السيرة النبوية بين التحريف والتسجيل - قراءة نقدية
خاص ألف
2012-11-03
يقدم كتاب ( جزئيات في السيرة النبوية) للباحث والمفكر الإسلامي صالح الطائي، والصادر حديثا عن دار ميزوبوتاميا في بغداد، جرد حساب لما فعله المؤرخون والإيديولوجيات الغامضة والخفية التي تقف وراءهم. وذلك من خلال سرد شيق وممتع وتحليل هادئ، ولكن لا ينقصه الدفء وحرارة الإيمان بالمقولات الأساسية للدين ولشخصية الرسول ( ص).
ولئن كنت لا أمتلك فكرة واسعة أو عميقة عن المادة العلمية للسيرة وعن رواتها، غير أن منهج الكتاب قد لفت انتباهي وترك عدة انطباعات.
فهو منهج تحليل تاريخ سياسي مع إحالات اجتماعية. ويمكن أن نقول انه منهج تكاملي اعتمد فيه على نقاط وركائز من كافة العلوم المساعدة فضلا عن ربط الحاضر بالماضي، وإسقاط الأحداث القديمة على وقائع من التاريخ المعاصر.
وأعتقد أن أهم ما يدعو له الكتاب بفصوله المختلفة ليس الموافقة على ما أجمعنا عليه، وهو أن الإسلام دين للمحبة والتآخي، وثورة شعبية أداة تحقيقها تنبع من ضرورتها الإنسانية، ولكن من ما اختلفنا حوله.. هل توجد رواية غائبة لمعنى الإسلام ووقائعه، وهل كل الصحاح سرد لا يمكن الطعن به؟..
وللرد على هذا السؤال يدعو الأستاذ الباحث لمبدأ تصفير الروايات. لا للطعن بها كلها، وإنما كما فعل رولان بارت.. للكتابة من درجة الصفر ووضع كل الحكائيات النبوية، وما يرتبط بها من أوراق وأضابير وملابسات، أمان السؤال – الامتحان التالي: هل أحسنت التعبير عن المبدأ الإسلامي الأعلى، وهل هي غير موجهة ولا مشخصنة ،ولم تخدم اتجاها سياسيا دون غيره، وأين تعارضت مع غيرها ولماذا؟.
وانطلاقا من هذه الرؤية العلمية في تحليل الموروث، لم يتأخر عن إعادة النظر بالخرافة أو الأسطورة التي تتعامل مع العرب قبل الإسلام على أنهم بدو محرومون من الحضارة، ناهيك عن إعادة النظر بمصنفات تعاملنا معها بنوع من التسليم ومنها سيرة ابن هشام المعافري التي نقلت عن ابن إسحاق، وتورطت مثله بالاستفادة من رواية اليهود، أو ما يسمى حاليا بالإسرائيليات.
وبرأي الباحث يوجد في كتب الأولين أكثر من إشارة تجعل من ابن إسحاق كاتب قصص تشبه أدب الخيال العلمي اليوم. لقد كان يهتم باللغة الفنية القشيبة على حساب الدقة والموضوعية ( ص 22). وقد طلب من بعض الشعراء لقاء مدفوعات مادية أن ينظموا الشعر ليضعه في وسط سيرته. هل نقول إنه كان بمرتبة صحافي معاصر استخدم الشعر والسجع والصور البلاغية عوضا عن الصور الملونة ليجذب اهتمام العامة. وهل نقول إنه ردم الهوة ما بين الفانتازيا والسيرة ليعوض بالخيال نقائص الواقع وفضائحه؟.
إنه باعتبار أن السيرة هي أقرب المروي والمكتوب لقلوب العامة كانت إضافة القصص المشوقة فكرة تساعد على إضفاء شرعية مفقودة ( ص 22). بمعنى أنه يسهل دخولها في المجتمعات المحرومة من الثقافة الرفيعة.
ويؤكد الباحث أن الفاصل الزمني بين تسجيل الحوادث التاريخية ويوم وقوعها امتد لفترة طويلة قاربت قرنين، و إن مصادر السيرة لم توثق إلا في فترة الصراعات المذهبية ( ص 31 )، ولذلك هي مطعمة باتجاه الانتماء الحزبي، وأيضا وقعت تحت مؤثرات سلطة بني أمية الذين لعبوا دورا انتقائيا من خلال الرقابة على المصنفات والدواوين.. كل ما يخدم وصولهم للسلطة مسموح به، وما عدا ذلك يفرض عليه التعتيم وكم الأفواه ولو بحد السيف. حتى أنك لا تجد في صحيحي مسلم و البخاري إلا مجموعة بسيطة لأحاديث رواها آل البيت، بينما تجد لأبي هريرة مثلا 5374 حديثا. مع أحاديث لعكرمة مولى ابن عباس المشهور بالكذب ( ص 32 ).
ومع التقادم لم يعد الناس يلتفتون للدخائل ولا لأسبابها ( ص22). فقد بدأت المماحكة السياسية عام 41 هـ ، فما بالك وقد اطلعنا على مدوناتها بعد 15 قرنا بالتمام والكمال. لقد حصل خلال ذلك تغيير عقائدي وفكري في المجتمع الإسلامي ( ص24)، كان من أبرز معالمه تحويل الخلافة لملكية محصورة في عائلة ولتراكم الثروات في أيدي نخبة من رجال البلاط.
ونفهم من ذلك أن أسلوب التدوين ووقته تركا أثرا على مصداقيته، وبالأخص أن السهم أو السياق يتحرك من النخبة باتجاه قطاعات عريضة من الشعب. وإن أي انحراف بسيط في الأهداف سوف يترتب عليه انحراف في التأويل والتداول مع الإضافات التي استعملها الوسيط كما تستعمل السيدات ملح الطعام.
ومن هذه النقطة يبدأ الباحث في مناقشة مشروعية الإذن بالحرب عند المسلمين. هل هي مكية أم مدينية. وهل فعلا أنها استعملت الحرب كأداة تبشير أم أنها ربطت ذلك بشروط.
يتفق الباحث مع من يقول إن مرحلة مكة هي مرحلة استضعاف، لذلك لم يكن من جدوى للفريضة الغائبة ( بمفردات المرحوم سيد قطب). ولكن في المدينة دخل المسلمون مرحلة الاستقواء، وأصبح الجهاد فرض كفاية للدفاع عن الذات- وهي ذات جماعية أو ذات دولة. وكانت الحروب الاستباقية جزءا من هذه الأطروحة. بمعنى إن ضرورتها تنجم من إمكانية دخولها في باب الاحتمالات. فقد تحولت الحرب في فجر البعثة إلى نوعين:
1 - الوقائي لدرء أخطار محتملة مثل غزوة بني النضير.
2 - والمباشر لصد عدوان كما هو في غزوة الأحزاب.
وحسب ما ورد في الكتاب إنه في فترة حكم الرسول ( ص) للمدينة، والتي امتدت ثماني سنوات، وقعت 66 حربا ( و بالتحديد 27 غزوة و 39 معركة )، ولم تكن كلها دموية، وبعضها كان مجرد خروج لتجريدة أو سرية تشبه بعملها ما تقوم به فرق الاستطلاع اليوم ( ص123). وكان عدد القتلى من الجانبين يبلغ ألفا وثمانية. وهو عدد أقل بكثير من شهداء جسر الأئمة بين الكاظمية والأعظمية ( ص 267 ) في فترة ما بعد غزو العراق. ويتخذ الباحث من ذلك دليلا على عدم دموية الإسلام و يقول : أين تكمن الدموية التي يتهم بها الإسلام ؟ ( ص 267 ). ويعتقد أن ذلك إثباتا قويا على ترجيح الرأفة والعمل الاجتماعي أو آليات المجتمع المدني لدى المسلمين.
وبرأيه يكفي المقارنة مع الرقم المهول للحروب التي شهدها العالم بين 1984- 1999 لنلاحظ تفوق دموية التاريخ المعاصر في الكم والكيف، وفي اللجوء للغة السلاح والعنف. فقد بلغت حروبه 120 حربا مدمرة ( ص 136 )، لم يرفع بها أحد السيف بوجه أحد ولكن استخدمت الصواريخ والقنابل التي تزن عدة أطنان.
ومن المؤسف كما يرى الباحث أن إلحاق التشويه بسمعة الإسلام، وهو في بداياته، كان على أيدي من تبرع لتسجيل مآثره.. تارة بواسطة الدس والتزوير، وتارة بسوء الفهم وعدم التأكد من المصادر، ولا سيما أن النقل عن أبناء الصحابة لم يكن يخلو من سطحية وطوايا سيئة لها برامج ودوافع مشكوك بها.
ويرى الأستاذ الباحث أن السير المكتوبة لا تعاني من التلفيق فقط، ولكن من الغموض. وأحيانا تأتي مبتورة أو بلا مبرر ولا سند واقعي. ويستدل على ذلك بمعيارين: التعارض بين الروايات ولا سيما إذا كانت منسوبة لنفس الشخص، وعدم تطابقها مع المنطق. ويدخل في هذا الباب عدم تسمية الرسول ( ص ) لخليفة من بعده، وهو الحريص على تسمية أمير للجماعة في غيابه كما تثبت كل الوقائع ( ص 254 )، أو في حالة انشغاله بأمر جلل كما حصل في غزوة الخندق ( ص 255 ).
أضف لذلك لغز فتح مكة. فكتب السيرة تؤكد أنه تم (بسهولة غريبة ويسر أغرب – ص 244 ). مع أن معسكر الأعداء لم يكن لين العريكة، وله باع في الحروب، ولديه أحلاف وشركاء في طول وعرض شبه الجزيرة. وتقف وراءه خبرة في الإستراتيجية العسكرية واقتصاد قوي وشبكة واسعة من العلاقات التجارية. هذا غير أسلوبه المبتكر في الحرب الباردة.
وهناك ملف الأحداث الغريبة التي أعقبت الفتح نفسه. فالرسول ( ص ) لم يأمر باسترجاع بيوت المهاجرين التي استولى عليها أشراف مكة القرشيين مع أنه حق مشروع ( ص 244 ). فأي سر منع النبي من ذلك. هل يمكن أن نتكهن بوجود صفقة عقدت بالخفاء. وما هي بنودها. و لماذا تجاهلها كتاب السيرة الأوائل؟؟.
أسئلة. أسئلة كثيرة وتحيط بها ملابسات شديدة التعقيد والإحراج والغموض. وإن حلها يساعد على الخروج من كماشة الخلاف والتباين الذي يوهن من أركان المجتمع ( ص 259 ).
**
تبقى ملاحظة أخيرة. إن توظيف تحليل فرويد لتفسير العنف عند الجنس البشري، وهل هو موروث أم مكتسب ( ص 128)، كان مختصرا ويحتاج لتوضيح. وأنا أرى أنه ليس لفرويد علاقة بهذا السجال.
فهو ينظر للإنسان كوحدة مغلقة، وحدة بنائية لا يمكن اختراقها بما يتعارض مع متطلبات الغرائز، وهو أصلا يعزو الروح العدوانية للتوازن الإجباري الذي يفرضه صراع أصلي بين الموت والحياة، وما يترتب على ذلك من تحويل للأثر التدميري المرتبط بالموت لصالح الرغبة بالبقاء.
وبوجيز العبارة يجب أن يخرج فرويد من هذه المشكلة، لأن القتل برأيه واحد سواء بالحرب أو الانتحار.
وكذلك أعتقد أن اقتباس جزء من رسالة لفرويد يرد فيها على آينشتاين، آخى بها ما بين الحيوان والإنسان في السلوك الإرادي أثناء وقوع مشكلة، يظلم فرويد.. فهو لم يربط الغريزة البشرية بالعضلات والاستجابة المقيدة حسب بافلوف، ولكنه اعتمد كثيرا على دور العقل في تهذيب المشاعر والتصرفات. وكلنا نعرف مبدأ التصعيد أو التسامي الذي تحدث عنه في مجال الفنون والأدب. ألم يؤكد فرويد، وكل علماء التحليل النفسي الكلاسيكي، أن الفن هو تهذيب للإيروس المسؤول عن غريزة الحياة؟.
إن التصعيد بهذا المعنى هو وزارة دفاع لدى الجنس البشري للتكيف مع متطلبات الحضارة ولتحويل المشكلة القائمة وهي الرغبة بتحقيق غريزة الموت أو للتسريع بلحظة الأجل المحتوم.
نقطة أخيرة. لا يمكن لفرويد أن يكون طرفا في أي تشريع أو تفسير لآليات دفاع المجتمع الإسلامي عن نفسه، ولا سيما في فترة فجر البعثة لأنه بالأساس يفسر التوحيد كظاهرة دكتاتورية الغاية منها تبرير السلوك الشمولي لبعض القادة. إن فرويد لم يجد فرقا بين فرعون مصري وحد الوجه القبلي والبحري في دولة واحدة وبين نبي الله موسى الذي دعا بني إسرائيل لعبادة إله واحد. وتجد تفاصيل ذلك في كتابه ( موسى والتوحيد).
***
وعدا عن أخطاء طباعية متفرقة، نجمت عن السهو، أعتقد أن الكتاب بمتنه وهوامشه، وقبل كل شيء بأطروحته الأساسية التي وجدت في الرائد علي الوردي خير معين ومرجع، يبدو مثل مقدمة لإعادة النظر بالمكتوب من تاريخنا الذي لحق به التشويه على مدى أجيال، حتى أصبح من الصعب أن نتعرف على أنفسنا فيه.
وبذلك إنه يضيف ويصحح المسار، وبلغة معتدلة إنه يرفد بعض النماذج السابقة التي توقفت عند حدود البلاغة والتحليل اللغوي، كما فعل العقاد في العبقريات ببصيرته النافذة وقلمه الثاقب، أو التي توقفت عند حدود القراءة بحياد بارد ولغة تصويرية بسيطة تشبه عدسة الكاميرا أو دفتر اليوميات، كما فعل الشيخ محمد خضري بك في نور اليقين ومحاضرات التاريخ الإسلامي، ومن بعده الدكتور يوسف العش في كتابه عن تاريخ الدولة الأموية.
تشرين الأول 2012
Rezthu
2015-12-19
The paragon of unieastrnddng these issues is right here!
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |