القلق الأبدي، الموت .. الضيف الثقيل، الضيف الأخير
خاص ألف
2013-02-23
بين فلسفة الحرب والتفكّـر 2 2
(( الموت شيء طبيعي. الموت هو موتنا نحن ومع ذلك لا نفكر فيه إلا بوصفه موت الآخرين. المهم أن نستمر في الإبحار . الحرب تواجه الإنسان بالموت وتجبره على الاعتراف به. الموت كدافع للتفكير . الموت عند البدائي. فكرة الروح والخلود والشعور بالذنب. لا شعورنا البدائي تفضحه الحروب)).
" فرويد "
***
ماذا قدمت لكم الحياة ؟ .. وماذا ستقدم إن كانت هي التي تحيا فيكم ويموت جزءٌ منها بموت أحدكم وينقص من ديمومتها في هذه الحالة رويداً رويداً..!!
على سبيل المثال الــ: الكائن المستعد للموت ــ أو الذي يشاهد غيره يتجرّع كأس الموت ببطءٍ كمرضٍ محض طريقه النهائي المحتوم هو ما سُميَ به الخلاص ــ الغياب الأبدي ــ عن حياةٍ يعيشها في لحظاتٍ أخيرة يرى من خلالها قيمة الوجود " المادي ــ الروحي ــ الفلسفي" ويفكَـر هذا الشخص بما عايشه وما سيعايشه في المجهول القادم.
وهنا نتطرق لعظمةٍ الموت عند أشخاصٍ غير عاديين كالفلاسفة أو غيرهم من المفكرين مثال
( سقراط ) عندما حُكم عليه بالإعدام وكان راضياً بتجرّع كأس السُم رغم الهالة الحياتية التي كانت تحيط به من تلامذته الذين أمّنوا له الفرار من السجن مجاوبهم بعد هروبه أنْ علينا احترام القوانين ــ المحكمة ــ ، فتلك هي الطريقة للخلاص الأبدي، شاكراً الله عن طريق طلبه في ذبح ديكٍ قرباناً وتشكراً له، الإله الذي سوف يخلصه من الحياة ويعطيه حياةً أخرى على مستوى ــ اسمه ــ الذي مازال إلى يومنا هذا يرنُ في مسامعنا ويجول في عقولنا ضمن كتاباته وفلسفته التي اجتاحت عقول المفكرين والأدباء قاطبةً.
فهذا الموت بالنسبة للذين يعرفون قيمته ومخارجه الكثيرة لحياةٍ على المستوى الروحي ــ الأزلي ــ هو ذاته الذي يغيّب أشخاصاً طالما تمسّكوا بالحياة على أنهم من الخالدين ( أنصاف آلهة ) تبجّحاً بسلطانهم ومراكزهم وأموالهم.
كيف لنا أن نقف عند مشهد الموت الذي يمر أمامنا كل يوم ولا نلاحظ أننا نعطيه اهتماماً بسيطاً أو بالأحرى تفكيراً لوقتٍ قصير من حيث أنه حدث يلم بالجميع قسراً مع تعدد وجوهه وأسبابه، ولا نفكر ما معنى كلمة موت بعيداً عن غياب الشخص الأزلي وفناء جسده ولغز خروج روحه وتواجدها بمكانٍ ما على حسب المعتقدات الدينية والدنيوية، فهذه المسألة قد تخطر في بال المتفكرين والمهتمين بمسألة الموت على أنها ــ حقيقة مبهمة ــ أمامنا، نراها ونتحسّسها ونتذوقها معنوياً كالماء طبعاً لا لون ولا رائحة ولا طعم، لكنه يشبع الظمأ لدينا بشكل مؤقت ومن ثمة نعاود لطلبهِ مجدداً. فهذه الحقيقة المبهمة لا تشبع فضولنا باكتشافها إذ نطلبها كل يوم وهي كما ذكرنا أمامنا إلا في حالة واحدة قد نعرفها على شكل فردي فقط ــ المتجرّع تلك الحقيقة ــ ولا نستطيع أن نخبر أحداً بها حيث أننا صرنا جزءاً مبهماً منها يتفكّــر فينا الغير وهكذا تبقى المسألة متتالية بعدّة جوانب مظلمة لا تفقه إلا بممارستها فعلياً.
نستطيع التغلّب على الموت في حالة واحدة ولا نجعله يمسّـنا ضمن مخاطر ندخلها ونخرج منها سالمين، وحروب نخوضها وننتصر فيها. هذه الحالة هي أن نجعل لنا عالماً خاصاً ضمن الكتابة وأشكالها في الشعر والقصة والمسرح إذ نخترع أشخاصاً يختارون حيواتهم وحيثياتها بإرادتهم، يعيشون الحياة التي يريدون ويختارون الموت المناسب لهم أو لغيرهم. هذا الاستطراد في الخيال يترك مساحة من العظمة لدى الكاتب في مواجهة الموت مع شخصياته المتعددة، كما يضفي أملاً للقارئ أيضاً حتى لو كان خيالاً مرحلياً يستفيق منه بعد إغلاق الكتاب أو مشاهدة المسرحية وغيرها من فنون تؤطر الموت ضمن إطار إنساني يتحكم به الفاعل بالمفعول أي الموت الذي كان ومازال يتحكم في الحقيقة بالجميع حتى هذا الكاتب الذي انتصر عليه في كتاباته.
الحرب آلهة الموت على الأرض " منجل الأرواح "
جيشان متقابلان، الاثنان لديهما فكرة الانتصار أو الهزيمة .. الموت أو النجاة لغدٍ غير معروف ومستقبل مبهم للجميع، ومع ذلك يقاتل الطرفان لقضيةٍ ما ولهدفٍ سامٍ برأي الاثنين واعتقادهما أنهما على حق رغم وجود الفكرة المحضة ( الموت ) في أي دقيقة والنجاة في ذات الدقيقة. فالشخص الذي يقف وراء أداة القتل ــ سيف ــ بندقية ــ مدفع ــ ... إلخ، لديه دليلٌ قاطع أنه سيكون بين خيارين لا ثالث لهما" كما ذكرنا ومع ذلك يُـأمّل نفسه بالإيجاب ويتنحّـى عن فكرة الخيار السلبي تجاه حياته التي لا يملكها بقراره بل بقرار ما هو فيه الآن ــ الحرب ــ التي تحكم على الجميع في ساحتها ضمن مقاييس القوى وتوازنها أو عكس ذلك.
طالما كانت الحروب عبر العصور هي منجل حصاد الأرواح الجماعية والحيوات التي اخترعتها بشكل متقصّد أحياناً، وأحياناً تأتي فجأةً بغير رغبة الطرف الآخر فيها.
فما هو الإثبات الواقعي الذي يجعلنا نعرف ماهية الموت في الحروب وطعمه وماهية الموت وطعمه أيضاً في الحالات العادية له؟!
إن جئنا إلى فلسفة الموت من ناحية حتميته ووجه الواحد، فنقول هو واحد .. أما إن قلنا ما هي أسبابه وأشكال قدومه على الفرد أو الجماعة، فهذه معروفة لدى الجميع من حيث ما سمعنا عنه وما نراه أو نجرّبه ــ نظرياً وعملياً ــ على غيرنا، فهنا تسقط فكرة أن الموت بطعم واحد، لأسبابٍ كثيرة منها حالة الموت السريع وعكسه ومدى الألم ومعايشته لفترة وجيزة أو طويلة، والمثال على ذلك إن قلنا في ساحة الحرب الذي يُصاب في رصاصة غير قاتلة تنقله هذه الحالة إلى رؤية الموت بوجهٍ آخر ولربما يتحول هذا الوجه إلى الوجه الحقيقي على حسب تطور حالة الجريح ومدى فرصة نجاته أو سقوطه. والذي يـُنسف نسفاً من قبل قنبلة أو صاروخ نظن أنه لن يشعر بالموت ولن ينتبه لشيءٍ حوله سوى أنه غاب في نظر الآخرين وتحول إلى أشلاء منذ قليل كانت جسد ، روح ، كينونة؛!!.
فللموت هيبته في الحروب، وهيبته على كافة الأصعدة وحالة قدومه، لكن إن قارنّـا كما ذكرنا سابقاً بين ميتةٍ سهلة وميتةٍ صعبة نجد أن الخيار الأول مرغوبٌ لدى الجميع رغم كره هذا الحدث الذي لا بدّ منه في يوم من الأيام.
الموت ــ التفكّــر ــ
إن إثارة لغز الموت وتضارب الأجوبة التي لم تكن شافية على الصعيد الفكري، أثارت أسئلة عن الكثير من المفكرين والفلاسفة الذين رأوا في الموت حاجة ملحّـة لا بدّ منها تأتي بنسب وأزمنة متفاوتة من ناحية بدئها العملي مع الإنسان والحيوان كذلك. فالإنسان عندما يموت في نظر الماديين هو يفسح مجالاً لإنسان آخر في الحياة رغم أهمية الشخص أو عدم أهميته من باب التوازن الاجتماعي، فإذا افترضنا عدم وجود الموت أي فكرة الخلود للجميع منذ بداية الحياة على الكرة الأرضية، فلننظر إلى الكارثة التي ستحصل عندها! من بشر وحيوانات ونبات وحشرات... ننظر هنا إلى وجه الموت الإيجابي في تقليم أطراف الحياة وما له من فائدة تعود أصلها في خدمة البشر أولاً وبالتالي في خدمة باقي المخلوقات، رغم كره الإنسان لهذا الحدث ونفور الحيوانات منه أيضاً، حيث أن الحيوان لا يفقه معنى الموت إلا بالغريزة أي ــ الخطر ــ ونفوره منه!.
الإنسان الأول كان ينظر إلى الموت نظرةً مختلفة عن نظرة الآخرين في العصور التي تلتهُ؛
فمسألة الموت عنده أتت في تراكم قليل لما لم يره من موتٍ كثير حوله بسبب انعزاله عن الآخرين وعدم اختلاطه بهم وما يلم بهم. فنظرته إلى موتِ أحدهم إن كان عدواً نظرة ملأى بالانتصار والشعور الإيجابي تجاه هذا الحدث المخيف!.. ونظرته إلى موتِ قريبٍ منه، نظرة تختلط بالأولى مع الشعور السيئ الذي يطغى على جزءٍ كبير من النظرة الأولى. فهنا أتت الحيرة عنده والتفكّـر في هذا اللغز الذي له وجهان يريد منه وجه واحد لغيره، لكن أن يتقبله لنفسه أو لشخصٍ يحبّــه فهذا الأمر الذي أدخله في مجاهيل لا خروج منها في التفكير والتأمل والبحث عن جواب حتى لوكان جزئياً أو مبدئياً يضع قدمه في بداية طريق حل هذا اللغز المبهم.
يقول سيجموند فرويد في كتابه " الحب والحرب والموت : ( يدّعي الفلاسفة أن صورة الموت حيّـرت الإنسان البدائي، وأن لغزه دفعه دفعاً إلى التفكير، وأن تفكيره كان نقطة البداية لكل تفكير فلسفي على الإطلاق. ولا أظن الفلاسفة على صواب فيما يزعمون، وأحسب أنهم قد تزيدوا في تفلسفهم، وأنهم لم يولوا الدوافع الحقيقية العناية الواجبة. وأنا لذلك لن أشطح مثلما
فعلوا، وسأتولى تصحيح ما أخطأوا فيه، فلم يكن الإنسان البدائي، وهو يرمق جثة عدوه المطروحة في الجوار، يرهق ذهنه بالتفكير في لغز الموت والحياة، لكنه كان يزهو بما حقق من انتصار. ولم يكن يثيره لغز الموت، ولا أي موت، ولكنه كان يرفض تقبل موت العزيز، وتتضارب إزاءه مشاعره، فهو من جهة يحبه ويعتبره جزءاً من نفسه، ومن جهة أخرى كان إنساناً مغايراً ليس جزءاً منه وهو ما يكرهه فيه. وهذا التقارب في المشاعر هو الذي كان يطلق طاقة البحث فيه، وهو نفسه الذي أولد علم النفس، فالإنسان لم يعد في استطاعته أن يستبعد الموت من تفكيره، لأنه ذاق أساه في موت احبائه، لكنه مع ذلك لم يستسلم، تماماً أمامه، ورفض أن يعترف به).
إن أنماط الحياة ما بعد الموت في أذهان البشر على حسب معتقداتهم كما ذكرنا في الجزء الأول من الدراسة تختلف اختلافاً كلياً من حيث تصورهم أن هناك حياة ما بعد الموت لها أوجه عدة يعيشها الشخص الميت بسعادة إن كان خيّراً قبل أن يموت، ويعيشها في حزن وألم إن كان سيئاً في حياته السابقة. وهنا دلالة على إيمان المجتمعات القديمة وما بعدها بالموروث الديني والفكري تجاه الموت وعلله ونتائجه، ويتضاءل هذا الإيمان وقد يزول إن ولجَت العقول في التفكّــر بعيداً عن معتقداتهم في ماهية الموت وما بعده وطرق قدومه وأبوابه.. فالتفكّر في أي شيء يطرح فكرة جديدة عنه يتبناها العقل إن كانت معقولة وقد يمجّــها إن كانت ركيكة لا تناسب الحدث الذي يفكر فيه.
وهناك مجتمعات تؤمن بأن الشخص الذي يموت تعود روحه لشخص آخر يولد في مكان آخر، أو ترجع إلى حيوان أو نبتة، ويعيش هذا الشخص حياة جديدة بأحداثٍ جديدة، وقد يتذكر حياته السابقة أو الأشخاص الذين عاش معهم. فتلك هي فكرة ( التقمّص ) التي لها جوانب كثيرة وتحتاج إلى بحث عميق وطويل في المعتقدات والموروث الثقافي تجاه فكرة الموت لتلك المجتمعات.
ونترك السؤال هنا مفتوحاً للجميع في لغز الموت بعيداً عن الأيديولوجيات والثقافة على أن الموت هذا الحدث المحيّر قد يطرق باب أحدنا يوماً من الأيام، فماذا علينا أن نفكّـر فيه حالياً وبعد ذلك وفي تلك اللحظة الحاسمة والأخيرة؟؟؟.
هوامش :
ــ الحب والحرب والموت / سيجموند فرويد "
دراسة وترجمة د. عبد المنعم الحفني ــ دار الرشاد / الطبعة الأولى 1992
ــ لغز الموت / د. مصطفى محمود / دار المعارف
08-أيار-2021
15-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
03-نيسان-2021 | |
27-آذار-2021 | |
06-آذار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |