المرآة - قصة للروائي الياباني هاروكي موراكامي ترجمة
خاص ألف
2012-12-28
تبدو كل الحكايات التي نرويها الليلة من نوعين. نوع فيه عالم الأحياء على جهة، و عالم الموتى في الجهة المقابلة. و هناك قوة غير معروفة تسمح لكم بالعبور من طرف لآخر. و هذا يتضمن قصص الأشباح و ما شابه.
النوع الثاني يتحدث عن القدرات الخارقة و الحدس و القدرة على التنبؤ بالمستقبل. و كل قصصكم تنتمي لواحدة من هاتين المجموعتين.
في الواقع، تميل خبراتكم و تجاربكم لتكون تحت هذا النمط أو ذاك. و أعني أن الناس الذين يشاهدون الأشباح يرون الأشباح فحسب، و لا يكون لديهم حدس. أما الذين لديهم الحدس بالمشاكل فلا يشاهدون الأشباح. لا أعلم لماذا، و لكن يبدو أن هناك قابلية خاصة لموهبة أو أخرى. على الأقل هذا هو الانطباع الذي حصلت عليه.
وطبعا بعض الناس لا ينتمون لأية فئة. خذوني أنا على سبيل المثال. في أعوامي الثلاثين التي اتسمت بالغرابة لم تقع عيني على شبح، و لا في أية مناسبة حدست بشيء أو تنبأت به في أحلامي. و لكن توجد مرة واحدة، كنت فيها في المصعد مع صديقين أقسما لي أنهما شاهدا شبحا معنا في المصعد، أنا شخصيا لم أشاهد شيئا. و زعما أنه توجد امرأة بثياب رمادية تقف بجواري، و لكن لم تكن معنا أية امرأة. على الأقل حسب علمي. كان ثلاثتنا في المصعد و حسب. لا مجال للفكاهة و اللهو هنا. هذان الصديقان ليسا من النمط الذي يحب خداع الآخرين. إنما المسألة و ما فيها أن الموقف اتسم بالغرابة. أما فيما يتعلق بالحقائق، فأنا لم أشاهد شبحا.
إنما ذات مرة - لمرة واحدة فقط- مررت بتجربة مرعبة كادت تخنقني. وحصل ذلك من قبل عشرة أعوام ، و لم أخبر أحدا بها.
كنت خائفا حتى من الكشف عنها لغيري. و شعرت لو فعلت ذلك، ربما تكرر وقوعها. و هكذا دفنتها في الأعماق. أما الليلة كل واحد فينا يروي تجاربه المرعبة، و على اعتبار أنني المضيف لا يمكن للسهرة أن تكتمل دون المشاركة بشيء من عندياتي. و قد قررت أن أكسر الصمت و أروي لكم حكايتي تلك. هيا نبدأ.
***
تخرجت من المدرسة الثانوية في أواخر الستينات، حينما كانت الحركة الطلابية في أوجها. كنت أنتمي لجيل الهيبيين، و رفضت الانضمام للجامعة، و عوضا عن ذلك تجولت في كل أنحاء اليابان و عملت بأشغال عضلية عديدة. و كنت أعتقد أن هذا هو أفضل طريقة لأعيش بها. كنت شابا و قادرا. أفترض يمكن لكم أن تقولوا ذلك عني. وكلما نظرت إلى الخلف أشعر أنه كانت لي حياة مبهجة، و سواء كانت خياراتي محقة أو لا، لو سنحت لي الفرصة لأختار مجددا ، سأعيد الكرّة دونما تردد.
في خريف السنة الثانية من التجوال في أرجاء البلاد، حصلت على عمل لشهرين بصفة حارس ليلي في مدرسة ثانوية. كانت مدرسة في بلدة صغيرة في مقاطعة نيغاتا. و أجهدت نفسي بالعمل في ليالي الصيف و رغبت لو أرتاح قليلا. باعتبار أنني حارس ليلي يعني أنني لست في مجال العلوم الصعبة. خلال النهار كنت أنام في مكتب الحارس، و في الليل كل ما يتوجب علي عمله أن أقوم بجولتين حول محيط المدرسة لأتأكد من سلامة الأحوال. وما تبقى من وقت أصغي للأغاني المسجلة في غرفة الموسيقا. و أقرأ الكتب في المكتبة. أو ألعب كرة السلة مع نفسي في قاعة الرياضة. و لم أكن أقلق من وحدتي طوال الليل في مدرسة ليست رديئة المستوى فعلا. هل كنت أخاف؟. كلا على الإطلاق. حينما تكون في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة لا شيء يؤثر بك.
لا أعتقد أن أحدا فيكم عمل بصفة حارس ليلي، و لذلك ربما يجب أن أوضح لكم واجباتي. من المفترض أن أقوم بجولتين كل ليلة، في التاسعة مساء، و الثالثة صباحا. هذا هو البرنامج. كانت المدرسة جديدة تتألف من مبنى له ثلاثة طوابق إسمنتية و من ثمانية عشرة و حتى عشرين غرفة. إنها ليست مدرسة واسعة بالمعنى المعروف. بالإضافة عرف صفوف الدراسة لديك غرفة موسيقا، و غرفة للإقتصاد المنزلي، و استوديو للفنون، و مخبر لتخصصات علمية، و مكتب للمدرسين و مكتب المدير. و فوق ذلك كافتيريا مستقلة، و مسبح، و غرفة رياضة و مسرح. وكان عملي يتلخص في أن أقوم بجولة على كل ما سبق.
عندما خططت لجولاتي، وضعت قائمة من عشرين نقطة. و كلما أمر بواحدة منها أضع عليها إشارة. غرفة المدرسين، إشارة، مخبر العلوم ، إشارة... وكنت أفترض أنه بمقدوري الانتظار في سرير غرفة الحارس، حيث أنام، و أضع إشاراتي حتى دون عناء القيام بالجولة فعلا. و لكنني لست شخصا من هذا النوع المستهتر. ثم لم تكن الجولة تستغرق وقتا طويلا. و فوق ذلك، لو اقتحم المكان غريب و أنا أغط بالنوم، سوف أكون أول هدف له.
على أية حال، كنت أؤدي واجبي كل ليلة في التاسعة و الثالثة، و أقوم بالجولة و في يدي اليسرى مصباح مشتعل، و باليمنى سيف كيندو خشبي. فقد تدربت على استعمال الكيندو في المدرسة و كنت أثق بقدرتي على التصدي لأي متطفل. و لم أكن أخشى من أي مهاجم محتمل لو أنه من الهواة، و حتى لو معه سيف حقيقي. تذكّر أنني كنت في ريعان الشباب. و لكن لو تعرضت لهذه المواقف اليوم لأسرعت بالهرب مثل النعامة.
نعود لموضوعنا. حصل ذلك في ليلة عاصفة في مطلع تشرين الأول. في الواقع كان الجو مشبعا بالرطوبة و ببخار الماء بالمقارنة مع الأحوال العادية من السنة. و كانت أسراب البعوض تئز في المكان منذ المساء. و أذكر أنني أشعلت قرصين من طارد البعوض حتى لا تقترب مني هذه المخلوقات الصغيرة المكروهة. و كانت بوابة المسبح مكسورة و قد كانت الرياح تفتحها و تغلقها باستمرار. خطر لي أن أقوم بالصيانة، و لكن كانت العتمة دامسة، و هكذا استمرت أصوات قرعاتها وهي تتحرك مع الريح.
لم أواجه المصاعب في جولة الساعة التاسعة. و وضعت إشارة صغيرة قرب النقاط العشرين في القائمة. كانت كل الأبواب مغلقة، و كل شيء في مكانه المناسب. و لا شيء غير اعتيادي. و بالنتيجة عدت أدراجي إلى غرفة الحراسة، و ضبطت المنبه على الساعة الثالثة، و سقطت مباشرة بالنوم.
و عندما انطلق المنبه في الثالثة، استيقظت و مشاعر غريبة تغمرني. لم أمتلك تفسيرا لها، و لكن شعرت أنني لست أنا. و لم أحبذ النهوض من الفراش. كما لو أن شيئا يمنعني من مغادرة السرير. كنت من النوع الذي يقفز من السرير مباشرة. لذلك لم أفهم ماذا يحصل. و اضطررت لجر نفسي من السرير و تجهيزها للجولة القادمة. كانت بوابة المسبح لا تزال تضرب بشكل روتيني، و لكن بنغمة مختلفة. و فكرت: أن أجبر نفسي على النهوض سلوك لم أعرفه قبل الآن. و هكذا عزمت على أداء واجبي، مهما كانت الظروف. لو تقاعست عن عملك مرة، سوف يصبح التقاعس عادة. و لم أكن أرغب بذلك. فحملت المصباح و السيف الخشبي و انطلقت.
كانت ليلة غريبة تماما. اشتد عصف الرياح مع إيغال الليل بالعتمة. و كذلك اشتدت رطوبة الجو. و بدأ جسمي يحكني و لم أتمكن من التركيز. ثم قررت أن أتفقد غرفة الرياضة و المسرح و المسبح أولا. كان كل شيء على ما يرام. ما عدا بوابة المسبح التي تضرب بفعل شدة الرياح مثل رجل أحمق يتناوب على هز رأسه بالرفض و القبول. ولم يكن هناك وتيرة محددة لذلك. في البداية هزتان بالموافقة - نعم، نعم - ثم كلا، كلا، كلا... كنت أعلم إنه من المستغرب أن يكون التشبيه على هذا النحو، و لكن هكذا كنت أفكر.
وكانت الأحوال طبيعية في داخل مبنى المدرسة. تفقدت أرجاءها ووضعت الإشارة أمام النقاط المذكورة في القائمة. لم يحصل شيء غير طبيعي، على الرغم من المشاعر الغريبة التي انتابتني. و لذلك قفلت راجعا إلى غرفة الحراسة و أنا في راحة تامة. و كانت آخر نقطة في اللائحة هي غرفة السخّان المجاورة للكافتيريا في الطرف الشرقي من المبنى، بمواجهة غرفة الحارس. و هذا يعني أنه للعودة يجب التقدم على طول طريق الردهة الطويل في الطابق الأول. كان الجو معتما و قاتما. في الليالي التي يشرق فيها القمر، تنتشر إنارة خفيفة في الصالة. و حينما لا يوجد قمر لا ترى شيئا. ولذلك توجب علي أن أضيء بالمصباح ما أمامي لأرى موطء قدمي. وفي هذه الليلة ، على وجه الخصوص، لم يكن الإعصار بعيدا عن المكان ، لذلك غطى على وجه القمر. و أحيانا كان ينفذ من بين الغيوم، ثم سريعا ما يغرق في الظلام.
أسرعت بخطواتي على غير العادة و أنا في الممر، و كان قفا حذاء كرة السلة الذي أرتديه يضغط على غطاء الأرض. كان أخضر اللون، لون طبقة خفيفة من الطحالب. و بمقدوري أن أتصوره الآن.
كان المدخل إلى المدرسة في منتصف الممر، و أنا أمر منه قلت بلا صوت: ما هذا--؟. خطر لي أنني شاهدت شيئا في الظلام. و سال مني العرق. أحكمت قبضتي على يد السيف، و استدرت لأواجه ما رأيت. و سلطت شعلة المصباح على الجدار المجاور لرفوف خزانة الأحذية.
و رأيت ذلك. بكلمات أخرى: المرآة. لقد كان ذلك خيالي في المرآة. لم تكن توجد مرآة هناك في الليلة السابقة. و لذلك لا بد أنهم وضعوا واحدة في الوقت الميت. آه يا شباب. لقد جمدت في مكاني. كانت مرآة طويلة بطول قامة تامة.
هدأت حين تبين لي إنه خيال في المرآة فقط، و شعرت بقليل من الغباء لما امتلكني من دهشة. و قلت لنفسي: تلك هي خلاصة المسألة. يا للغباء. أطفأت المصباح، و أخرجت سيجارة من جيبي و أشعلتها. و بعد نفخة واحدة، نظرت لنفسي في المرآة. و التمع فيها ضوء خافت من الشارع جاء من النافذة و انعكس عللى صفحتها. ومن خلفي، لم تمتنع بوابة بركة المسبح عن الخفقان في العاصفة.
بعد سحابتين من نفخ الدخان، لاحظت فجأة شيئا غريبا. لم يتطابق خيال المرآة معي. فهو يبدو ظاهريا مثلي. و لكنه ليس أنا على وجه اليقين. كلا هذا ليس خيالي. طبعا هو أنا، و لكن أنا مختلف. يا لها من فكرة مستحيلة: أنا مختلف. لا أعرف كيف أعبر عن ذلك. إنه من الصعب أن أفسر مشاعري.
الشيء الوحيد الذي اتضح لي أن ذلك الخيال الغامض يقلقني. في داخله نوع من الغضب مثل جبل جليد يسبح في نهر أسود. هذا هو نوع الغضب الذي لا يستطيع أحد التخلص منه.
وقفت هناك لقليل من الوقت مكبلا بالبلادة. و انزلقت سيجارتي من بين أصابعي و سقطت على الأرض. السيجارة في المرآة سقطت أيضا على الأرض. ووقفنا كلانا في مكانه نتبادل النظرات. و شعرت كأنني مكبل اليدين و القدمين، و لا يمكنني الحركة.
و أخيرا تحركت يده، و لمست أطراف أصابع يده اليمنى ذقنه، ثم ببطء، مثل حشرة، تحسست وجهه. و فجأة لاحظت أنني أفعل مثله. كأنني أنا انعكاس لصورة الموجود في المرآة و الذي يحاول السيطرة على حركاتي.
بحثت عن آخر قطرة من شجاعتي و زمجرت بصوت كالزئير، فانكسر السحر الذي يقيدني بالأرض. و هكذا رفعت سيف الكيندو و ألقيته على المرآة بكل قوتي. و سمعت صوت الزجاج يتحطم و لكن لم ألتفت إلى الخلف و أنا أهرب عائدا إلى غرفتي. حينما وصلت إليها، أقفلت الباب بسرعة، و اختبأت تحت الأغطية. و انتابني القلق على سيجارتي التي سقطت على الأرض. و لكن لم تكن هناك طريقة تجبرني على العودة. لم تكف الرياح عن العويل طوال الوقت، و واصلت بوابة المسبح ضرباتها بصوت مزعج حتى الفجر. نعم، نعم. كلا، كلا، كلا...
لا شك أنكم فهمتم ما هي نهاية قصتي. ليس هناك مرآة على الإطلاق.
بعد بزوغ الشمس، رحل الإعصار. و ماتت الريح بالتدريج و حل مكانها يوم مشمس. ذهبت إلى المدخل. رأيت هناك عقب السيجارة الذي ألقيته. و كذلك سيفي الخشبي. و لكن لا توجد مرآة. ليس هناك وجود للمرايا.
ما رأيته ليس شبحا. كان بكل بساطة - أنا. لا أستطيع أن أنسى الرعب الذي امتلكني تلك الليلة. و كلما تذكرته، تقفز الفكرة التالية إلى ذهني: أشد شيء يتسبب لنا بالرعب في العالم هو نفسنا ذاتها. ما رأيكم؟..
ربما لاحظتم أنني لا أحتفظ هنا في بيتي ولو بمرآة واحدة. و تعلمت بصعوبة كيف أحلق ذقني من غيرها. صدقوني.
من مجموعته الصفصاف الأعمى و المرأة النائمة. بالإنكليزية. منشورات فينتاج بوكس. 2007.
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |