تلتمع الأفكار النبيلة والدعاوى الخيرة في وحي الأنبياء, وعقول الفلاسفة وجهود المفكرين وعمل المصلحين, اولئك الذين يسعون في سبيلها ويضحون من أجلها إلى حد التضحية بالحياة نفسها من أجل الوصول إلى ما هو أفضل ودفعاً لعجلة الحياة باتجاه التقدم إلى الأمام. ثم ينبثق كالنباتات الطفيلية المتسلقة, سياسيون وتجار وانتهازيون وطلاب شهرة ومجد زائف يبذلون الجهود الكبيرة لتحويل تلك الفكار والدعاوى إلى أدوات للربح السريع ومادة للارتزاق وطين لازب يشكلونه كيفما يشاؤون, لابسين لكل مرحلة لبوسها. وأخطر زي يرتدونه هو زي رجل الدين, مع العلم إن المفكرين الاسلاميين يتحفظون لدرجة الرفض لهذه التسمية لأنها ترتبط بمفهوم ـ الأكليروس ـ أو طبقة رجال الدين, التي ليس لها في الاسلام مشروعية على حد زعمهم, ذلك إن الدين تكليف يشمل جميع المسلمين وليس هناك من يختص بالدين ويحوله إلى مهنة, (رغم إن الواقع يقول غير ذلك!!؟). الخطورة هنا تكمن في تحوّل الأفكار سالفة الذكر إلى سجال قميء بين جهات وجبهات متصارعة بشراسة من أجل مصالحها دافعين بالجمهور المنقاد ـ وأوشك أن أستخدم عبارات مؤرخي السلطات الحاكمة وأقول ـ , الدهماء من العامة, إلى تحمّل الضريبة ودفع الثمن. وتحت يافطة الدفاع عن الدين والذود عن الملة, تتشكل مؤسسات, لها أدواتها المالية والاعلامية والسياسية بل وحتى العسكرية, وتمتلك من المنطق ما تمزج به الحق بالباطل والصواب بالخطأ وتوظف كل شي خدمة لبقائها وديمومتها بغض النظر عن شرعية الأساليب أو قذارتها, ليصبح الدين وسيلة لتحقيق أهدافها وليس غاية وهدفاً تدعو إليه, ثم ينتقل على يديها من دعوة للثورة من أجل الخير والصلاح والتغيير إلى سلاح خطير تحارب به الخصوم والمناوئين والمنافسين والمعترضين, فتصبح المؤسسة بزعيمها منتهى الآمال والغاية العليا وليست وسيلة للوصول إلى الثورة. هنا يبدأ التلاعب ليس بالألفاظ واللغة بل بمصائر الناس وحياتهم ومستقبل أجيالهم القادمة. وبدلاً من أن يكون الشعار "كرّمنا بني آدم" و"إن أكرمكم عند الله أتقاكم" أو إن "عدد الطرق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق", يصبح الزعيم/المؤسسة هو النشيد الذي نسمعه صباح مساء, حتى يتحول إلى غسيل دماغ يومي, نُقرْ من بعده ونعترف بأهمية وضرورة هذا الزعيم أو ذاك أو بالحاجة لهذه المؤسسة أو تلك. ثم تتطورهذه المؤسسات إلى أخطبوط تتكاثر أذرعه انشطارياً في بيئة مناسبة ومشجعة لهذا النمو ثم نفاجأ في لحظة تاريخية معينة بحجم العبء الثقيل الذي نرزح تحته جميعاً. ونواجه جيشاً من المتبطلين المتكسبين على حساب الآخرين وكأن الله "سبحانه وتعالى عما يصفون" قد خصّهم بالخير كلّه والرزق جلّه مع الرفعة والسمو بأعلى المراتب وجعل البؤس مصير البشر بحجة صفيقة وتحوير باطل لمعنى قوله " يرزق منْ يشاء بغير حساب". يحضرني هنا قول الجواهري في موقف مشابه في قصيدة يقول فيها:
وإن لي فيمــا أفاخرهُ أُماً وجدتُ على الاسلام لي وأبا
لكن بي جنفٌ عن فهمِ فلسفةٍ تقضي بأن البرايا قُسّمتْ رُتبا
وإن من حكمةٍ أن يجتني الرطبا فردٌ بجهدِ الوفٍ تعلك الكربا؟!!!
نعم يتحول هذا الفرد إلى الجاني الوحيد لعسل الرطب ولباب القمح بوراثة ما لا يورّث وتلهث معه مؤسسته لتحشر الناس في صفوف تصفق أو تهلل أو تكبّر عند مرور الزعيم, لنصل في لحظة ما إلى جسيم الأخطار ومروّع الأمور عندما يبدأ الفرد/ المؤسسة بالصراع مع الفرد / المؤسسة الآخر, حتى تصل الأمور إلى حدود التكفير واللعن واستباحة الدماء. هنا الطامّة الكبرى لأن الخسائر ستشمل الجميع داخل هذه المؤسسات وخارجها فضلاً عن دفع المجتمع إلى حافة الهاوية, لأن الاختلاف عندها لا يكون حول عمر وعلي بل على الدينار والدرهم في الحقيقة أي على أرزاق العباد وحكم البلاد وعن الحل والعقد وبيد من يكون؟
ومن نافل القول إن الأصوات العقلانية ستضيع وسط هذا الصراع الصاخب. وسيصمت منْ لا يُطاع فتُفتح البلاد على مصراعيها لكل الاحتمالات ومنها تزوير إرادة الأمة ونقل الصراع من ميادينه الحقيقية إلى دهاليز الظلم والظلمات فيتوقف الزمن عند طاحونة المعارك الجانبية والانتصارات الوهمية والانشغال بالقشور دون الجواهر, فتنتكس عند ذلك الهمم وتثبط العزائم ويتمشى اليأس في الأوصال "كتمشّي الموت في الركبِ". السبب في ذلك تضخم دور البطولة للفرد/ المؤسسة وغياب دور العقل النقدي, بل والتجهيل المتعمد الذي تمارسه المؤسسات بتركيز نجومية وألمعية الزعيم على حساب الأصوات المنادية للتقييم والتقويم والمحاسبة والاشارة إلى الأخطاء, عندها يبدا الفرز على أساس (مع أو ضد) بثنائية تحّول صاحب الرأي الحرّ إلى نغمة نشاز وسط جوقة متناغمة من المطبلين. وقد يلتقي طرفا الثنائية وقطبا المعادلة على محاصرة الأحرار المغردين خارج السرب فيكونون هدفاً لسهامهم وغرضاً لمراميهم وموضوعاً لتحويل الأنظار عن الفضائح والعيوب التي تعاني منها تلك المؤسسات بزعاماتها الفردية, بفتح النار على كل منتقد وصاحب رأي مستقل باتهامه وبكل بساطة بالكفر أو بالخروج على ما أجمعت عليه الأمة, ولا أحد يعرف متى حصل هذا الاجماع ولا كيف تمت عملية الاستطلاع للأراء ولا يذكر أحد إسم المؤسسة التي أشرفت على عملية استبيان وجهات النظر!!!