد. لا أحد يعرف أين الوالدة أهي متوفاة أم على قيد الحياة كانت في أيامها الأخيرة بنصف ذاكرة وفي إحدى الأيام أخذتها شقيقتي الصغرى إلى العلاج ولم يعودا ثانية. عمل أخي المستحيل للعثور عليها ولم ينجح. أغلب الظن أن جسدهما تمزق إربا بانفجار من انفجارات بغداد.
- تحدث فوكو عن المقابر باعتبار أنها جزء من الحياة المعمارية والطبيعية. كانت المقابر أول الأمر ملحقة بحدائق البيوت. ثم أخذت شكل الحجر الصحي لأن الأموات ينقلون الأوبئة. وهكذا أصبح لكل تجمع سكاني مدينة أموات خاصة به. كيف حال المقابر في بعقوبة. هل هي قاحلة أم أنها خضراء.
- في بعقوبة مقبرتان إحداهما للسنة وتقع على ضفة خريسان وتسمى مقبرة (أبو إدريس) وهي مقبرة مشيدة على كتف البساتين قبل أن تمتد البيوت إليها. يتقدمها ضريح المعلم البعقوبي (أبو إدريس). والمقبرة الأخرى تقع على ضفة نهر ديالى وتسمى مقبرة (الشريف الرضي) مشيدة في منطقة قاحلة قبل أن تمتد البيوت إليها.
- كيف ترسم لنا المشهد الطبيعي في بعقوبة خلال تلك الفترة.
- بيوتها شرقية التصميم لا تتقدمها حديقة منزلية فبابها الخارجي متصل بداخل المنزل بشكل مباشر أو عن طريق ممر قصير (مجاز) يؤدي إلى باحة الدار المربعة في أغلب تلك البيوت. أما غرفها فإنها تحيط الباحة من جهتين على أقل تقدير. تغلب عليها البساطة وعلى أثاثها وأسرتها المصنوعة من سعف النخيل. في كل بيت ترى شجرة برتقال أو ليمون وربما نخلة أيضا تبدو للقادم الغريب وكانها ريف أخضر. في الشتاء القارص البرد ينحشر الكل في تلك الغرف وفي الصيف القائظ ينام الكل فوق سطوح المنازل.
- هل هناك مساقط مياه أو أنهار. فالمنطقة هي بلاد وادي الرافدين. وأتوقع مرور أنهار ولو ثانوية. كان مسقط رأسي في بلدة تادف وكان نهر الذهب الذي ينبع من تركيا يقسمها لنصفين.. شرقية شديدة المحافظة وغربية قريبة من خطوط المواصلات ومنفتحة على العالم قليلا. ومن المعروف أيضا أن أكبر تجمع يهودي كان في تلك القرية. ولا يزال قبر العزير وهيكله يشهدان على ذلك. ولكن بعد أحداث 1948 فر كل اليهود، ولم يتبق أحد. ولم يهربوا خوفا من الانتقام ولكن بحثا عن السعادة في اليوتوبيا التي بشرهم السياسيون بها. كيف ترسم بعقوبة ؟..
- تقع المدينة إلى شمال شرق بغداد العاصمة بمسافة 60 كم. كانت جنة خضراء بناها الآراميون وسط بساتين البرتقال. وصفها ياقوت الحموي في كتابه (معجم البلدان) مبديا إعجابه بأرضها الخضراء وببساتينها اليانعة. وقد وهبتها الطبيعة نهرين: الصغير منهما (خريسان) يمر على منتصفها تماماً فيشطرها شطرين: الأيمن منهما كان مخصصا للمباني الحكومية (متصرفية اللواء، ودار المحكمة، وبيوت الموظفين)، بينما تنتشرعلى جانبها الأيسر بيوت عامة أهلها الأصلاء. معظم بساتين بعقوبة كانت تروى من ماء خريسان. أما ديالى فهو نهر كبير يمتد على جانبها الشرقي. وتسور ضفتيه البساتين أيضا. وبعد ازدحام المدينة بالناس توسعت رقعتها فشيّد الناس بيوتا على الطراز الغربي في جانب ديالى الأيمن حتى صار النهر فيما بعد يشطر بعقوبة إلى شطرين أطلق على الأول اسم بعقوبة القديمة، وعلى الثاني اسم بعقوبة الجديدة. ولأن نهر ديالى يروي ماؤه العذب مساحات شاسعة من الأراضي فقد أخذ اللواء اسمه الرسمي من اسم هذا النهر العظيم (لواء ديالى).
هذه الجنة الخضراء داستها سنابك المارينز عام 2003، فأحالتها إلى رماد، وامتدت إليها أصابع الجوار فأغلقت روافد ومنابع أنهارها: ديالى، وخريسان، والوند لتترك بساتينها تحت رحمة الجفاف..
- هل من علامات أخرى في الذاكرة؟..
- نعم . لم تكن أجهزة الراديو منتشرة في بيوتها يومذاك. فلا أحد يعرف ماذا يحدث أو يدور في أروقة الحكومة الملكية سوى ما يتناقله بعض كبار السن ــ من أخبار الملك ــ في المقاهي المنتشرة داخل سوق بعقوبة. الراديو الوحيد الذي دخل حارتنا وهو عبارة عن صندوق كبير وأنيق، وعلى وجهه أكرتان لتدوير المحطات اقتناه والدي خصيصا لمعرفة الأخبار أولا بأول ومن دون عناء ارتياد المقهى. كنا نصغي بإعجاب لصوت صفير (بلبل الاذاعة) لحظة بدء بثها الصباحي. لم يكن الراديو قطعة أثاث عادية كباقي قطع الأثاث. ولهذا وضع فوق رف عال نسبيا كي لا يطاله عبث الصغار.
- كنا نقول عن هذه الأجهزة راديو المياه. بمعنى أن بطاريته تعمل بطاقة سائلة وليس مثل البطاريات الجافة اليوم. وكم هو راديو أبيض وأنيق .. كالعروس. وكانت راديو دمشق تقدم تمثيليات إذاعية، سواء أعمال دراما أو أعمال للتوعية، مثل العدالة والقانون. وفكرتها تقوم على تقديم مجرم للمحاكمة ثم استجوابه ومحاكمته في جلسة علنية. وكنت أحيانا أستمع لتمثيليات إذاعية في راديو بغداد ( ولكن هذا في السبعينات ) ومنها تمثيلية بعنوان ( آسف الرقم غلط )، وقد نشرتها فيما بعد مجلة فنون. ألم تترك مثل هذه الأعمال أثرا في ذهنك حين بدأت بالكتابة..
- كان ثمة برنامج مثير في راديو بغداد ذلك الزمان عنوانه (من حياتي). البرنامج أسبوعي ننتظره بفارغ الصبر بشكل عائلي..عادة يبدأ مقدم البرنامج بالإشارة إلى مرسل القصة مرموزا له بحرف من حروف الهجاء ثم يذكر عنوانه ليتأكد لنا أن القصة حقيقية فعلا. بعد عدد من السنين التقيت بالفنان الكبير شكري العقيدي ــ وهو واحد من المساهمين في هذا البرنامج ــ وجهت له السؤال عما إذا كانت تلك القصص حقيقية فعلا فأجاب إنها معدة بطريقة استيهامية تجعل الحدث يبدو كما لو أنه حقيقي. أدهشتني هذه الحيلة التقنية التي تحولت إلى درس من دروس الكتابة. ثمة برنامج آخر تحت عنوان (براعم في الطريق) أرسلت له قصيدة شعرية مقفاة إبان دراستي في المرحلة المتوسطة، وكانت دهشتي كبيرة وأنا أستمع إليها وإلى اسمي منطوقا على لسان مقدم البرنامج. لقد ترك ذلك أثرا كبيرا في حياتي الادبية إذ جعلني أشعر بالمزيد من الثقة.
- ماذا عن العائلة. الحاضن لمجموعة الآمال والطموحات. هل كانت في عداد دائرة المثقفين. هل كانت العلاقة مع فروع العائلة الأخرى حميمة. بمعنى هل تسودها روح العشيرة أو الأسرة الكبيرة أم أنها عائلة من نمط بورجوازي صغير يخترع ملحمته الخاصة به ويتجه من المشرق على متن مركب محلي نحو غرب العالم.
- كان أبي كما أسلفت عسكريا مخضرماً. أما والدتي فهي امرأة ذات جذور جنوبية صرف. قصيرة ونحيلة وذكية بما يكفي لتمييزها بين نساء المحلة المتعلمات. والدها ــ ذو البشرة السمراء الداكنة والقامة المائلة إلى القصرــ قدم من جنوب العراق إلى وسطه ليقترن بأول امرأة شاكسها فنهرته بشدة. كانت فارعة الطول، ذات أصول تركية، وبشرة بيضاء. لا أعرف ما الذي جمع الكل في بعقوبة فوالدي هو الآخر جاء من مدينة الحلة ليسكن بعقوبة، وليقترن بوالدتي السمراء التي تصغره كثيرا.. لم تكن جدتي (لأمي) ذات الأصول التركية لتتخلى عن عنجهيتها ورغبتها في السيطرة على عائلتها التي انشطرت إلى ثلاث بعد أن تزوج خالي ذو الميول الفنية ووالدتي ذات الميول المعرفية، وليعيش الكل في منزل الأسرة الأم وليبدأوا الإنجاب بلا توقف وبلا محددات أو موانع من أي نوع. كنت الثالث في قائمة الأبناء التي استطالت فضمت ستة أولاد وست بنات. وكان من الصعب أن تحدد طموحك وسط هذا الزحام ولكن ما لفت انتباهي أن شقيقي الأكبر كان يكتب شعرا غنائيا، ويلقيه على مسامع والدينا فيحصل منهما على الثناء والتشجيع. لقد كان هذا بمثابة الحافز الأول الذي ألقى بي من حيث لم أحتسب إلى عالم الشعر، والقوافي، والأوزان. لقد بدأت رحلة كتابة الشعر منذ ذلك الوقت المبكر من حياتي الأدبية يوم كنت طالبا في السنة الأخيرة من الدراسة الابتدائية. ولعل أبرز ما حدث بعد ذلك هو دخولي إلى مسابقة مديرية تربية اللواء وأنا في الأول المتوسط، وفوزي بالجائزة الثانية بعد الطالب القادم من دار المعلمين.
- أنت محظوظ. لأن والدي كان محبا للثقافة، مع ميول للخطابة وجوع لا يشبع للتسلط. ومن سخرية الأقدار أن أحد أول أدباء مدينة حلب الذين تعرفت عليهم بوقت مبكر وهو الشاعر المعروف سعيد رجو مؤلف سبع أو ثماني مجموعات شعرية، الله أعلم، كان شيوعيا من نفس مسقط رأسي. وكان يقول عن والدي إنه مزهو بنفسه لدرجة منفرة. على أية حال لقد توفي الآن بعد معاناة مع السرطان لعشر سنوات. ولم يتبق منه غير صورته وقبره المتواضع.
كتاب قيد الطبع يصدر قريبا عن دار مجلة ألف
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |