من مجوعة قصص قيد الطبع / ورشة أرتين
خاص ألف
2012-09-02
لم أتحمس لدعوة أرتين في هذه الظروف. مع أنه أرمني، ويستعد للسفر إلى فنزويلا، لا يمكن، في وقت متأخر من الليل، أن تعرف السلطات لماذا أبتعد عن الأحياء المأهولة.
ثم كان الاتفاق أن أكون هناك قبل العاشرة، ولكن الوقت داهمني دون أن أنتبه، ولم أصل حتى منتصف الليل.
كانت ورشة أرتين، وهذا هو أدق تعبير لوصف مطبعته التي تعمل بطريقة الماكينة القديمة، بحروف الرصاص المصنفة بين المواد السامة وبأسلوب الصف اليدوي، في منطقة بعيدة عن العمران. ولنقل إنها كانت أقرب للجزء الميت من المدينة. عند المقابر. و بعد ذلك توجد أرض بور و أشجار سوداء، قد تكون جزءا من خميلة تعرضت للهلاك. أليس هذا غريبا.. أن يتآخى الإنسان بالموت مع الطبيعة. أن تتحول هذه الضاحية لنقطة فراق..
لا تعرف مطبعة أرتين الأوفست ولا حتى البلاكات أو الكومبيوتر، وكان قرار إغلاقها، يقول عنه التوقف المؤقت، على سبيل المجاز، هو الحل الوحيد لإنقاذ مركبه الذي يغرق. بسهولة يمكن النظر لحياة أرتين في هذه البلاد على أنها صدفة. حيث لا يوجد ما يربطه بهذه الأرض غير العاطفة والذكريات.
لم يكن أرتين وحده. رأيت معه رجلا غريبا يرتدي السروال وقميصا بشيالات ويساعده برص الحروف.
قلت له: لماذا لا تعرّفني، يا بارون أرتين، على هذا الجنتلمان.
ابتسم من وراء شاربه الأرمني الغزير، والذي يذكرك بشوارب ستالين، مع الاحتفاظ بالفارق بخصوص ما تبقى، أقصد القوام وتصفيفة الشعر وحتى الحركات المتهاودة التي تضعه في زمرة لاعبي الجمباز، ورد يقول: لم أكن أعلم أنك حيوان اجتماعي حتى هذه اللحظة..
و لم أحب هذه الطرفة. الواقع أنها فاجأتني. كان أرتين بطبعه لطيفا ويقيس كلماته في الحياة العامة بالمسطرة والفرجار، شأنه بذلك شأن الأقليات الأخرى. أضف لما سبق ظروف حياته المأساوية، فقد تركت على شخصيته علامات الطابع النمطي. أخلاق إنسان الغيتو الملتزم بأثقال الصخرة التي يحملها على ظهره.
كنت أعلم أن زوجته العربية المسيحية توفيت بداء عضال. ولم أفلح في اختراع تعريف لهذا الاسم العريض. ومهما ضغطت عليه لم أصل لجواب. ثم استشهد ابنه في حرب النكسة. و هاجر ابنه الثاني إلى لبنان حتى لا يتعرض لنفس المصير. ومن هناك انتقل لجهة مجهولة. يقول أرتين عن ذلك: إنه تبخر مثل الضباب. ودائما كان يخطر لي: من أين لأرمني مثل هذه الفصاحة. أم فعلا أصل اللغات متشابه.
سألته: ألم يتصل بك. ألم يترك خبرا أو طرف خيط من باب الإطمئنان.
رد بنفخة غامضة خرجت من صدره كأنها خيوط دخان. و انحبست الدموع في عينيه. دموع تشبه دبابيس صغيرة مكسورة. و لم يزد على ذلك.
**
اغتنمت فرصة انهماك أرتين بعيار إسطوانات الماكينة، وتعارفت مع الرجل. كان من بلدة اسمها قبر الإنكليزي، وفهمت منه أنه قد يشتري هذه الآلات بصفة خردة.
و مباشرة فكرت بذهني: إنه سيشتري زهرة عمر أرتين على أنها حديد ميت. وهذا يعني أن البلد الآن مثل شجرة تسقط منها الأورق القديمة. والحديد الذي كان في يوم سابق يطبع عصارة أفكارنا أصبح اليوم أخرس، أشبه شيء بمدفع بارد لا يعمل، أشبه شيء بعتاد من غير ذخيرة.
تركت أرتين وهو يعاند نفسه بين أيدي ماكينته الميؤوس منها. كانت الإسطوانة المعاكسة لا تبرم، واعتقد هو أن السبب في تركيب لفة القشاط. وتركت الرجل الآخر يدور حول فريسته، الحديد الذي يلفظ أنفاسه، والذي أصبح بنظره بضاعة في مجال المقايضة. وذهبت للشباك..
مفتوح نصف فتحة.. وهناك دورية عادت من جولتها ووقفت: مصفحة بمؤخرتها العريضة وصدرها المفرطح، وحولها بعض الجنود بلباس الميدان...
أيار 2012
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |