فصل من رواية ( أخبار آخر الهجرات ) لبرهان الخطيب
خاص ألف
2012-09-26
بعد روايته الفاتنة ( على تخوم الألفين ) صدر لبرهان الخطيب ( أخبار آخر الهجرات ) عن دار نوافذ بالقاهرة.
يعتبر هذا العمل إشكاليا و جريئا في مادته و شكله.
فهو يتعرض من ناحية المضمون لمشكلة صراع الشرق و الغرب. و لذلك لجأ لتقسيم النص إلى 3 فصول أساسية. الأول تدور أحداثه في غرب العالم. و بالتحديد فيما يدعى حاليا بلدان الشمال الغنية و المترفة. و لذلك يبدو بطله ممزقا بين مشاعر الحنين و ضرورات الاغتراب.
و الثاني يعالج مسألة التخلف الحضاري في المشرق و الركود في علاقاته الاجتماعية و ضرورة اليقظة و الإسراع لتعويض ما فات.
و الثالث عبارة عن قصة يتيمة تجري أحداثها على لسان حيوانات الغابة.
و لكن من ناحية الشكل أو الأسلوب يؤكد برهان الخطيب أن أصل النص مجموعة قصص قصيرة كتبت على فترات متباعدة و لكن ضمن جو و طروحات متقاربة. و هذا يرشحها لتكون رواية على طريقة السرد المتفرع لألف ليلة و ليلة. و طريقة الديكاميرون التي فتحت الباب لنوع من التمفصل بين حكائيات تتصل ببعضها و لكنها غير متكاملة بمعنى أنها غير متسلسلة. مثل القصة الجديدة التي لا تهتم بوحدة الحدث و لكن بوحدة الرؤية و الجو النفسي و البلاغي.
و لئن كان لهذا الأسلوب شبيه في تراث العرب الحديث كما فعل غائب طعمة فرمان في ( خمسة أصوات ) و جبرا إبراهيم جبرا في ( السفينة ) أو حتى نجيب محفوظ في ( ميرامار )، إن برهان الخطيب يمضي شوطا أبعد و يلغي مشاركة الشخصية الواحدة في أكثر من قصة. و يربط خيط الحكاية بالمكان.. حتى يصبح بنظره بطلا و مؤثرا في حركة الأحداث و في طبيعة الحوار و أيضا في صور الشخصيات .
و غني عن القول أن لهذا التوجه سابقة في رواية ( جسر على نهر الدرينا ) لإيفو أندريتش، فهي تجميع لعدد من الحكايات المتفرقة التي تجري أحداثها بالقرب من ذلك الجسر.
في ( أخبار آخر الهجرات ) لم يلفت برهان الخطيب نظرنا لعمق الجرح المؤلم الذي نعاني منه ( سواء بسبب الغربة أو بسبب الركود و التخلف )، و لكن أيضا فتح الباب على ضرورة تأصيل اتجاه قوافلنا الباحثة عن اليقين في الحداثة و ربما في الثورة.
السؤال الآن : هل الحداثة هي في تثوير الأدوات. أم في مطابقتها مع المتطلبات الاجتماع – ثقافية.
هل الحداثة في المحبة أم في العمل.. و السؤال مكرر لدى عبدالسلام العجيلي في قصته الطويلة ( رصيف العذراء السوداء)؟؟..
و أخيرا هل النص قصص أم رواية..
ليس المهم الجواب. لأن العلاقة العضوية بين السابق و اللاحق، و بين أشكال الفن المختلفة علاقة عضوية، علاقة تأثير و تأثير معاكس. و نحن من خلال هذا العمل االمتميز نستطيع أن نعيد قراءة ما سبق لنفهمه على ضوء المستجدات و المعطيات و التطورات.
و النتيجة رواية خلابة و فاتنة في أجزاء منها. دافئة و ضاحكة و طريفة في أجزاء أخرى. و هي تجميع للأضداد. و بطريقة لا تخلو من الاستفزاز و التنبيه...
احترق اليابس و الأخضر : خبر 6 – فصل من القصص الروائية ( أخبار آخر الهجرات ) لبرهان الخطيب
لا يدري، مات حقا وروحه محلقة فوق ماضيه وحاضره؟ أو أنه في غيبوبة، قد يستيقظ بعد قليل ويعود للكلام والضحك معها، سيارة الإسعاف لمن جاءت، الضجة هناك، الحركة البطيئة للناس، شئ صار؟..
أعد للرحلة عشرين عاما تقريبا.
خلال سعيه إلى نور في الغربة رنا وراء منعطف وآخر إلى ديرته، هجرها نعم، خيبة في حب ورزق وتفاهم مع القريب والبعيد، لكن، ما تمكن الإظفر، ولو شاء، التبرؤ من لحمه..
أيامه هناك فيلم صامت، صالة وسعها بلاد، لا لون عطف على الذاكرة رغم البهرج الصارخ، لا رائحة أذكت القلب، رغم العطور والزهور، أرصفة وغابات وقصور.
مَن يدري، آخر غيره، سقط أرضا ربما بضربات الشوق والحنين إلى فيافي الصبا، توالت دون رحمة، مذ حطت قدماه على تلك الأرض البعيدة الآن، حتى ساعة الغياب والفقدان..
"أنا أبوك يا أمل" قال متشجعا في حمية نابذا نقمة، لو تسرب خور إلى الهمة، أو لاح يأس في بلوغ قمة..
بالجهد، بالمثابرة، بشئ من حظ، بشحذ الباصرة والبصيرة، بحسن تدبير وتوفير، تمكن صعود السوق درجة درجة، استقر مالكا محله في مدينة سانت لويس، حي متوسط الحال، ضاج بملونين ومهاجرين ولاجئين، مثرثرين على عتبات البيوت أوقات الراحة والعمل، حالمين بلوغ شأنه وما بلغوا، أحلام اليقظة تقطف بصعود الصعاب، خلاف أحلام المنام، ننحدر إليها في استرخاء وتهويم.
بيوت الحي طابوق احمر، ضخمة متلاصقة من الجانبين، ذات طابقين غالبا، سقوف عالية، غرف رحبة، النوافذ كبيرة بيضاء واسعة، سعة أحلام المهاجرين، تنادي أماسي وأواخر الليل نساء متعبات، يمضي أطفال وأزواج إلى بيوتهم، إلى محله، لجلب هذه السلعة أو تلك، حي كان له شأن زمنا، غادره أهله المقتدرون إلى أحياء جديدة بعيدة، بضغط من فقر وثراء، رافق موجات المسسيبي على المنطقة، فاض بشرّه أو خيره عليهم.
واجهة محله مضيئة بداية المساء، إلى متأخر من الليل، تنحسر فسحة الأنوار، خافتة ذائبة في ظلال الأشجار، الرصيف المجاور، إسفلت الطريق، وجوه المارة المتمشين، ضحكات، كلمات، دخان، أغان، ينشط البيع..
إتس غووود.. مان.. ماش الحال، يرد مع ابتسامة على استفسارات المعارف والمستطرقين بل و لصوص اهمل لهم سرقات صغيرة..
ثلاجة المحل كبرت، ملأت جدارا كاملا، أفراد العائلة دخلوا فيها من مخزن صغير متصل من الخلف، لترتيب وتعويض البضائع..
ولداه، ابنته أمل، زوجته أيضا، ساعدوه في تمشية الأشغال، ازدهرت، مد جسور تجارة إلى ديرة الأهل، أبعد إلى ديار الجيران، استورد صدّر مع أخيه، أفاد واستفاد.
بمساعدة البنك حصل على الشقة فوق محله، وسّع أخوه أبو سيف في ديرته محله الصغير، رتبه لبيع أدوات كهربائية. تيسرت الأمور باختصار بالحظ والتوفيق والجهد، كاد أبو أمل يثق في القدرة على بلوغ سعادة منشودة، يمد اليد إلى بوابة غير مرئية، تفتح على المصراعين، عريضا، يدخل صحبة عياله الأمان والاطمئنان.
السير في دنياه ارتقاء جبل، منعطفات مزروعة مفاجآت، تعبر إحدى الشعاب يصدك مرتفع، تصعده أمامك آخر، قمة أخرى، شئتَ إطلالة على العالمين غذ السير إذن، إلى قمة أخرى، أخرى، لكن لا تصل ذروة عليا، وراء كل ذروة ذروة أعظم، هذا لو ما تقطعت الأنفاس منتصف الطريق بقصور في القدرة، بزلل في صدفة، وكفاك زاد العقل و الصبر لمتابعة المشوار.
العائلة اجتمعت أماسي حول مائدة الطعام، قرب التلفزيون، نزلوا إلى وسط المدينة، المتنزه العام محاذاة النهر، التمشي تحت الأشجار، التفرج على عوامات القمار، القوس المعدني وهامته فوق الغيوم، تسرقه الذكرى بعيدا عنهم، إلى فيافي الطفولة والصبا، إلى الحب الأول، بيت الجيران، اشتياق، التياع، عزم لزيارة الأهل حال الخلاص من شغلة في اليد، تنجز تظهر أخرى، حلقة حلقة، سلسلة حرير، فولاذ، بنعومة وقوة قيد ربطته إلى المحل والشقة كل أيام الغربة.
تحقيق الحلم ايها الشاطر مؤجل دائما، ليس إلى الأبد تقول الهمة، إذا رحلة موفقة إلى ديرة الأحبة انتزع من بين الغيب و العلم، وإلا ما بنى ليوم غد مهدد بتلاش وهدم، آن أوان شد الحقائب إلى الأهل، أو تمدد تحت الهم لردم، ذئاب الطريق هاجت منذ انهيار البرج إلى حفلة دم، امامك التخطيط والتنفيذ في روية وحزم، لم يقلق كثيرا بشأن ابنته، استحق عمرها الزواج نعم، والتلفزيون والشارع يعرضان صورا لحال اهتز فيه الأمن والفهم، لابنته عقل راجح، إرادة صلبة، حصانة ضد شطط، وعمره على منحدر، والشوق كبير إلى خاتمة خالية من ندم، فيها بداية موفقة لابنة أثيرة، تواصل المشوار المجافي للعدم، هكذا قرر اصطحابها في الرحلة المنشودة، عسى تتحقق امنيات على الحب معقودة.
استقبال أخيه وبقية الأقرباء في المطار كاد يبكيه لفرط الانفعال، أبو سيف في عافيته، أولاده كبروا كأمل وفي عمر الدخول إلى القفص، جلابيبهم بيضاء ناصعة، لحاهم شواربهم على المودة مشذبة باعتناء، سمرة أبيهم أدكن، قامتهم أمتن، الباقي كما تركه أبو أمل قبل عقدين.
ما اختلف عن أخيه سوى بالبدلة، أبرزت امتلاء لو طرح بعضه أصبح انعكاسا له في مرآة، وتخلص في آن من نبض قطع أنفاسه، الوجيب إلى سقف الحلق من فرحة اللقاء، وأكثر من طعام دسم عن عادات سيئة وحسنة في الغربة.
أولاد أخيه حول ابنته فرسان وأميرة، أسئلة وأجوبة عن الصحة والأحوال، ضحكات فوق الرؤوس نثار ملبس نزل غفلة، تلفتت محرجة، عيون محدقة بها عن غبطة، استياؤها طفيف، الصخب في إبداء حفاوة غريب، أبعدت كتفها حين مستها يد أكبرهم مرحبا، في تلقائية وامتعاض: لا تلمسني رجاءً.
فمزح معها: إكزكوز موا ، ما عرفتك شمع عسل يذوب من غير شمس بلمس.
حملوا الحقائب إلى السيارات، انطلق الركب في تزمير وتهليل، أسئلة بلا نهاية، لم تحتمل أمل، صاحت بابن عمها الغارق بفرحه سائقا السيارة:
- ستوب إت !
كبح سيف جماح السيارة، أوقفها جوار الرصيف التفت إلى أمل مذعورا:
- خير إنشاء الله؟ نسيت شيئا في المطار؟
أوضح أبو أمل ضاحكا في ارتباك إن الخاتون ابنته قصدت إيقاف التزمير والصياح لا السيارة..
سكون. انفجر الأخوة مقهقهين، وارى سيف خجله بابتسامة:
- كوني معلمتي بالإنكريزي أكون معلمك بالعربي يا بنت العم غود ديل؟
عربية أمل مكسرة، تداركت انفعالها:
- تدفع الفرق لي إذن. درس الإنكليزي عندكم أغلى من العربي.. أو كي؟
نظر سيف من وراء المقود إلى عمه في المرآة وبنبرة خوف تمثيلية:
- ويلي ويلي. تطعموا يا ناس ضد وباء المحاسبة الوافد من بره.
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |