رحلتي من الشك إلى الشك ج 7 ــ 8
خاص ألف
2013-04-26
قادني الحراك الفكري سالف الذكر إلى الالتفات لقضية لم تأخذ نصيبها من الاهتمام ولم أكن أعيرها الانتباه اللازم وهي قضية دراسة التاريخ والأساطير التي كونت المخزون النفسي لجميع المتبارين كالديكة في ساحة الخلافات الفكرية والسياسية. من هنا تحولت من قراءة السياسة والدين إلى قراءة التاريخ الذي صنع السياسة وإلى قراءة الأساطير التي سبقت الأديان وإلى البحث عن الخيط الواصل بين المعتقدات المختلفة. بعد أن كسرت الهالة المقدسة التي تحيط بمن حوّل التاريخ والدين والأساطير لخدمة مصالحه السياسية. فكانت كتابات جيمس فريزر في (الغصن الذهبي) وصاموئيل كريمر وكتابه الصغير الحجم الكبير القيمة (منعطف المخيلة البشرية) مع ملحمة جلجامش وإسطورة الخلق البابلية (الإينوما إيليتش), خير أنيس وجليس أخذني بعيداً عن المهاترات السياسية (العراقية) التي لا تضيف شيئاً ذا قيمة. فانشغلت بالأهم واهتممت بما يشغلني. وابتعدت قدر الإمكان عن ذهنيتين نستطيع أن نشبّههما بالماء في طريقة سيره, فهما لاترتفعان إلى الأعلى بل تميلان بطبعهما وتنسكبان نحو الأسفل بفعل جاذبية السهل والهيّن وإن إدعتا إنهما تطالان السحاب وتناطحان الصخر الأصم وتحللان مايجري من تفاعلات كيمياوية بداخله بتقنية "الفمتو ثانية" التي اكتشفها العالم المصري أحمد زويل, وتفسّران الأحداث بعلمية وحيادية. الذهنيتان هما: الذهنية القدرية التي تلغي دور الانسان ككائن حر ومسؤول عن حريته وبالتالي يتحمّل مايختاره, وتحيل الأمر في كل شيء إلى قوى غيبية تتدخل في كل شاردة وواردة ولها رأي في أدق تفاصيل الحياة البشرية، وذهنية أخرى تشكو من مركّب نقص ينظر إلى كل أمر بمنظار منْ هو الأذكى والأقوى؟ ويفسّر من خلال هذا المنظار كل مايدور من أحداث. الذهنيتان تتبعان طريقين لا ثالث لهما. إما أن تكون هناك خطة إلهية للثواب والعقاب العاجل في هذه الدنيا, على طريقة الدكتور الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي عندما تحدّث عن سبب انحباس المطر عن الشام, وهو بنظره, كان طرد مدرّسات منقّبات من مدارس كن يدرّسن فيها الدين للطلبة في حصة المواد الأخرى؛ فتجد دروسا للجغرافيا والتاريخ واللغة والفيزياء والرياضيات, تتحول لحديث ديني من قبل أولئك المدرّسات, مما تسبب بمنعهن من التدريس وتحويلهن إلى وظائف أخرى في وزارت أخرى غير وزارة التربية ". ومن الجدير بالذكر هنا إن الخطة الإلهية تغيّرت لأسباب مجهولة ووقفت إلى جانب قرار وزير التربية, ونزلت الأمطار والثلوج بمناسيب عالية بعد حديث الشيخ الدكتور!!! أما الطريق الثاني وهو تحليل كل ما يجري من أحداث عبر نظرية المؤامرة ذائعة الصيت وخصوصا لدى الحرس القديم للأحزاب الأيديولوجية التي يعاني مثقفيها كما تعاني أطروحاتها من عقدة "الوحش" المتربص عند الأبواب, مع تجاهل تام لأمرين, أولهما الإيمان بإرادة الشعوب والثاني التنكر لمقولة "تطور وسائل الإنتاج يؤدي لخلق علاقات إنتاج جديدة " هذه المقولة التي ظلت متداولة لعقود من النضال من أجل حياة كريمة!! وأُغفلت الآن لصالح نظرية المؤامرة أو Conspiracy Theory التي هي محاولة لشرح السبب النهائي لحدث أو سلسلة من الأحداث التاريخية السياسية والاجتماعية على إنها أسرار, وغالباً ما يحال الأمر إلى عصبة متآمرة بشكل منظم هي من يقف وراء الأحداث, الكثير من معتنقي نظرية المؤامرة يدّعون أن الأحداث الكبرى في التاريخ قد هيمن عليها المتآمرون وأداروها من وراء الكواليس. وقد ورد هذا المصطلح أول مرة في مقالة اقتصادية عام 1920م ثم جرى تداوله, بعد ذلك أضيف هذا المصطلح إلى قاموس أكسفورد عام 1997م. ومن أشهر المدافعين عن نظرية المؤامرة في العالم الغربي الكاتب الكندي وليم غاي كار وهو صاحب كتاب "أحجار على رقعة الشطرنج" الذي لقي قبولاً كبيراً في العالم العربي. والكاتب نفسه هو صاحب القول بأن مؤتمر باندونغ الذي عقد في عام 1955م وتأسست فيه حركة عدم الانحياز, لم يكن في الحقيقة إلا تمهيداً للقضاء على الجنس الأبيض وذلك عن طريق سن قوانين عالمية تفرض الزواج المختلط فرضاً, وتمنع البيض من التزاوج فيما بينهم. الذهنيتان اللتان نتحدث عنهما تصلان إلى نفس النتيجة, في تحليلهما لما يجري من أحداث,
******
من بين المهن التي وضعتها الأقدار أمامي مهنة توصيل الحولات النقدية, وهي مهنة مكتب حوالات بدون مكتب!! فقد أدخلني صديقي حسن وهو شيوعي من النجف, مهندس يتقد ذكاءاً وطيبةً, يجيد الانكليزية وعلوم الحاسوب وله عقل تجاري يجيد صنع فرص العمل. كنا لانملك غير "موبايل" للاتصال بالزبائن. بعد أن يصلنا "فاكس" بأسمائهم ومبالغهم وأرقام هواتفهم. فنتصل بالزبون ونعرف منه مكان إقامته ونذهب نحن إليه ونسلمه مبلغ حوالته دون أن يكلف نفسه الخروج من بيته وهكذا حُلت مشكلة المكتب بل بتنا نخشى مؤامرات مكاتب التحويل الأخرى وحسدها بعد أن اتسعت قائمة الزبائن لدينا بزيادة العدد والمبالغ التي يجري تحويلها عن طريقنا. في هذه التجربة دخلت إلى عالم جديد لم يسبق لي التعرف عليه هو عالم "المال". أتذكر هنا عنوان قصيدة نسيت إسم قائلها وهي "المال شيطان المدينة", كما أتذكر مقطعاً للسياب يقول فيه: (يا نقود يا إبراً تخيط لي الشراع متى أعود إلى العراق وهل يعود منْ كان تعوزه النقود). عالم المال يفتح لك أبواباً مغلقة, على الضمائر, فتكتشف حقيقة الخراب الذي حلّ بالنفوس بسبب الحروب والحصار. تجد في هذا العالم من يوظّف عمامته من أجل الربح السريع وبأي طريقة كانت. وترى بأم عينك التفكك الأسري. أب لايريد أن يعرف أحد من عائلته بوصول حوالة مالية له. وإبن يحذرني من أبيه, ورجل سلمتُ حوالته لأمه يستشيط غضباً ويقول لي (الحوالة بإسمي فكيف تسلمها لأي كان؟) لا أدري هل إن أمه أياً كان؟ أو شابة تعرض عليك نفسها بإسم الزواج لأن حوالتها تأخرت. في هذا العالم الغريب الذي يسميه البعض (العالم الحقيقي) تقلبت على جمر القلق من الدولار وعليه, والقرف من التدهور الروحي والأخلاقي فقررت بساعة صفاء الهروب من هذه المهنة ومن أجوائها وعلاقاتها والسوق وأخلاق البيع والشراء وقيم التجارة والسعي المهلك للتملك وكل قذارات التباهي بفعل الخير الذي قد يخبأ تحته المتاجرة بالآثار. فهناك في حي السيدة زينب, من يتاجر بها ويبني حسينية بإسمه ويحيط نفسه بمتملقين يجلبون له فتاوى الإباحة بالإتجار بالآثار البابلية والسومرية لكونها آثاراً وثنية ويحرم عليه الاتجار بالآثار الإسلامية!!! إلى آخر صيحات النفاق والدجل. هربت من هذه المهنة بعد أن شددت الاجراءات والقيود على منْ يتعامل بالدولار ووصل الأمر لتحويل من يلقى عليه القبض بجرم الحيازة والتداول للعملات الصعبة إلى المحكمة الاقتصادية العسكرية. سلمت ما بحوزتي من أموال وأوراق إلى حسن ونفذت بجلدي إلى البحر، إلى طرطوس التي غنى لها "نصري شمس الدين" (وقف لي خليني أبوس شبابيك الخضرا بطرطوس). رحلت إلى طرطوس التي تبعد عن دمشق الشام مسيرة ثلاثة ساعات بالسيارة واستقبلني أحد الأصدقاء الذين سعوا لي بمهنة كوى في مصبغة. مكثت في المصبغة لمدة أربعة أشهر أقضي نهاري بالعمل وعند المغيب التجأ إلى البحر أتمشى على الشاطيء لأشاهد شمس الأصيل وهي تغرق في بحر طرطوس, يغرق القرص البرتقالي في الماء على مرأى من السفن المنتشرة في عرض البحر المواجه للميناء ولجزيرة "أرواد", وهي جزيرة صغيرة مسكونة كنت أتوجه إليها أيام الجمع على ظهر المراكب الصغيرة أو (الشخاتير) التي تقطع المسافة بين طرطوس وأرواد بثلث الساعة أو نحو ذلك. يصل المركب إلى الجزيرة التي تتوزع عند حافتها المواجهة لطرطوس مطاعم السمك والمشروب والمقاهي الشعبية. كنت أدور حول الجزيرة الصغيرة لأجلس على صخور بمواجهة البحر بعد أن أحمل ما تيسر لي من عبوات البيرة مع كأسين أو ثلاثة من الوسيكي وأواجه الأفق اللانهائي وأرفع كأسي وأشرب نخب كل محب للحياة وكل كريم شجاع لا يخشى تقلب الدهر ويستقبل القادم من الأيام كما يستقبل الشاطيء الأمواج الأبدية.
*****
((تشرق الأفكار العظيمة والدعوات الخيّرة في عقول العلماء والفلاسفة وقلوب الأنبياء والمصلحين ثمّ يتلقفها السياسيون والتجار من المتدينين ومنتهزي الفرص لتتحول على أيديهم إلى بضاعة للبيع والشراء في سوق المساومات, فتنطفأ جذوتها ويخبو نورها ولا يبقى منها غير شكلها ويغيب جوهرها وهدفها الأسمى. بعد ذلك تهبّ ريح الثورات الفكرية من أجل إعادة الأمور إلى نصابها ونفض الغبار المتراكم فوق جواهر الكلم الناطقة بتلك الأفكار فيركب الموجة منْ أشرنا اليهم آنفا ويزايدوا على الثوار ليحولوا مسيرتها نحو معنى جديد لايمتّ بصلة إلى حقيقتها ويحتكرون تفسيرها ويتهمون من يخالفهم بمحاربة الحق وهكذا تعود إلى سوق النخاسة كأي عبد, أعظم الأفكار وأخلص دعوات المخلصين. بل أنهم يحوّلون ساحة المساومات إلى ميدان حرب شرسة شعارها (الفرقة الناجية هي من يحدد الحق ويعرّف الحقيقة) والطامّة الكبرى أن كل طرف من الأطراف السالفة الذكر يظن إنه الفرقة الناجية. عندها تضيق الآفاق لما في الأعماق. وبدلا من أن ينطلق الاختلاف بين الخلق من منبع المحبة كما جاء في الحديث القدسي "كنت كنزا مخفيا فأحببتُ أن أعرف فخلقت الخلق", إلى خلاف حول من يمثّل الحق. نصل بعدها لبناء الجدران العازلة والمحتكرة للحقيقة بدافع خفي هو الإستبداد عينه الذي يحوّل الحب إلى ضغينة والمودة إلى تنافر والتناقض الهارموني إلى نشاز في القول والتفكير والعمل. وإلا كيف يقرأ المتزمت المقولة الصوفية "عدد الطرق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق" إن لم يكن بضغينة ضيّق الأفق الذي يميل بطبعه إلى الأحادية التي تشمُّ منها رائحة مفازة جرداء لا نجد إزائها من إحالة سوى الموت وحده. ولايخطر في البال سوى طيفه الذي قال فيه الراحل محمد مهدي الجواهري:
لغزُ الحياة وحيرةُ الألبابِ.... أن يستحيل الفكر محض ترابِ
أن يصبح القلبُ الذكيُ مفازةً... جرداء حتى من خيالِ سرابِ
أنا أبغض الموت الكريه وطيفه..بغضي لطيف مخادعٍ كذابِ
ذئبٌ ترصدني وفوق نيوبه... دمُ أخوتي وأقاربي وصحابي
وهكذا يصبح خطاب الموت هو السائد, فما من دعوة دينية من هذا الطرف أوذاك لايتخللها التهديد والوعيد والتبشير بالموت والتهديد بالويل والثبور والتكفير للمخالفين. وما من دعوة إلا وقد خلقت أعداءها ونصبت لهم الشراك بأسئلة تعجيزية لاتدع مجالا لاسترخاء المتأمل, ومن اعتاد على تجييش الفكر بإعادة النظر. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا اقترن التزمت بالديانات التوحيدية كأنه قرين ملازم؟ باستثناء التصوف بالطبع, وماطرحته التجارب الصوفية المختلفة من دعوات إلى فهم العلاقة بين المطلق والنسبي أو بين الدين والحياة بمنظور مختلف, وأفق واسع المدى يتيح المجال للآخر المختلف)).
*****
14
غادرني أبو النور إلى السوبد لكنه ظل يواصلني بروحه المرحة إلى يومنا هذا ويذكرني دائماً بأحاديث الماضي وبالومضات التي لمعتْ في حياتنا متحدّين كل أنواع البلاء والقنوط وقسوة الحياة التي سرقنا منها الفرحة والضحكة وكل ما أتيح من طيباتها. تعلمت منه العلاج الشافي للحظ العاثر والفرص الضائعة ألا وهو السخرية والضحك وتذكرت معه كلمة المسيح بحق الأطفال سالفة الذكر, أضيف هنا ما قاله شهيد الأسرار السهرودي الذي يقول (كمال الكلمة تشبّهها بالمباديء, على حسب الطاقة البشرية, فلابد من التجرد بحسب القدرة, وينبغي أن يكون للكلمة الهيئة الاستعلائية على البدن لا للبدن عليها,... والمحبة من لوازم المعرفة, وإن كانت المعرفة قليلة, وكل معرفة توجب محبة وإن كانت قليلة, فإذا كملت النفس بها فذلك نور على نور, والمحبوب من يكون لنفسه فطنة وحدس قوي ينال دون تعب عظيم ما لا ينال غيره, والرجل لا يصير أهلاً إلا بالمعارف والمكاشفات العظيمة).
*****
كنت ألجأ إلى الموسيقى الكلاسيكية في الحالات التي تحاصرني بها الأحزان, وكانت آلة التشيللو هي مايثير مكامن النفس, فهي بحق صوت الحزن الوقور, بتعبيرآخر هي صوت البكاء المنفرد. من المعروف أن الآلة الوترية ( ذات الصندوق الصوتي) يكون صوتها أكثر حدة كلما كان حجمها صغيراً, وبعكس ذلك يصبح صوتها غليضا ( دافئاً) كلما كبر حجم الآلة. وقد كان "الحس الصوتي" في أوروبا الغربية, في القرون الوسطى, عالي الطبقة, وثاقبا (حاداً), كما يقول وليم بليث في كتابه عن التشيللو Cello وهي آلة موسيقية وتريّة من فصيلة الكمان كبير الحجم، يعزف عليها بقوس الكمان. يشبه التشيللو الكمان ولكنه أكبر. يبلغ طوله مترًا واحدًا وعرضُه نصف المتر عند أقصى اتساعه. له أربعة أوتار تصدر عنه أنغام كاملة غنية تبدأ بالنغمة الثُمَانيّة والخُماسيّة إلى أدنى نغمات الكمان ومجاله الصوتي حوالي أربعة أوكتافات. ويرتكز التشيللو برأس مسمار على الأرض ويُثَبَّت على ركبتي العازف في وضع مستقيم. يذكر الدكتور علي الشوك في كتابه (أسرار الموسيقى) إن استعمال القوس في الآلات الوترية يرقى إلى القرن العاشر الميلادي, حيث كان معروفا في الامبراطوريتين الإسلامية والبيزنطية. وقد ذُكر القوس في مؤلفات العلماء والكتّاب والباحثين الموسيقيين المسلمين, مثل الفارابي وبن سينا وبن خلدون وبن زَيْلة. فعند تصنيف الآلات الوترية التي تصدر أصواتاً عن طريق حك أوتارها بأوتار أخرى, أو بمادة تشبه الوتر, ذكر هؤلاء الكتّاب آلة يمكن جعل أنغامها ممتدة ومتصلبة حسب الرغبة. (أنظر معجم Grove الموسيقي تحت مادة bow ). وقد أدخل القوس إلى اوروبا لأول مرة في القرن الحادي عشر عن طريق اسبانيا الإسلامية وبيزنطة. وهناك اشارات غربية للقوس وردت في منمنمات من شمال اسبانيا وكتالونيا, يرجع تاريخها إلى النصف الأول من القرن الحادي عشر. وفي حدود عام 1100م صار القوس يستعمل في اوروبا الغربية كلها. وكانت الأقواس الأولى محدّبة دائما. وتطورت الآلات الوترية التي تعزف بالقوس أكثر من الآلات المماثلة التي تعزف بغمز الأوتار بالأصبع أو المضراب أو الريشة. وعلى مرّ القرون انقسمت هذه الآلات التي تعزف بالقوس إلى صنفين, ليس في حجمها فقط (وبالتالي في طبقتها الصوتية, العالية أو الواطئة) بل في تقنية العزف عليها وما يترتب على هذه التقنية من نتائج وفوارق استطيقية. وفي العودة للحديث عن التشيلو فإن من المحتمل أن يكون موطن التشيللو شمالي إيطاليا في ثلاثينيات القرن السادس عشر الميلادي. اُستخدم في البداية بوصفه آلة مساعدة. وخلال أواخر القرن السابع عشر بدأ المؤلفون الموسيقيون في تأليف مقطوعات موسيقية مفردة سولو خاصة بالتشيللو. وصار التشيللو آلة بارزة في الفرق الموسيقية والسيمفونيات الأوركسترالية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين. ظهر التشيلو لأول مرة في عام 1560 م في إيطاليا على يد صانع آلات كمان يدعى أندريا أماتي. وبقي التشيلو حتى أواخر القرن التاسع عشر يستخدم كآلة مساندة تعطي بعض نغمات الباص في الفرقة الموسيقية ولكن الوضع تغير في عصر الباروك عندما ألف باخ مقطوعات للتشيلو بدون مصاحبة آلات أخرى وكذلك قام فيفالدي بتأليف كونشرتو للتشيلو، كما ألف برامز كونشرتو للتشيلو. سحر آلة التشيلو يكمن في صوتها المخملي الوقور, الذي يذكرنا بآلة الفيول. يتحدث بابلو كازالس (1876-1973) عن "لغة" التشيلو بوجد يجعلك تشعر أن هذه الآلة, كما الكمان, لها لغة إنسانية عذبة لا مثيل لها فيقول:" عندما, إستمعت إلى التشيلو لأول مرة وكان عمري حينها أحد عشر عاما, شعرت أنها شيء جديد تماما. ومن اللحظة التي استمعت إلى صوتها ذهلت. شعرت كأنني عاجز عن التنفس. كان هناك شيء, حي عذب وإنساني- نعم إنساني إلى درجة كبيرة. في صوت هذه الآلة . لم يسبق لي أن سمعت صوتا جميلا كهذا من قبل. شعرت كأن تيارا كهربائيا سرى في جسدي". وقد تحرر التشيلو من دوره كآلة جهيرة " bass" منذ العقود الأخيرة من القرن السابع عشر. وأعطى العامل الزخرفي في السوناتا الباروكية (مرحلة فيفالدي, سكارلاتي-هاندل- باخ) صوتا مستقلا لآلة التشيلو. وبالتالي تحقق لها مسار الآلات الأخرى في موسيقا الحجرة. بدأت هذه العملية على يد عازف التشيلو في كنسية بيترونيو الإيطالية. وكان دومنيكو غابريالي (حوالي 1675) ودومنيكو غالي (1691 ) من أقدم من وضع مؤلفات لهذه الآلة. ومن أقدم الكونشرتات المؤلفة للآلة التشيلو كانت من تأليف فيفالدي, وتارتيني. وبدأ غابريالي تقليد مصاحبة الغناء على التشيلو, ثم تعزز ذلك على نحو تام في كانتاتات باخ. وكانت متتاليات باخ الست أول المؤلفات على آلة التشيلو المنفردة التي كتبت من قبل غير عازف على هذه الآلة. وهي رائعة في أبعادها التقنية والموسيقية. وقد أُلفت السادسة لآلة لها خمس أوتار (بدل الأربعة التقليدية). ويعتقد الآن أن هايدن ألف خمس كونشرتات على آلة التشيلو, أكتشفت في براغ عام 1961. واستجابة لولع فردريك فلهلم الثاني بهذه الآلة, ألف موتسارت ثلاثة رباعيات مع دور مهم للتشيلو, أهداها إلى الملك كما أهدى هايدن, وبوركريني, وبيتهوفن الأخيرة. جعل التفوق المطلق للمنطق الموسيقي على طاقة الآلة الأجزاء المخصصة لها صعبة إلى درجة إستثنائية. ومن بين أهم المؤلفات المخصصة لهذه الآلة كونشرتو التشيلو لدفوجاك. ولعل من أعذب الكوكتيلات الموسيقية الجمع بين التشيلو والغيتار, حيث ينساب صوت الآلة الأولى بوقاره الحزين المؤثر مع توقيعات الغيتار بنبضاتها الآسرة. وإذا دخلت آلة ثالثة على الخط, فقد يصبح مثل هذا الكوكتيل أكثر عذوبة, على نحو مافعل (باغنيني) في ثلاثية ألّفها للغيتار, والفيولا, والتشيلو. وقد اشترك في عزفها هو (على الفيولا), ومندلسون (على الغيتار), ولندلي (على التشيلو), في لندن عام 1833.
*****
(( ولكي نغني مع "مادونا"(تعلّم كيف تقول وداعاً). لنستذكر هنا متصوفاً آخر هو صاحب دعوة, تعال ياأخي المؤمن تعال ياأخي الملحد تعال أيا كان اعتقادك تعال ندور كما تدور الكواكب, تعال هي عتبة سنتجاوزها معا ولو كنت قد أخللت بالتزامك وتعهدك وتخليت عن قسمك, تعال.... بهذه الكلمات يدخل مولانا جلال الدين الرومي إلى محراب الحب ويكسر الحواجز المصطنعة بين البشر. ليؤسس لعقد جديد يتجاوز موروث التكفير والرفض للآخر, بعد أن تحولت الحياة مع الغزو المغولي إلى سؤال كبير يتجاوز الإتفاق والإختلاف, ليكون ما مصير الجميع عندما يتسلط سيف البدائية على الرقاب؟ وهل هناك متسع من التفكير بالفرقة الناجية والموت يحصد الجميع؟ وها نحن نعيش الظرف نفسه. فالدعوات الظلامية للعنف الأعمى واحدة ودعوات التكفير السلفية وفتاواها التي تحرّض على سفك الدماء متواصلة, ولن يقف بوجهها ويردعها غير رفع صوت الإعتدال والدعوة إلى قراءة التاريخ من جديد وتسليط الضوء على كل ما من شأنه رفع الحيف الذي لحق بشخصيات قدّمت للإنسانية نموذجا على سعة الصدر وشمولية الرؤى والقدرة على النظر إلى الحياة بمنظار الحب كما فعل الرومي.
ولد جلال الدين الرومي قبل أكثر من800 عام في 6 من ربيع الأول 604هـ / 30 من سبتمبر 1207م) في بلخ (ما يعرف بأفغانستان حالياً) وانتقل إلى بغداد عند غزو المغول وهو في الثالثة عشرة من عمره مع والده القاضي بهاء الدين الذي أنشأ (المدرسة) الدينية ودرس في المدرسة المستنصرية ثم انتقل إلى دمشق ومكة وأذربيجان والعديد من بقاع العالم الإسلامي حتى استقر به المقام في قونية عاصمة الدولة السلجوقية في تركيا اليوم في كنف الأمير السلجوقي علاء الدين واختير للتدريس في أربع مدارس بقونية حتى وفاته عام 1273م . وهو مؤسس الطريقة المولوية. جلال الدين الرومي المتصوف والشاعر الذي أحتفلت به اليونسكو في عام 2007، وهي الذكرى الثمانمائة لميلاده، غني عن التعريف ولكنه من المغضوب عليهم لدى الكثير من المتعصبين الذين لايرون الشمس من غربال الحب. ويحاكمون المفكرين من خلال ظاهر أقوالهم دون القدرة على سبر أغوارهم, وهكذا يضعونهم في دائرة الشك والرفض والتكفير تمهيدا لفصلهم عن الناس ومحاربتهم فيما يقولون. وهكذا نجد أن الكثير من العلماء والمفكرين وأصحاب الرؤى المختلفة من العرب والمسلمين قد طواهم النسيان لدى أجيال متعددة حتى أصبحنا نبحث عنهم في ترجمات الغربيين من مستشرقين وغيرهم. والملفت للنظر هنا هو مدى انتشار أفكار وأشعار الرومي في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية والتقصير الكبير إن لم نقل التجاهل في البلاد العربية والإسلامية للأعمال الفكرية لهذا المتصوف الذي يدعو للتسامح والمحبة في زمن تشتعل به نيران الأحقاد والضغائن, وتتلبس ثوب العقيدة والدين وترفع راية التكفير من جهة. وتحجب دور نصف المجتمع أي دور المراة بل وتشطبه من معادلة الحياة بدوافع ذكورية ليس لها نصيب من الحجة والمنطق ولاتمتلك سوى الرغبة الجامحة بالإلغاء وفرض النظرة الأحادية التي لاتؤمن بوجود الآخر. بل وتعتبر حضور المرأة هو سبب الكوارث والنكسات والشرور التي تعيشها الأمة, وهكذا يتأسس مجتمع لا يعرف الحب إلا من منظار الغريزة ونظرة الإزدراء تجاه المرأة. ويبحث عن بطولات وهمية, رسختّها فنطازيا البطولات الذكورية في دراما المسلسلات التاريخية التي تعيد أمجاد البطل الفرد المنقذ من الضلال والبدع!! الذي يقف طودا شامخا أمام منْ يدعو للحياة وللحب والتسامح.
الملفت مانسمعه عن تلك الإحصائيات التي جرت في الولايات المتحدة الأميركية، وأظهرت أن أشعار جلال الدين الرومي هي الأكثر انتشاراً في أميركا، خاصة في صفوف الشباب والمراهقين، وأن ترجمات واسعة قدمت للقراء، فصنعت منها بطاقات التعارف والأعياد، وأن أشهر مغنيين أميركيين معاصرين في أغاني الحب، وهما «دمي مور» و «غولدي هون » يغنيان أشعار جلال الدين الرومي وأنتهاءا بما أقتبسته كلمات أحدى أغاني مادونا بعنوان " تعلم كيف تقول وداعا" والمأخوذة أصلا من احدى قصائد الرومي الشعرية الفلسفية. في قصيدته بالفارسية والمعنونة ( سر آغاز) أي البداية الأولى أو ماعرف ب ( قصة الناي) يقول فيها:
استمع لهذا الناي كيف يحكي حكايته
ويشكو من البعاد
( منذ أن اقتلعت من حقل القصب والرجال والنساء ينتحبون لصراخي
أريد صدرا قطّعه الفراق قطعة قطعة لأشكو له ألم الفراق).....
إن هذا الأنين نار وليس هواء
كل من ليس فيه نار.. فهو هباء
إن نار العشق تلهب في الناي
وتسري كالخمر نار الغرام
وهكذا ينطلق الرومي ليشرح نظرية وحدة الوجود عبر الناي وآلامه وأنينه واغترابه. وهو القائل " عقد الخلائق في الإله عقائداً وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوهُ". ترك جلال الدين الرومي ميراثا أدبيا هائلا يعكف المختصون على دراسته دراسة علمية شاملة. فقد كرّس المستشرق البريطاني رينولد نيكلسون خمسة وعشرين عاماً من عمره لترجمة "المثنوي" ودراسته، وأصدره تباعا في ثمانية مجلدات بين 1925 و1940. كما إن كولمان باركس وهو شاعر ومترجم أميركي أصدر ثمانية كتب متسلسلة عن الرومي كان آخرها كتاب " ماهية الرومي".
يقول كالمان باركس: "أن الثقافة الصوفية التي أسسها الرومي تجسد جوهر العقيدة المتحرر من القيود. الجوهر الذي أعتقد بأنه يحتاج إلى التأمل في مرحلة أصبحت فيها العقيدة الدينية مقرونة بالإرهاب فقط. إن الجوهر الصوفي يعمل على تليين الرسالة الدينية المغلقة من خلال تعزيز مشاعر الحب.. ولذلك فأنه يعتبر من بين أهم شعراء الصوفية في الإسلام حيث برز اسم جلال الدين الرومي كواحد من أعلام التصوف، وأحد أعلام الشعر الصوفي في الأدب الفارسي والأدب الشرقي عموما حيث كتب الرومي معظم إرثه الشعري الكبير بالفارسية والعربية...ويُعد الرومي شاعرا من الطبقة الأولى من طبقات الشعراء، فهو قوي الصنعة، واسع الخيال، بارع في التصوير، يوضح المعنى الواحد في صور مختلفة، له قدرة على توليد المعاني واسترسال الأفكار، ويتسم بالبراعة في انتقاء الألفاظ واختيار موسيقى الشعر، وتسخير اللغة والتحكم في الكلمات".
نختم بهذه الأبيات للرومي
من الذي قال أن الروح الخالدة تموت
ومن يجرؤ على القول
إن شمس الأمل تغيب
عدو الشمس هو فقط
من يقف على رأسه
رابطا كلتا عينيه صارخاً
انظروا، الشمس تموت )).
****
ثمة قول لدى المتصوفة عن الحب جاء فيه " لا يكتمل حب الحبيب لحبيبه حتى ينادي أحدهم الآخر ويقول له يا أنا ". بل إن الله خلق الخلق بدافع الحب حيث يقول الحديث القدسي (كنتُ كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أُعرف فخلقتُ الخلق). يقول ابن سينا:" الموجودات, إما أن يكون وجودها بسبب عشق فيها, وإما أن يكون وجودها هو العشق بعينه ". أما افلاطون فيقول: "يبدو لي أن الناس لا يدركون مطلقاً قوة الحب الحقيقية, فلو أنهم أدركوها لشيدوا للحب المعابد والهياكل, ولقدموا له الأضاحي العظيمة ". وليس لإنسان أن يعيش حياة سوية ويسعى إلى الرقي والكمال دون أن يكون الحب هو دافعه ومحركه الأساسي, وبفقدان هذا الدافع تتحول الحياة إلى مسيرة صاخبة من الأحداث المفجعة وصراع المصالح الذي لايعرف الرحمة وليس في قاموسه مفرداتها, إلى أبن يقود ذلك الصراع؟ لاشك إنه يقود نحو الخراب الروحي أولاً ثم الدمار الذي يشمل بعباءته الأخضر واليابس. تتحول فيه الحياة إلى عقوبة والصبر عليها عملية تعذيب متواصلة, ولاشك إن عصرنا الراهن الذي شهد حربين عالميتين, وسلسلة من الحروب الأهلية والأنظمة الشمولية الظالمة, سوف يدخل التاريخ لا كعصر للإنجازات العلمية- التقنية, والتحولات الاجتماعية البارزة فقط, بل كعصر للاإنسانية, والعدوانية, وفساد القيم الانسانية العامة, والإبادة الجماعية للبشر. وقد انتشرت في عهد الروح الاستهلاكية والرغبة العارمة في الحصول على المقتنيات الثمينة, وعلى نطاق واسع, قيم اللامبالاة بالآخرين, والنفور والأنانية والحقد والحسد والرغبات المنحطة بالانتقام وتأجيج أحط مالدى الانسان من غرائز التشفّي والغل والثأر بديلا عن قيم التسامح والمشاركة الوجدانية والسعي لأعمال البر. وهذا كله يدل على نقص واضح في الحب.
15
بعد أن تفرق الأحباب في كل حدب وصوب من بقاع العالم, غرقت في دوامة العمل في مشاغل الخياطة حتى عام 2000 واخذتني الحياة بعيداً عن أجواء الغيتوات العراقية وانتقلتُ بسكني من السيدة إلى مدينة دمر, فمخيم اليرموك ثمّ قدسيا وغيرها من أحياء الشام, أعطاني العمل في الخياطة المال وفتح لي طريق البحث عن المتعة كمكافاة على ساعات العمل الطويلة التي تتجاوز العشر ساعات يومياً, وأخذ مني وقت طويل في سماع ثرثرة الشغيلة التي لا تتجاوز الحديث عن الفول وسهرة الأمس التي قضاها البعض في لعب الورق وفصفصة عباد الشمس والتباهي بالقمصان الجديدة وكمية الأموال المدخرة التي نجح أحدهم في الاحتفاظ بها, وتكملة يوم العمل بالنميمة والحسد وسماع برنامج "حكم العدالة" يوم الثلاثاء. فليس هناك, على حد علمي, من مشغل خياطة أو دكان لبقال أو مطعم للفلافل, ليس فيه راديو يجبر المارّة أو الزبائن على سماع الأحداث المشوقة لهذا البرنامج الشهير الذي يعنى بالجرائم التي يفصل فيها قصر العدل. كان العمل في الخياطة موسمياً, واندمجت في علاقات جديدة مع أصدقاء سوريين جمعني بهم العمل أو العلاقات الاجتماعية التي توسعت لتشمل عوائل لأصدقاء وأصدقاء لعوائل أعرف أحد أفرادها, فصارت لي حياة أخرى غير حياة الغريب بل حياة المكافح على كل صعيد من العمل إلى العلاقات الانسانية إلى ممارسة الحق الطبيعي بالحب وبالجنس وبالنشوة, وانتعشت بقلبي أحلام قديمة في الترجمة والرغبة بالكتابة فزاد تعلقي ببرامج تعليم الانجليزية بالراديو عبر محطة البي بي سي البريطانية ثم انتقلت إلى مرحلة أخرى بتخصيص وقت كاف لمعهد خاص يدرسّ الانجليزية من خلال دورات مكثفة لمدة ساعتين ونصف, لخمسة أيام في الأسبوع, بعد أن تركت العمل في مشاغل الخياطة وانتقالي إلى عمل جديد هو توصيل الحوالات النقدية للزبائن حظيت بوقت كاف للدراسة والعمل بنقس الوقت. ثم دخلت للصحافة من باب الترجمة فأرسلت نصاً مترجماً إلى موقع (الأوان) لرابطة العلمانيين العرب, وكانت أولى تجاربي الكتابية الحقيقية رغم إني ساهمت في الكتابة سابقاً في جريدة "الغد الديمقراطي" بإشراف وتوجيه من الراحل هادي العلوي بعد أن تعرفت عليه عن طريق "أبو انتصار". كنا نلتقي بالعلوي في بيته في منطقة "مزة جبل" الذي يملكه الراحل عبد المعين الملّوحي, (الملّوحي هذا الشيوعي السابق الذي فجرّ قنبلة من العيار الثقيل في احتفال بالذكرى المئوية لولادة شاعر الرسالة محمد اقبال لاهوري في باكستان عندما ترجم قصيدة أهملها الكثيرون وهي من ديوان "على جناح جبرائيل", القصيدة بعنوان "لينين أمام الله" يصور فيها كيف يؤتى بلينين وهو يرتجف خائفاً أمام الله فيطمئنه الرحمن الرحيم فيقول له لاتخف يا صاحب الوجه الأصفر المعروق ياصديق الفقراء. تلك القصيدة التي أحرجت المحتفين بمحمد إقبال شاعر الرسالة والشعر الصوفي). كان اللقاء يوم الجمعة, يستقبنا أبو حسن هذا الماركسي المتصوف طيب القلب بالترحيب وبالشاي والكعك ليدور الحديث عن أحوال العراقيين ومعارك السياسيين والمقالات المنشورة في "الجريدة". أكد لي الراحل العلوي ذات مرة, بأن المثقف لا يمكن أن يصبح سياسياً ولكن يمكنه أن يصبح مناضلاً. يعني عليه أن يعرف مع منْ يصطف في الصراع الاجتماعي ـ الاقتصادي فثمة قوى تدعو إلى التقدم وقوى كابحة تريد إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء أو تسعى جاهدة لايقاف الزمن. كان لأيام الجمع هذه نكهة خاصة يعطّرها هذا الشيخ بدعواته القلبية الخالصة بالتوفيق لكل جهد يصب في خدمة ضحايا الحروب والسياسة من العوائل العراقية التي كانت همه الأكبر حتى إنتهى به المطاف لتأسيس "جمعية بغداد المشاعية" لمساعدة هؤلاء المنكوبين. أخذت عنه الاهتمام بالتصوف الاجتماعي أو التصوف القطباني على حد تعبيره, فعند العلوي لا يختلف ماركس عن إبن عربي أو الجيلي او فريد الدين العطار صاحب ملحمة (منطق الطير).
((ثمة أقوال تمرّ بي فتبقى عالقة في الذاكرة مثل:
ـ ثمة ذئبان يتصارعان قي القلب هما ذئب الحب وذئب الكراهية, سينتصر في النهاية أحد الذئبين , وهو الذئب الذي تطعمه أكثر.
ـ يقول أحدهم: مفتاح الشر كلمة. فيرد عليه الآخر: يصح هذا, إذا كان القلب عمران فيه.
ـ كل منْ سلك طريق فقد مالَ عن غيره من الطرق, فكل الطرق ميل!!)).
((في "منطق الطير" يبدأ البحث عن الحقيقة, الخلود, المطلق, باسطورة "السيمرغ" أو العنقاء الخالدة التي تنبعث من رمادها عبر رحلة لمجموعة من الطيور التي عقدت العزم على المضي في طريق المعرفة الشاق, ولكل طريق زاده وزوادته. فكانت المجاهدة زاده والاصرار زوادته. لكن لكل طاقته وقدرته فكان النَصَب والإعياء مصير الكثير من الطيور فبدأت بالتساقط واحداً بعد الآخر بشتى الحجج والذرائع, فمن مكتف بما عنده إلى من أصابه اليأس عند أول منعطف إلى من عاد أدراجه هارباً من طول الطريق وشدة المحنة إلى من كان يظن إن الأمر لا يعدو أن يكون ضرباً من الجنون ويسوق التبريرات التي يقنع بها نفسه ليرجع إلى ما كان عليه مكتفياً وراضياً بما عنده خائر العزيمة قليل الهمّة. منظومة منطق الطير لفريد الدين العطار وهو أحد أعلام التصوف الفارسي الثلاث وهم على التوالي سنائي الغزنوي وفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي. وقد حاز فريد الدين العطار هذه المنزلة الكبيرة بفضل ما قدمه للمكتبة الشرقية من مؤلفات ما زالت حتى اليوم تحظى بعظيم التقدير من جميع المهتمين بالتصوف الإسلامي داخل العالم الإسلامي, ولدى جميع المستشرقين الذين أولوا التصوف جل اهتمامهم وعظيم همتهم. وإذا كانت جميع كتب فريد الدين العطار تحظى - حتى اليوم- بعظيم التقدير, فأعظمها جميعا وأوسعها شهرة منظومته (منطق الطير) والتي تشهد بإبداع صاحبها في النظم, وتعد دليلاً عظيما على تفوق الفرس في نظم القصة الشعرية منذ قرون عديدة, كما أن المنظومة فوق كل ذلك واحدة من شوامخ الفكر الصوفي الإسلامي, ولا غنى لأي مهتم بالتصوف الإسلامي عنها. ونتيجة لما حظيت به هذه المنظومة الفريدة في فكرها وحبكة قصتها. أقدم عدد كبير من المستشرقين على دراستها ونقلها إلى لغاتهم, فقد ترجمت إلى اللغات الفرنسية والإنجليزية والألمانية, وحظيت كذلك باهتمام مفكري الشرق, فترجمت إلى اللغتين الهندية والتركية. إن القالب القصصي الممتع الذي ركبت فيه بجانب المعاني الروحية التي شملتها أعطتها هذه الأهمية بين كتب التصوف ولا يكاد يذكر اسم فريد الدين العطار حتى يذكر "منطق الطير" فقد أصبح فريد الدين علماً على "منطق الطير" وأصبح " "منطق الطير" علماً على فريد الدين العطار. كما يقول كل من الدكتور بديع محمد جمعة مؤلف كتاب منطق الطير لفريد الدين العطار, يشاركه في رأيه هذا كل من بروان ا
08-أيار-2021
21-تشرين الثاني-2013 | |
16-تشرين الثاني-2013 | |
05-تشرين الثاني-2013 | |
26-تشرين الأول-2013 | |
15-تشرين الأول-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |