حين تأتي البلاد
خاص ألف
2012-10-31
تقول القصة في نهايتها« الرجل الذي بدت بلاده بعيدة، اهتز في القطار، ثم بكى وحيداً. البلاد البعيدة
ظلّت بعيدة، والأصدقاء كانوا يمضون هنالك بأيامهم دونه. وفقط ثمة جثة. جثة لم تكن تنتظر أحداً. جسد لا يريد أن يذهب إلى أي مكان. ولا يريد أن يبقى أيضاً. جسد لا يريد أن يذهب إلى أي مكان. ولا يريد أن يبقى أيضاً. جسد رجل بكى ثم..
ليست قصة.. ليست حكاية، وليست شيئاً أيضاً. فقط الرجل الذي باتت بلاده أكثر بعداً، وأحلامه أكثر قلّة تمدّد مسترخياً، مسترخياً بشدة، قلبه لم يعد ينطّ كعصفور، كما أيامه. هكذا أحسّ به وهو يأمره بالتوقف. ثم.. في الصباح الرجل الذي ركض كثيراً، ليلحق بقطار الضواحي قبل أن يتحرّك، لم يجد مكاناً يحشر فيه نفسه بسهولة. ووسط هذا الزحام، وقبالة الباب الذي كان يستند إليه، لم يلمح وجه أي طفل، رغم أنه فكّر بوجه طفل أسود كان يبتسم. لم يلمح وجه أي طفل..».
اسمع جيداً يا جميل وأنا أجهل أين تكون أنت الآن..! هذه البلاد صارت أفضل مما سبق، صار عندنا كل شيء قابلاً للأخذ دون الرد. أصبحنا أكثر صلابةً وأملاً، ذاكَ الوصف الأخير الذي حدّث «سعد الله ونوس» العالم عنه. وتطورنا نعم تطورنا إلى درجة أن العالم كله صار يسمع فينا، حتى أن «إنجيلنا جولي» زارت أطفالنا، وحفيد«"جمال" أتاتورك» قبَّل أيديهم من خلف السياج و«بان كي مون» ـ الذي لم تسمع به ـ صار يبدي قلقه من الوضع السيئ في سوريا، وقطر تعد العدة لاستضافة مونديال 2022، تطورنا وصار عندنا أجهزة نستخدمها في السراء والضراء، صار لدينا: مواقع للتواصل الاجتماعي، وبرامج سكايب، وأجهزة أيفون، وآي باد، وكاميرات صغيرة وكبيرة ومحمولة ومثقوبة، صرنا نملك التكنولوجيا من أوسع أبوابها، تطورنا لدرجة أنه لم يسمع بموتنا المنتفض قنصاً أحد مع أننا نفذنا وصية«محمود درويش» وانتفضنا فيما يمزق قلبنا العاري. وبالمقابل اكتشفنا حجم حزننا وهشاشتنا وصبرنا. اكتشفنا السلاح الخفيف والمتوسط والثقيل منذ عهد المنجنيق وحتى براميل الـTNT والقنابل العنقودية والدبابات الصينية المطورة، تخيل يا«جميل» حتى الصين صارت تصنع وتطور الأسلحة ـ الله يرحم أيامك يا ماو تسي تونغ ـ وصار الجميع ناصحاً حكيماً منظراً بعد أن عادت المؤامرة إلى الحياة بصيغةٍ أكثر نضوجاً.
اسمع جيداً يا جميل.. هذه البلاد صارت أوسع مما نشتهي، صارت كبيرة بحجم قانون الجاذبية، ونيوتن وإينشتاين وكومونة باريس وثورة «تروتسكي» الدائمة. صارت صغيرة بحجم طريق المترو الذي يصل بين برلين ـ باريس وبالعكس. صار فيها للحب نكهة أخرى تشبه تلك القصة التي كتبتها يوماً عن« ليلى والذئب» والحبيبة التي تلقفناها تلقف طلقة الخلاص صارت إما مهاجرة أو مسافرة أو مشردة أو هاربة أو معتقلة أو.... وصار عندنا حدائق ومدارس وملاعب وضواحي وسيارات وطائرات لا تشبه صوت طائرات«الميغ والسوخوي» الخارقة لطبلة الأذن ووجع النزوح، وصار عندنا أرصفة ومقاهي وفنادق وكهوف وطرق أمنة وتذاكر سفر وأرصدة في البنوك ومنظمات إنسانية ومعتقلات للهرب. ماذا نفعل إذا كنّا نحن نهوى النكد والحظ السيئ وننتظر الخلاص حتى لو كان أن ننام في بطن الحوت مثلاً..!
سأقول لك سراً يا جميل.. أصدقائك القدامى الذين في يوم من الأيام كنت تقرأ لهم مسودات قصصك، وتروي لهم أحلامك، أولئك الذين كنت تحدثهم عن حبيبتك، والذين كتبوا عنك بعد رحيلك، أولئك الذين كنت ـ ربما ـ تنظر إليهم بعين الشفقة، هم بالفعل يستحقون الشفقة، قلةٌ قليلة لا تتجاوز حجم الطريق الواصل بين الزبداني ـ دمشق من يقف على موقفٍ ثابت لا يتزحزح عنه. هم قلةٌ قليلة والباقي نأى بنفسه عن كل شيء وجلس يترقب مثل صاحبنا الفرانكفوني جائزة "نوبل" للسلام أو الآداب أو حتى في الطب إن أمكن..! لم لا طالما أن الجائزة مسبوقة باسم"نوبل".
اسمع يا جميل.. ما تسمعه وتشاهده اليوم، ليس سوى ألمٌ واحد، سبقتنا فيه وعشته، لأن أحداً قالَ لي: أن قلبك الطيب هو من أوصلك إلى حيثُ أنتَ الآن..! وغُرّرَ فينا كما غُرّرَ فيك لأنك لم تنظر إلى الواقع نظرةً فاحصة، عارفة بخفايا المستقبل. كان عليك أن تبحث عن العرافة لتقرأ لك ما يجب أن تفعل، وأعلم أن العرافات توقفت عن قراءة المستقبل المهني والعاطفي والأُسري والمالي وطريق البياض وكل شيء. صارت تقرأ لنا أحوال الطرق السالكة والطرق التي ستتعرض للإغلاق خوفاً علينا من شظية طائشة، أو نظرة حاقدة، أو سيارة مفخخة. صدقني صرنا أكثر قسوة وجبروتاً عما مضى.
هذه البلاد يا جميل بمن فيها صارت تعرف أنها مدمرة بكل أشكال الحداثة وما بعد الحداثة والسريالية وحتى الدادائية أيضاً. دُمِرنا يا جميل بكل أشكال العاطفة والفكر والسياسة والاقتصاد والإيديولوجية وضُحِكَ علينا بخطابات الإذاعة والتلفزيون ورسائل الـ"sms" والصحف والأحزاب الطنانة والرنانة، دُمِرنا حتى وصلنا لمرحلة تلقف الفكرة من أول كلمة. حتى وصلنا لمرحلة الأمل الأخير، والصرخة الأخيرة: يا وحدنا..!
وائل قيس
08-أيار-2021
31-تشرين الأول-2012 | |
25-أيار-2012 | |
10-أيار-2012 | |
30-أيلول-2011 | |
20-آب-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |