آخر خط الترام
خاص ألف
2012-10-10
لحق الدمار بمقهى جحا بعد إنشائه بفترة وجيزة في حلب. وهو عبارة عن مبنى من 3 طوابق. جاء بعد منتدى الشام وبنفس مكانه السابق الذي يعتبر استراحة لكل عابري السبيل.. لمن يرغب بفنجان قهوة تتصاعد منه سحابات البخار، ولمن يفضل الجلوس وراء النافذة لقتل ما تبقى من ساعات عمره وإلقاء نظرات لا معنى لها باتجاه أهم ساحة في المدينة، وهي ساحة سعدالله الجابري، بطل الاستقلال المعروف.
ولكن إذا كان الإرهاب هو الذي محا هذه المحطة – الاستراحة من الوجود يجب أن لا نقلل من شأن أساليب أخرى وضعت حدا لعمر المقاهي الشعبية المشهورة التي لم يسمع بها أحد من أبناء الجيل الصاعد.
لم تعرف مدينة حلب عددا كبيرا – وأود أن أقول ضخما - من المقاهي الأساسية. فقد كانت الصالونات والنوادي التابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل وقاعات الاتحادات والمنظمات لا تترك للنشاط العام مجالا.
وطوال السبعينات لم تسجل ذاكرة حلب غير وجود 5 صالات محايدة تصادف أنها كانت في وسط المدينة.. بين آخر خط الترام الذي أنشأه الفرنسيون ثم ألغته حكومات الاستقلال، وبين مطلع جادة الخندق وهي أول بوابة تقودنا للجزء الميت من هذا التجمع العمراني.
استمر خط الترام موجودا على الأرض بشكل حديد أبيض مدفون بين الإسفلت. وكان من الممكن أن تشاهد لمعانه في الصيف كلما انعكست عليه أشعة الشمس. ولكن غابت الحافلة الصفراء التي تنقل الركاب حتى منطقة القلعة مرورا بالسبع بحرات والسجن المركزي. ولا أحد يعلم كيف كان تنظيم المدينة في حلب ثوريا لدرجة لم يلتفت فيها للأهمية العاطفية لمثل هذه العلامات. ألا نرى حتى الآن في إسطنبول عربة يتيمة واحدة تدور مثل المكوك في شارع الاستقلال وتدعى القطار النوستالجي. وقل نفس الشيء عن العربة التي احتفظت بها بلدية مدينة نوتنغهام الإنكليزية في حديقة والتون. فقط للمشاهدة . فقط لتمجيد الماضي والاعتزاز به.
لقد تجرأ مجلس المدينة على إهمال هذا الماضي الوجودي، واستطاع أن يحرق كل علاقة له بالتاريخ الاجتماعي الحديث. وسمح بهدم تلك المحطات. بعد أن عانت من الإهمال ومن السأم والغثيان المعاصر..
بشكل عام عانت المقاهي العامة في حلب مما يعانيه كل أبنائها. وأصابتها الشيخوخة والأمراض والعلل قبل أن تصل لمرحلة الشلل التام. أو أقله غسيل الدماغ . لماذا لا أقول قبل أن تحترق برماد الأنانية والنرجسية وتدخل في النفق المظلم.
وخذ مقهى العطري على سبيل المثال.
كان يحتل زاوية عند تقاطع الجميلية مع شارع إسكندرون.. وكأنه قلعة تحمي المتقاعدين والضباط القدماء من أوجاع سن اليأس. كأنه حديقة عامة توفر لك الهواء الطلق من خلال الساحة الصيفية المكشوفة، والجو النفسي الذي يسمح بالحياة لقليل من الأغصان العجاف في شجرة العمر الموشك على نهاياته. وهذا من خلال الصالة المغلقة المزودة بطاولات مستديرة وبعض كراسي القش والخيزران وأوراق الصحف. ومعها طبعا إبريق الماء الراكد الذي لا يخلو من القش والغبار وبصمات الأصابع، بعضها بخطوط الحظ وتخون صاحبها، وبعضها الآخر ممسوحة، لا تخبرك بشيء. إجمالا بصمات الأصابع برأيي ليست هوية شخصية. ولا تقول هل هي لإنسان متبلد الأحاسيس أم لإنسان مفطور القلب.
واليوم لا أستطيع أن أجزم لماذا لم يكن الغرباء على المدينة يجلسون في هذا المقهى. كانوا يختارون بالفطرة مقهى الأكراد الصيفي قرب ساعة باب الفرج المحاذية للمكتبة الوطنية، أو مقهى النجمة القريب من المنشية القديمة، مع أنه منطقيا يعتبر رمزا لتلاقح الحضارات. هل أقول تقاطعها لأكون أكثر دقة؟.
ففي الجميلية، طوال الستينات ولمنتصف السبعينات، تركزت بيوت تجار حلب، وحاليا دخلوا في شتاتهم الخاص، وانتقلوا لكونتونات بعيدة عن الأضواء، وتحتمي بأسوار عالية. وقبل ذلك تركزت فيها بيوت اليهود. وفي هذه الآونة لم يتبق منهم غير 3 عجائز من النساء. والبقية غادروا بعد أحداث النكبة في 1948. ولا أعلم على وجه الدقة ماذا كان يحدوهم لمثل هذا الفرار الذي يمكن أن نرى أنه هجرة للبحث عن الفرص الضائعة.
إن ذكريات مقهى العطري كلها تشجع على البحث في موضوع الجوهر الغامض لمدينة هي من الناحية الجغرافية في الشرق الأوسط، ولكن من الناحية الثقافية تطمح أن تكون منبرا للفرانكوفونية التي تلفظ أنفاسها أيضا. هذا على الرغم من كنيسة السيدة مريم التي لا تزال في شارع الفرانسيسكان بمثابة مدينة صغيرة داخل المدينة الأم. ويعلوها البرج بالقرميد الأحمر والجرس الفولاذي ومنصة الراهبات.
وهكذا يمكن أن ننظر لنهايات مقهى العطري وكأنها علامة على اندثار الثقافة الفرنسية العريقة من هذه البلاد.
ومن المؤسف أن هذه الثقافة التحررية، التي أغنت تراث الإنسانية بفلسفة متبدلة تبتكر دائما الوجه قبل أن تبحث عن القناع المناسب، والتي تؤسس لاتجاه في الروح قبل أن تجد الدال الذي يفسره، قد خرجت من هذه البلاد، وهي تحمل على عاتقها كل أخطاء الفوج السنغالي.
لقد ارتكب السنغاليون الفظاعات طوال سنوات الانتداب، ولم يتركوا وراءهم غير الصيت المرتبط بالرعب والكراهية. ولئن كنت أعتقد أن هذا حصل بقوة مبدأ فرويد في التحويل، وهو ما نقول عنه اليوم الإسقاط أو الإزاحة، هذا لا يعفي أحدا من الموبقات التي ارتكبها.
لفظ مقهى العطري أنفاسه مع تمزق حلب - المدينة وحمولتها من البشر بفعل إغراءات الحلم الأمريكي بالحرية، وفعل إغراءات التاج البريطاني بالثروة والصيت والجاه. وانتقل كل رواده من موظفين متقاعدين وجنرالات بلا ثكنة. أو باختصار كل عتاده وطاقمه من سيوف لحق بها الصدأ وغبار السنوات إلى مقهى الشرق تحت سينما الشرق الحكومية في نهاية شارع شكري القوتلي والتي حملت فيما بعد اسم سينما الكندي. والبقية حملوا طبقات هموم ثقيلة ينوء بها كاهلهم واستقروا في رابطة الموظفين القريبة من نادي الضباط والتي تجد أمامها بنك الدم ومكتبة دار التقدم المتخصصة بالكتاب السوفييتي.
وحتى هذه الإشارات التي كانت في وسط أهم شريان في المدينة تعرضت لنوع من الانقراض الممنهج. نادي الضباط أصبح موقفا للسيارات. ورابطة الموظفين بنشاطها المسائي فقط تحولت لمستودع يبيع الكتب المستعملة أو قطع غيار الأجهزة الصغرية – الإلكترونيات باللغة الدارجة. وأغلقت السينما أبوابها وكذلك المقهى الذي وقف لردح من الزمن مثل بيضة الديك. بالأحرى أغلقت السينما بوابتها الحديدية وأصبحت ندبة لا تدرك ما هو الجرح الذي تسبب بها. ومما يحز بالنفس أن أحدا لا يفكر بحل لمصيرها الأسود.
لم تؤثر النكبة على مدينة حلب إلا في أضيق الحدود، ولكن أثر عليها ما لحق من تبدل بمفهومنا عن العائلة والأسرة ونشاط السوق. كان على ثقافة النخبة أن تتراجع لمصلحة ثقافة شعبية لا نعرف ماهيتها بالضبط. فهي خليط من كل الأفكار والمذاهب وينقصها التنظيم والتفاهم وكذلك التجانس. كأنها تبشر بالفوضى وبذوبان الهوية واضمحلال الطابع الشخصي والخاص.
بهذه الروح تم هدم مقهى العطري – قبل غيره وبكل مكوناته: الفضاء الصيفي المفتوح على عالم من الرغبات والأمنيات. والقاعات الدافئة المغلقة التي هي قوام أخلاق العمل البديل، أو قوام مبدأ التصعيد من الانتظار في واقع عبثي وسادي ولا جدوى منه. واحتلت تلك المساحة دكاكين ومكاتب وعيادات صغيرة كأنها القبر. كأنها زنزانة حياة مهنية بلا إبداع. وأقول من غير مجاملة: بلا أخلاق.
أين الأخلاق في حياة جامدة ومتخشبة، ليس فيها زهرة واحدة، أو لوحة لتجديد حركة الأفكار وتنشيط حاسة البصر.
اليوم لا ترى في تقاطع العطري خطوط الترام التي بناها الفرنسيون. ولا الأبنية الكولونيالية ذات الحجر السوري الداكن الذي يعكس أشعة الشمس ويحولها إلى ضوء يشبه سيف اللهب ( كما يقول نيرودا )، وكما نعرفه جميعا.. نحن أبناء الجيل الوسيط، جيل النكسة. ولكن تجد على الأرض أثر جنزير الدبابات والعربات المصفحة.
ترى من يطارد من. وما هي القضية. وكيف سيكون وجه المدينة في الغد؟..
بعيون دامعة، أم بنظرات رمادية أسدلت عليها اللامبالاة غطاء لا يساعد على التواصل، ويشجع على مزيد من الاستلاب.
من حرائق و خرابات حلب – تشرين الأول 2012
Hellen
2015-12-19
Damn, I wish I could think of somenhitg smart like that!
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |