شرفات
خاص ألف
2013-03-26
-1-
ينهار كلّ ما بداخلنا، فتفقد أقدامنا قدرتها على حملنا، ولا نستطيع حتى الرؤية جيداً كي نصدق أن مَن أُصبنا بالخيبة منه هو مَن كنا يوماً نرى فيه انعكاساً لذواتنا في المرآة.
كان يومي كغيره من الأيام، عقارب الساعة أصابها الخمول، لا أدري ما العمل لأجعلها تسرع وتسرع كي أسابق الزمن وينتهي انتظاري.
حديثي معه في تلك الليلة كان دفعة أمل لي؛ فشكواه جعلتني أدرك بأنني لستُ وحيدةً في هذا المنفى، كانت تلك أول مرة يتكلم فيها عما يضايقه، فلم أره يوماً يحدّث أحداً بمكنونات قلبه، بل كان دائماً يملك من السعادة ما يكفي لإسعاد المحيطين به، فبرغم كل شيء كان صبوراً وقوياً.
لذا كانت دهشتي كبيرة حين جاءني يومها محدّثاً عما يقلقه ويزعجه، فكرتُ كثيراً في كلامه، ما الذي حدث حتى تبدل كلّ شيء بعد كلّ المتاعب التي واجهاها ليكونا سويةً؟ ما الذي جعله ضائعاً هكذا؟
تحدّثنا ساعات طويلة، حاولتُ فيها مراراً أن أصل إلى سبب مشكلته، لكن عبثاً، اشتكى من وجودها المتواصل في حياته، وهو الذي كان يبحث عن فرصة يراها أو يكلمها فيها من قبل.
الحبّ ليس مهماً بذلك المقدار كي يجعله هشاً للغاية، لا شيء في هذه الحياة يملك الصلاحية في جعلنا أنصاف بشر وضعفاء أمام أي نسمة تلفحنا، أليس من أشدّ الأخطاء التي نرتكبها بحق أنفسنا أن نجعلها ذليلةً لهذه الأمور؟ وفي النهاية ليس من حقه أن يشتكي منها، فمَن بدأ الانقلاب على تلك المشاعر الجميلة هو، هو مَن تغير بعد غيابه الذي دام سنتين، وهو مَن كان قاسياً معها في كلّ الظروف، فكيف لي أن أسانده في غلطته؟ لكنني قلتُ له بأنه على حق، لأنه كان في تلك اللحظة طفلاً كسر لعبته وجاء باكياً شفقةً على نفسه وخوفاً من لومه وعقابه.
أخذني الشرود وأنا لا أزال أقفُ أمام الشباك، لم يعدني من شرودي سوى صوت جرس الساعة معلناً احتضار يوم آخر في غيابك، أصابني التعب لطول فترة وقوفي، حتى أحسستُ بخدر في ساقي اليمنى حيث اتكأتُ عليها، ذهبتُ لأتمدد على السرير قليلاً، لكن غافلني النعاس وأنا أراقب مروحة السقف وهي تدور وتدور في حلقة مفرغة كأيامنا، كلّ همها أن تؤدي مهامها جيداً في تبريدنا، نحن مَن باتت أرواحنا مسكونة بالبرد
-2-
اللهفة.. الشعور الذي يطير بك ويقتلك ببطء كلما زاد عن حده، لحظاتٌ من الزمن، تضيع فيها المعاني والمبادئ، نفرح بولادتها داخلنا، ولا ندرك أبداً بأن تلك اللحظات الصغيرة تُمسي شوكة منغرسة في قلوبنا حالما تبدأ بالطرق على أبواب ذاكرتنا.
لا أستطيع أن أنسى التعبير الذي كسا وجهها حين علمت برغبته في الانفصال عنها نهائياً، جاءت إليّ يومها سعيدة ظناً منها أن كلّ شيء سيكون على ما يرام. كانت أضعف من أن تتحمل ما حدث، سمعتُ ليلتها بإسعافها إلى المستشفى، بعد إصابتها بتشنجٍ معديّ حاد نجم عن صدمتها ، وما أذهلني حقاً هو عدم اكتراثه بما حلّ بها، أيُعقل أنها لم تعد تهمه إلى هذه الدرجة أم أن قوته التي عهدتُه عليها ظهرت الآن ولم يستطع أن يظهر ضعفه واهتمامه؟
كنتُ قد التقيتُ به بعد أسبوع من الليلة التي تحدثنا فيها، كان مرتاحاً أكثر، ظننتُ حينها أنه قرر رسم بداية جديدة مع مَن يحب، جلسنا في مقهى يتربع على تلّةٍ صغيرة تطل على البحر بزرقته الجميلة، تبسم قليلاً وأخذ يجول بناظريه بين البحر تارةً وفنجان قهوته تارةً أخرى دون أن ينبس ببنت شفة، لم أسأله شيئاً، كنتُ بانتظاره أن يبشرني ويفشي بسرّ راحته، نظر إليّ قائلاً: أنهيت كلّ شيء.
كل ما استطعتُ أن أفكر فيه لحظتها هو كيف استطاع بهذه السهولة أن يمحي ماضيه ويقرر المضي وحده؟ هل وجد بعد ما حدث أن حياته تسير في اتجاه خاطئ لا يريدها أن تستمر عليه؟ بقي الصمت يلف وجودنا، إلى أن كسر صمته بإخباري برغبته في السفر إلى إيطاليا حتى يبدأ من جديد. لم أفهم لماذا كان السفر حله الوحيد، أهو الضعف وعدم القدرة على المتابعة في مدينة باتت ذكرياته معها معششةً في كلّ ثناياها أم مجرد رغبة في الابتعاد فقط؟
يوم افتراقنا لم تكن لديّ الجرأة لأبتعد عن كلّ ما يربطني بك، فقد كوّنتُ من وجودك كياناً بداخلي صعُبَ عليّ قتله، كنت دوماً بخير بإحساسي أنك تعيش في الحيز بين جسدي وروحي.
-3-
شعورٌ جميلٌ مهما كان ممزقاً لأرواحنا العطشى للنوم بسلام،هو الحنين الذي يشكل غشاءً لقلوبنا التي بدأ نبضها يئن كثيراً على أيام صلّبتنا بلحظاتها وكبّلتنا بقيود محاولاتنا في استرجاعها.
لطالما كرهتُ حلول الليل، لأنه دوماً يبشرني باقتراب موعدي مع رحلة اللاعودة في دوامة أفكاري.
استيقظتُ فجر ذلك اليوم بنشاط غير معتاد، لم أتمكن بعدها من النوم مجدداً، كانت الشمس في بداية إشراقها ونسمات الهواء باردةً، لدرجة أصابت جسمي بالقشعريرة.
لقد مضى على سفره شهران وعلى غيابك دهرغير محتسب بالشهور والسنوات، التقينا يومها قبل سفره على غير العادة، فلم نلتقِ في المقهى ذاته الذي اعتدنا على ارتياده طوال السنوات التي جمعتنا بل ذهبنا للسير على شاطئ البحر، تحدثنا في أمور كثيرة؛ سفره وأوراقه وما سيفعله في بداية وصوله لإيطاليا، وعن كلّ مخططاته للعمر الآتي.
لم أتمكن من أن أستوعب كيف يكون أنانياً إلى هذا الحد ويفكر بالبدء في حياته من جديد، وعلى الطرف الآخر ثمة مَن غرقت في اختناقها بدونه؛ تلك الأنثى التي وعيت على الحياة وكانت أقصى أحلامها أن تكمل حياتها معه وكان كل ما قدمه لها هو عمر من الأمل المذبوح.
لحظة الرحيل مؤلمةٌ، جداً فكيف له أن يرحل دون أن يمر للقائها ولو لمرة واحدة، ربما يتألم، لكن مَن يعاني أضعاف ألمه بقيت تتخبط في نبضات حنينها، فهي لم تختر الرحيل، بل هو الذي أجبرها عليه. من الصعب أن نقرر المضي وترك كلّ شيء خلفنا، لكن الأصعب أن نكون الباقين خلف مَن يرحلون، نذوب كالثلج بهدوء وصمت ممتلئ في غيابهم.
سرنا حتى أعلنت الشمس موعد رحيلها أيضاً كي تلد في الغد، الغد الذي يحمل خلفه أسراراً كثيرة عنه وعنك، أنت الذي يجب أن ألغيك من ذاكرتي كي أتمكن من استرداد حريتي في العيش بعيداً عن سجونك، وبعيداً عن هذا الحنين الذي يخلق ضوضاءً كبيرة في أعماقي كلما حاولت أن أغفو قليلاً.
شفين إبراهيم
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |