صلوات توراتية وبوح جنسي "قراءة في شعر مكسيكي"
خاص ألف
2013-04-20
بين الصلوات التوراتية والطقوس التلمودية ثمة مساحة للبوح الجنسي والرغبة العارمة التي غادرت خِدر الحياء مهاجرة في مسارات, وهائمة في مدارات الأنا الشاعرة. الأنا التي لا تخجل من رغباتها وخوفها, بل تقتحم الحياة كشجرة مدّت جذورها عميقاً في تربة الرغبات الوجودية وإثبات الذات بالبحث المتواصل عنها. أتحدث هنا عن الشاعرة المكسيكية كَلوريا كَرفتز, وهي من مواليد 1943 في مدينة مكسيكو ستي, الشاعرة حفيدة لمهاجرين يهود من أوربا الشرقية. أصدرت مجموعتها الأولى عام 1979 بعنوان "شخاريت" وتعني صلاة الفجر بالعبرية. تم أكملت رحلتها الشعرية وأضافت للمجموعة الأولى مشروعها الحياتي و وضعت الجميع في ديوان سمته "هجرات" وهو ما سنلقي عليه نظرة ونخطف منه لمحة. بالمناسبة ديوان هجرات صادر عن دار المتوسط لتنمية القراءة والتبادل الثقافي بالاشتراك مع دار نون للنشر. أصبح ديوان هجرات وهو "مشروع حياتي لاينقطع" على حد تعبير مترجم الديوان السيد جاسم محمد, الذي يكمل قائلاً: "القصيدة توسعتْ تمددتْ ارتفعتْ وكأنها الكون في صيرورته, وكأنها الهجرة ذاتها- هجرة خارج الجسد وداخله. وكل مرة تصدر فيها القصيدة يتغير شيء ما, حتى حين تصدر مترجمة. هكذا هي الحياة, هكذا هي الهجرة – مشروع دائم ينبش في الذاكرة كمنبع تتدفق منه القصيدة".
في مستهل قصيدة أيلول تستشهد الشاعرة برابي سوسيا وهو شاعر قال قبل موته: حين أقف على عتبة السماء سوف لن يسألوني: لماذا لم تصبح كموسى؟ وإنما: لماذا لم تصبح كسوسيا؟ لماذا لم تكن من كان بوسعك أن تكون؟ هنا نتوقف مع الشاعرة التي تجمع الصلوات مع الرغبات وتنتقل من الطقس إلى ما يمور في جوانح النفس. تذكر الشاعرة جدتها فتقول: كانت جدتي مكسيكية كاثوليكية الديانة, لكن العائلة لم تعر الطقوس الدينية أهمية تستحق الذكر. وقد فوجئت بدخول عالم اليهودية في كتابتي, خاصة في الأجزاء الثلاثة الأولى. ما كنت أعلم أن موضوع ذلك العالم والغربة والهجرة كان كامناً فيّ. وتقول في موضع آخر عن القصيدة "إني أنتظرها, استقبلها حسب ايقاعها, أنفذ ما تطلبه مني". نقرأ أبيات من قصيدة من أول مجموعة "شخاريت" قدمت لها بكلمات لجيورجيوس سفريس يقول فيها "الذكرى تؤلم أينما تلمسها". تقول أولى كلمات القصيدة:
"في هجرة القرنفل الأحمر, حيث الأغاني تتدفق من مناقير الطيور الطويلة
والتفاح يتعفن قبل الكارثة والنسوة يداعبن صدورهن ويلمسن أعضائهن
في تعرّق مسحوق الرز وقت الشاي".
و بعد أن تأخذنا القصيدة عبر مسارات وصلوات مثل الصلاة الوردية وهي الصلاة الأكثر انتشاراً لدى الكاثوليك, شرقاً وغرباً, لسهولة تعلمها وجماعية ترتيلها. وهي نوع من الصلاة الفكرية والشفوية. وتأمل في أقدس أسرار الخلاص: الثالوث, التجسد والفداء, ومراحل حياة المسيح والعذراء. وتتكون من خمسة عشر بيتاً أو سراً. تنتقل بنا الشاعرة عبر صدى "الشوفار": وهو أحد أدوات الطقوس الدينية التي يحتفظ بها في المعبد اليهودي وهو قرن الكبش, الذي ينفخ فيه في صلاة الصباح أثناء الشهر الذي يسبق عيد رأس السنة العبرية, وفي يوم العيد نفسه, وفي يوم الغفران. فتقول: "في لون المطر الأبيض, في ساحة ديل كارمن, عند الخامسة فجراً, تصلّي جدتي الصلاة الوردية, وفي الخلف يتفتح صدى الشوفار, مفتتحاً عاماً جديداً وصوب أقصى شمال غرب الغياب ترحل الكلمات مذهولة واللعاب والأرق وفي أقصى الشرق أمارس العادة السرية وأفكر فيكِ, زعيق النوارس, الفجر, زبدُ جناح الهبوط السريع, لون أزهار الجهنمية, وموسمها لكِ. دقيق البذور يعلق في أصابعي. عانقيني. ذروة المطر, ورائحة البنفسج والغبار المحموم فيكِ, الكلمات ليست سوى صلاة مديدة, ضرب من الجنون إثر ضرب من الجنون".
في أحد الأحاديث معها عن مشروعها الشعري تقول كَلوريا: "أكتشفت ذاتي في القصيدة, أدخلتني في زمنها و تفاصيلها عنوة, وأنا القليلة الصبر تعلمت الصبر". من هذا الصبر احتلت الشاعرة مكانتها في الشعر المكسيكي. يشير الناقد الفنزويلي ميغيل غوميز في "انتولوجيا الشعر المكسيكي (1950- 2005) إلى أنه يمكن التمييز الشعراء المكسيكيين عن بعضهم البعض ليس عبر أساليبهم الكتابية بل عبر نظرة الشاعر إلى مكانه وتأريخية دوره. إذ أن الشعراء المكسيكيين يهتمون بالاستمرارية والتاريخ وبعلاقتهم بمن سبقوهم. الخروج عنهم سبيل محتمل لكن ليس رغبة آنية. ويذكر أن الشعر الحديث ينصت إلى الواقع كما هو لكن في الوقت ذاته, كما هو الحال مع كل الفنون, يدّون العالم ويحاول تغييره". عن هذا المعنى نقرأ للشاعرة: "أنا تلك التي دائماً كنتُها. اللامرتقب في كينونتي أعود إلى مكان البدء حيث البداية تبدأ, هذا هو الزمن زمن الصحوة ومن موتها تشعل جدتي شموع السبت وتنظر إليّ والسبت يمتدُ إلى البدء, إلى الفيما بعد, إلى الفيما قبل, جدتي التي ماتت من الأحلام تهدهد بلا انقطاع الحلم الذي يبتكرها, الذي أبتكره. صبية جامحة تنظر إلي من الباطن....أنا بِكر".
تتقمص كلوريا في شعرها أكثر من شخصية وتلعب أكثر من دور فهي الفتاة وهي المرأة المسنّة وهي الوليد وأمه في نفس الوقت بتبادل للمواقف وكأنها تلعب أكثر من دور في مسرحية يشكل فيها الحوار الداخلي والمنولوج النفسي محور القصيدة. نقرأ لها في دور الفتاة التالي:
"دهنوني بالطيب
والريحان
سندوني لأني كنت أترنح
هدهدوني لأنام في سماء بنفسجيةٍ
جاثية على الحصير
غسلتُ فرجي
بظري متصلبٌ ممتليء
لا مهرب لي سواك".
أما في الدور الثاني فنجدها وقد تقمصت مشاعر إمرأة مسنّة تحررت من شيء ما يخصها فنقرأ التالي:
"تتحرر من ظلها. إنها مسنّة ولا تزال جميلة. لا تمسها الكلمات.
بشرتها أتلفها غياب اللمس.
ولا أصوات هناك تُسمعُ. الحياة ليست سوى هجرةٍ. أن تكون هنا لأجل شيء.
آه كيف فنيتِ في داخلي".
ختاماً نقول أن الذي أوردناه لا يكفي لما أردناه فـ (هجرات) يحتاج إلى هجرة إليه وقراءة في كم هائل من الصور والمفردات يجمعها الاسترسال والانتقال من صلاة إلى رغبة ومن دعاء إلى بوح هذا هو ما تتقلب به قصائد الديوان الذي يشكل اطلالة على قامة من قامات الشعر المكسيكي أو لنقل على قامة شعرية من "العالم الجديد".
08-أيار-2021
21-تشرين الثاني-2013 | |
16-تشرين الثاني-2013 | |
05-تشرين الثاني-2013 | |
26-تشرين الأول-2013 | |
15-تشرين الأول-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |