خيوط العنكبوت
خاص ألف
2013-03-26
وصل اليوم سعيد، و هو يرتدي البذة العسكرية، بذة المغاوير التي تعطي الإنسان هيبة، و لو أنه صغير السن و يافع.
و كنت أفكر بالحصول على بذة، من هذا النوع، مع بوط نظامي. و لو نجحت بذلك لم أكن سأتساهل حياله، و سأحافظ عليه يلمع، حسب القانون الأول في النظام منضم. و لئن لم تكن عندي خبرة حقيقية بهذه الأمور، فقد سمعت بها من أخي الكبير الذي خدم في الجيش الإجباري، و استشهد عند حاجز، منذ الأيام الأولى لاندلاع الأحداث.
لم تصدق الوالدة الخبر، فهي تعتقد أنه جوهرة هذه العائلة، لأنه يحمل شهادة جامعية ، و يخدم في الجيش بصفة ملازم ، و ليس بمرتبة رقيب أول أو ما شابه مثل أبناء الجيران الذين انسحبوا من الدراسة عند البكالوريا.
و لم تفق من أثر الصدمة حتى هذا اليوم. و غالبا ما تختلس الفرصة، بعد أن نأوي للفراش، لتجلس وحدها و تحضن صورته المؤطرة في خشب مدهون باللون الذهبي و تبكي.
**
كان سعيد مثلنا من بين المنكوبين الذين خربت بيوتهم بسبب الأحداث. و يوم أصابت القذيفة البناية التي نسكن فيها انفصلنا. ذهب مع عائلته ليعيش في مدرسة مع بقية النازحين، و قادنا الوالد إلى حديقة عامة قريبة من المكان الذي يعمل فيه، قبالة المسبح البلدي. في أرض استولت عليها الحكومة لإقامة حديقة للحيوانات، ثم اختصرت الموضوع بسبب التكلفة الباهظة لحديقة فقط.
وهناك بمعونة أهل الخير نصب الحبال على جذوع الأشجار، و ربط عليها الملاءات القوية و المتينة العازلة للضوء، و هيأ مكانا مناسبا لنأوي إليه في النهار، و ننام فيه ليلا. و حسب رأيي كانت الحياة هنا مقبولة.. فيها حرية و معها دخل إضافي. فالوالدة بدأت بكسح بعض الأشجار و بيع الحطب لسائق سرفيس بثمن منخفض. و لم تواجهنا غير مشكلة واحدة، هي البرد بعد أن يخيم الظلام.
**
لم أتوقف منذ لحظة النزوح عن اللقاء مع سعيد من وراء ظهر الوالد الذي أراد منا أن نترك الماضي خلفنا، و أن نفكر بالمستقبل.
هل كان هذا بسبب النهاية المأساوية للماضي ؟ هل هو بسبب أشياء عزيزة على قلبه و فقدها و لا يحب أن يتذكرها؟!..
مثلا ضياع بيتنا الذي وضع فيه خلاصة عمره و كل ما جناه من كده و تعبه. أضف لذلك ابنه الذي يشير له أمامي باللقب المجرد : أخوك. أو أمام الوالدة باللقب العام: ابنك. و كأنه ابنها الوحيد و نحن غير موجودين.
**
و كان سعيد مثلي لا يذهب للمدرسة منذ بداية الأزمة. و كيف نذهب لمدارس لم يعد لها وجود. فهي إما تحولت لركام أو لملجأ للمشردين من أمثالنا.
وفي أحد الأيام الغائمة اتفقت مع سعيد أن نلقي نظرة على مدرستنا في حينا السابق.
تسللنا لهناك تحت جناح الغيوم الداكنة، و كانت السماء تمطر بشكل خفيف، و الحق يقال لم نجد في تلك المنطقة أثرا يدل على وجود حياة سابقة. لقد شاهدنا أنقاضا من الحجارة، و لم يكن بينها شيء يقف على قدمين فوق الأرض غير مستوصف. و حتى هذا لم نتعرف عليه إلا بصعوبة.
لقد كانت الواجهة متماسكة، و تحمل إشارة الهلال الأحمر. و سارية العلم فوقها، و لكن من غير راية. لم نشاهد شيئا مربوطا بالسارية و يرفرف تحت السماء كعهدنا به دائما. و الأرجح أنه احترق باللهب، أو أنه سقط و تمرغ فوق الأرض تحت الخشب و الحجارة.
**
و لم نعد أدراجنا من حينا السابق مباشرة. لقد تجولنا هناك و نبشنا بين الأنقاض. على ماذا كنا نبحث. لا أستطيع أن أجزم بجواب قاطع.
كان يحدونا الفضول و الاستغراب من هذه الأيام التي تحولت فيها منطقة سكنية و بطرفة عين لمقبرة.
حتى المقابر لها شكل و نظام. و توجد بين الأضرحة دروب ليسير عليها الزوار، و لكن هنا اختفى كل شيء. و لم يعد بمقدورك أن تقول أين بداية الشارع و أين نهايته.
**
سألت سعيد: من أين حصل على هذه البذة؟.
فقال: لديهم في المدرسة بين اللاجئين خياط. ووصلت له بذة من عسكري ميت. وقصها أمامه ثم عمل عليها لعدة أيام وفصّلها له حتى صارت بحجم مناسب.
سألته: و هل كانت ماكينة الخياطة معه.
رد يقول بشيء من الحنق: كلا، و إلا لكسبت أيضاً رتبة عالية، انظر..
و ألقيت نظرة على الكتافيات التي أشار لها. كانت أدنى من نسر و نجمة. و لم أستطع أن أحدد ما هي تلك الرتبة. فقد كانت بلون غريب و شكل غير متمايز. لم أرَ في جيشنا كله رتبة لها هذا الرمز. ثم انتبهت لبقية النواقص، فالسيدارة لا تحمل النسر الذهبي، الإشارة الخاصة بجيشنا الوطني. و لم يكن في قدميه بوط و لا جوارب سميكة مثل تلك التي تباهى بها أخي الشهيد و هو في الخدمة. لقد كانت جواربه عادية و ممزقة من ناحية الأصابع. و رأيت أنه يرتدي الشحاطة البلاستيك. و عوضا عن البارودة حمل بيده غصن شجرة لا تزال تعلق به بعض الأوراق الذابلة.
سألته و أنا أسخر من هيئته الانكشارية: و كيف ستهاجم بهذا الغصن؟!!..
عبست تقاطيع وجهه، و لعله شعر بمقدار الغيرة و الحسد اللذين أشعر بهما من جراء حسن حظه و لو أنه ناقص، و قال لي: و هل سنفتح به القلعة؟هذا للدفاع عن النفس فقط..
القلعة؟!!!....
وهل هناك قلعة بعد الآن. لقد رأيت عمودا من الدخان يتصاعد فوقها منذ حوالي أسبوع. و سمعت الوالد يخبرنا و نحن على طعام الغداء، في بيتنا الجديد في الحديقة، إنهم ضربوا القلعة، و كسروا فيها برج الأسد و الثعبان. و كنت أعلم أنه تحفة معمارية. فقد أخذنا الأستاذ برحلة لهناك من عدة سنوات. و أوشكت أن أسأل : و هل أصاب مقام الخضر الضرر أيضا؟. و لكن لاحظت أن مزاجه متعكر، فأخلدت للصمت.
في مثل هذه الحالات لا يتقبل الوالد أية مداخلة، و القانون أن يتكلم هو، و نحن نصغي.
**
وفي هذه اللحظات سمعنا صوت عجلات القطار و هي تقترب على السكة. فالحديقة قريبة منها و جسر مرور القطار يعلو فوقها بعشر أمتار و ربما أعلى قليلا.
رفعنا عيوننا لنشاهد العربات التي تتقدم نحو الحديقة. بعد قليل سوف يمر القطار من فوقنا و سيتسنى لنا رؤية النار التي تخرج بشكل شرارات صغيرة كلما احتكت العجلات المسرعة بالقضبان أو حجارة الغرانيت الموزعة بينها. هنا لا يوجد شيء غير حديد و حجارة صلبة فاحمة.
و عندما أصبح القطار بمرمى أبصارنا، رأيت سعيد ينحني على الأرض، و يلتقط حجرة مدفونة تحت كومة من أوراق أشجار تساقطت في هذا الموسم ، و لا أعرف كيف استطاع أن يراها. ربما هذه البذة تغير من حدس الإنسان . ربما تشحذ عيونه و حواسه. ثم رأيته يرفع يده بالحجرة و يجمع كل قواه ثم يلقيها على القطار.
و انطلقت من يده و هي تصفر، ثم شقت الهواء و ضربت النافذة. و سمعنا صوت الضربة و رأينا كيف تأثر الزجاج، و ارتسمت عليه شقوق لها هيئة خيوط شبكة عنكبوت.
شباط - 2013
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |