الخابورو الجغجغ-هيا أخبريني كيف تعيشين / قصة أغاثا كريستي-ت
صالح الرزوق
2008-03-20
ذكريات أجاثا كريستي عن زيارتها لشمال سورية
تعتبر هذه الأيام الخريفية من أفضل أيام حياتي. كنا نستيقظ باكرا ، بعد شروق الشمس مباشرة ، و نشرب الشاي الحار ثم نتناول البيض و ننطلق في سبيلنا ولأن الطقس بارد كنت أرتدي قميصين من الخيوط الرقيقة مع معطف صوفي واسع. و كانت الإضاءة مبهجة ، وردية و ضعيفة و تخفف من خشونة الألوان الأخرى : البني و الرمادي .
من أعالي أحد الكثبان كان بمقدور المرء أن يلقي بنظراته على عالم مهجور و متصحر فعلا. الكثبان ترتفع هنا في كل الأنحاء ، و يستطيع أي شخص أن يلاحظ حوالي ستين منها لو صبر ليعدها. إنها ستون مستوطنة قديمة ، إن شئت القول. في هذا المكان يتجول ، حاليا، رجال القبائل مع خيمات بنية اللون ، و لكن فيما سبق كانت المنطقة فضاء صاخبا من العالم. هذا المكان إذا ، من حوالي خمسين ألف عام مضت ، كان أكثر ضجيجا من جميع بقاع العالم.
من هنا انطلقت الحضارات ، و هنا، التقطت بيدي هذه الشظية المكسورة التي تعود إلى إناء من الفخار ، إنها صناعة يدوية ، و يزين تصميمها نقاط مع صليب مدهون بالأسود يخرج من أعلاها، و أرى أنها أصل كوب تصنعه "الوول – وورث" و به شربت شاي هذا الصباح.
تأملت مجموعتي من الشظايا و التي تملأ جيب معطفي ( كانت البطانة ممزقة و بحاجة إلى عدة درزات ) ، ثم تخلصت من النسخ المكررة ، و حاولت أن أرى بماذا يمكنني أن أنافس ماك و حمودي أمام الخبراء.
و الآن ، ماذا يتوفر لدي ؟. خزف رمادي سميك ، و جزء من فوهة إناء( و يبدو عليه من شكله أنه ذو قيمة مرتفعة ) ، ثم بعض الأشياء الحمراء الخشنة ، مع شظيتين من قدور مصبوغة و ملونة ، و كلها صناعة يدوية و كان لإحداها التصميم المنقط ( و هذه تعود إلى أقدم عهود تل حلف !) ، بعد ذلك مدية مشحوذة ، و جزء من قاعدة قدر رقيق رمادي ، و عدد من بقايا صغيرة و مجهولة متبقية من قوارير خزفية كانت ملونة ، و أخيرا قطعة من الأوبسيدان .
بعدي قرر ماكس ماذا يختار من مجموعته ، تخلص من معظم القطع الرخيصة ، و همس بأصوات مبهمة تدل على الرضى لقطع أخرى. و لكن حمودي احتفظ بدولاب عربة من الصلصال ، أما ماك فقد حمل شظية من إناء خزفي و جزءا من إحدى المجسمات.
بعد جمع هذه المختارات معا ، وضعها ماكس في حقيبة من الكتان ، و حزمها بتمهل ، و وضع عليها بطاقة تحمل اسم التل الذي وجدناها فيه، كالعادة.
هذا التل بالتحديد لم يكن مذكورا في الخرائط . و لذلك أطلقنا عليه اسم تل ماك ، تبجيلا لماكارتني الذي عثر فيه على أول منحوتة آثرية.
لو كان لتنقيبات ماكس أي معنى ، فهي تشير إلى قسط من الاعتزاز.
في النهاية هبطنا من سفح التل و توجهنا إلى السيارة. و هناك تعريت من أحد القميصين الرقيقين. كان لظى و لهيب الشمس بارتفاع مستمر.
ثم قمنا بزيارة تلين آخرين ثانويين و عند حدود الثالث ، والذي يشرف على الخابور، تناولنا طعام الغداء. بيضات مسلوقة ، و علبة من لحم العجل ، مع برتقالات و شرائح من الخبز المجفف. جهز لنا أرستيد الشاي بموقد الكشافة نوع بريموس . كان الطقس حارا جدا الآن ، و لم يتبق للظل ولا الألوان أثر. كل ما حولنا مجرد أثير متجانس و شاحب و ساكن.
قال ماكس نحن محظوظون لأننا نقوم بالتنقيب في هذه الفترة و ليس في الربيع. سألت لماذا ؟ فقال لأنه من الصعب جدا أن نجد بقايا آثار حينما تغطي الأرض الأعشاب و المروج.
و أضاف كل هذه المساحة سوف تكون خضراء في فصل الربيع. ثم قال هنا السهوب خصبة تماما . فقلت له على سبيل التقريظ تعبيرك لا تعوزه الفصاحة . رد ماكس يقول حسنا ، هنا تبدأ المنحدرات الخصبة من هذه الأرض.
في هذا اليوم اصطحبنا ماري في جولة على الضفة اليمنى للخابور حتى تل حلف ، و قمنا بزيارة تل رومان ( إنه اسم غامض ، و لكنه غيرروماني بشكل واضح )و كان تل جمعة في الطريق.
كل التلال في هذه المنطقة ذات احتمالات ، بعكس تلك التي مررنا بها في الجنوب. فبقايا القدور الفخارية التي تعود إلى الألفية الثانية و الثالثة متوفرة و لكن البقايا الرومانية قليلة. و هناك أيضا فخاريات ملونة من فترات مبكرة تدل على ما قبل التاريخ و كلها صناعة يدوية. مصدر الصعوبة الوحيد هو في اختيار التل المناسب من بين هذه التلال الغزيرة. و كان ماكس يكرر مرة بعد أخرى و بطريقة كرنفالية تعوزها الأصالة قائلا هذا هو بلا شك المكان الصحيح.
كانت زيارتنا لتل حلف ذات إيحاءات تشبه رحلة حج إلى أحد المعابد! لقد سمعت اسم تل حلف في السنوات المنصرمة كثيرا ، حتى أصبح له صدى في أذني ، و كنت أشك أنني فعلا سوف أرى بأم عيني هذا الموقع . إنه مكان مبهج و بالأخص عند نهاياته حيث يدور الخابور من حولها .
أذكر الآن زيارة قمنا بها إلى البارون فون أوبينهايم في برلين . لقد دعانا إلى متحف فيه مكتشفاته. و ( أعتقد ) أنه تحدث مع ماكس بطلاقة لمدة خمس ساعات كاملة. و لكم يكن هناك مكان مخصص للجلوس و الاستراحة.
في البداية كان اهتمامي على أشده ، ثم تلاشى تماما. تفحصت بعين يعوزها التركيز مختلف التماثيل القبيحة جدا التي كان مصدرها تل حلف و التي كانت برأي البارون معاصرة لمجموعة الخزفيات المبهرة حقا.
و حاول ماكس أن يعرض وجهة نظر مختلفة حول نفس الوضوع و لكن بتهذيب و دون معارضة واضحة.
أما بالنسبة لنظرتي غير الثاقبة فقد كانت كل تلك التماثيبل تبدو نسخا متشابهة على نحو غريب. و بعد فترة قصيرة من الوقت توصلت لما يلي " إنها متشابهة ، لأنها جميعا ما عدا واحدة مصنوعة من الجير ".
فجأة توقف البارون فون أوبنهايم و هو منهمك في تعليقات بلاغية و متحمسة و قال بمودة " آه ، كم فينوس هذه فاتنة "، و لمس أحد تماثيله بعاطفة تنبع من القلب. ثم عاد لينغمس في نقاش تمنيت بحزن بالغ لو أنه " ما قل و دل" ، كما كنا نقول في أيام الطفولة!.
كان موضوع النقاش محدودا و حول مختلف التلال القريبة من تل حلف. كنت سمعت عددا من الأساطير عن البارون و لا سيما المبلغ الخرافي الذي دفعه بالنقود الذهبية. لقد ضاعف مرور الزمن من قيمة الذهب. حتى أن الحكومة الألمانية ، كما خمنت ، لم يكن بمقدورها أن تسكب سيولا من ذلك المعدن الثمين كما تقتضي الظروف.
في شمال الحسكة رأينا قرى صغيرة و إشارات على وجود الحضارة. منذ وصول الاستعمار الفرنسي و رحيل الحكم التركي ، أصبح هذا البلد تحت إدارة سلطة لم يعرف مثلها منذ زوال العهد الروماني.
و في وقت متأخر عدنا أدراجنا إلى البيت . كان الطقس يمر يمرحلة متقلبة ، فقد بدأت الرياح تعصف بنا . كان هناك غبار و رمال تفسد المزاج و تهب بوجه المرء و تجبره على إغلاق عينيه.
ثم تناولنا وجبة دسمة برفقة الملازم الفرنسي ، لقد كان هذا أمرا مرهقا، لأنه توجب علينا أن نعتني بأناقتنا أو بالأحرى أن نرتب أنفسنا ، على أية حال كل ما كان بوسعنا أن نفعل هو أن أرتدي أنا شخصيا بلوزة نظيفة و أن يرتدي الآخرون قمصانا لائقة !
كانت الوجبة ممتازة و أنفقنا عليها أمسية رائعة. و في طريق العودة كانت الأمطار تنهمر حتى باب خيمتنا.
في اليوم التالي دفعنا الخابور للقيام بنزهة إلى جغجغ. و هناك أثار انتباهي كثيب عظيم قريب جدا مني ، و لكن علمت فيما بعد أنه بركان خامد اسمه كوكب.
كان هدفنا الأساسي أن نذهب إلى تل حميدي الذي سمعنا عنه تفاصيل مدهشة ، و لكن كم كان من الصعب الوصول إليه . فالطريق إلى هناك ليس مستقيما. و هذا يعني ضمنا عبور المنطقة من طرف إلى آخر ، و في نفس الوقت المرور بعدد لا يحصى من الأنفاق و الوديان. كان حمودي يتمتع بروح مرحة في ذلك الصباح. و لكن ماك كان يمر بمرحلة عصيبة و قلقة ، حتى أنه توقع أننا لن نصل إلى ذلك الكثيب على الإطلاق.
استغرق الطريق سبع ساعات من القيادة. سبع ساعات مجهدة فعلا ، و كانت السيارة تغوص في الرمال مرارا ، و تجبرنا على حفر الأرض تحتها.
في مثل هذه الحالات يتجاوز حمودي نفسه. كان دائما يعتبر السيارة جوادا دميما بالرغم من أنها أسرع. و في أية لحظة هو مستعد للاشتباه بقيمة أحد الوديان التي على الطريق ، فيرتفع صوته بنغمة عصبية ، و يلقي الأوامر المتبجحة إلى أرستيد.
يقول له : " بسرعة . بسرعة . لا تترك للمحرك فرصة للعصيان !. اهجم إلى الأمام. اهجم ".
و يبلغ قرفه من السيارة أقصاه حينما يتوقف ماكس و يترجل ليفحص العوائق.
و يبدو أنه على وشك أن يقول كلا. ليس من الواجب عليك أن تتعامل مع سيارة من معادن ثقيلة و سلوك مزاجي! لا تترك لها فرصة للاختيار ، و هكذا تسير الأمور على ما يرام.
بعد المعوقات ، و الفحوصات ، و استشارة الدليل المحلي نصل في أخيرا إلى هدفنا. تبدو صورة تل حميدي رائعة في شمس الظهيرة ، و يترافق ذلك مع مشاعر بالنجاح ، فالسيارة كانت تصعد هذا السفح بثقة حتى وصلت القمة.
و قد تحركت مشاعر ماك على نحو مناسب ، فعلّق على الموضوع ، قائلا بإعجاب له نبرة كئيبة : " آه ، ها أنا أرى الماء الراكد".
بعد ذلك ، أطلقنا على المكان هذا الاسم!
و هنا أصبحت وتيرة الحياة سريعة و متقلبة. كان فحص التلال عاطفيا و على نحو يومي. و توجب علينا مراعاة ثلاثة أمور في عمليات التنقيب. أولا ، يجب أن تكون قريبة من قرية أو مجموعة قرى فيها يد عاملة. ثانيا ، وجود مصدر للمياه ، لنقل يجب أن تكون قريبة من جغجغ أو الخابور أو ما شابه بحيث أن المياه غزيرة و ليست مالحة. ثالثا ، يجب أن تعطينا إشارة تدل على وجود آثار ذات قيمة. إن كل الحفريات هنا عبارة عن رهان بين سبعين تلا ، و كلها تنتمي إلى نفس الفترة ، و من الصعب أن تحدد أين تنطمر المباني القديمة ، و أين تترسب الألواح الفخارية ، أو مجموعة الآثار ذات الأهمية الخاصة ؟
للتل الصغير قيمة مثل التل الكبير ما دامت المدن العظيمة كانت في الماضي البعيد أكثر عرضة للهدم و الخراب. إن الحظ ، في هذه الحالة ، هو العامل المحدد. كم مرة ننقب في أحد المواقع بإخلاص و تمعن ، فصلا بعد آخر ، و لكن دون نتائج حاسمة ، إنما مجرد نتائج معتدلة. ثم بعد أن ننتقل بمقدار عدة أقدام يفاجئنا اكتشاف غريب يبرز في ضوء النهار. و العزاء الوحيد أن التل الذي يقع اختيارنا عليه ، أيا كان ، لا بد أنه ينطوي على شيء ما.
قمنا بنزهة على ضفة النهر الأخرى للخابور في النهار ، و كان هدفنا مجددا هو تل حلف ، و كنا قد أمضينا يومين بجوار جغجغ ، إنه نهر تعزى له أهمية فائقة من وجهة نظر شكلية ، هناك تجد تيارا من الوحل البني يسيل بين ضفتين مرتفعتين و في نهايته تل لا تخطئه العين هو تل براك. كثيب كبير ، تركت عليه عدة عصور آثارها ، من عهود مبكرة قبل التاريخ و حتى العصور الآشورية. و هو يبعد حوالي ميلين عن جغجغ حيث توجد مستوطنة أرمنية ، و هناك قرى أخرى تنتشر على مسافة قريبة، و تبعد عن الحسكة حوالي ساعة واحدة بالسيارة ، و نحن نعتبرها مصدرا مناسبا للحصول على المؤونة. العيب الوحيد أن المياه شحيحة في التل ذاته. و لكن من المحتمل دائما حفر بئر عند موطء أقدامنا. كان تل براك يبدو لنا احتمالا معقولا.
بعد مرور يوم انطلقنا من الحسكة شمالا نحو القامشلي. و هي نقطة عسكرية فرنسية أخرى ،إنها مدينة على خط الحدود بين سوريا و تركيا. كان الطريق يسير في منتصف المسافة بين الخابور و جغجغ ، ثم إنه يقطع جغجغ عند تخوم القامشلي.
و ما دام من المستحيل فحص جميع التلال التي على الطريق و من ثم العودة إلى الحسكة في نفس الليلة ، قررنا أن نمكث ليلا في القامشلي على أن نعود أدراجنا في اليوم التالي.
و لكن اختلفنا في آرائنا حول مكان المبيت. حسب نصيحة الضابط الفرنسي ، إن الفندق المسمى فندق القامشلي ، لا يحتمل ، قال " إنه آسن ، يا مدام " ، و لكنه بالنسبة لحمودي و أرستيد كان فندقا ممتازا ، و يتمتع بطراز أوروبي ، و تتوفر فيه أسرّة!. إنه في الواقع من الدرجة الأولى!.
ابتلعت إحساسا باطنيا أن نبوءة الضابط الفرنسي صحيحة ، و انطلقنا من فورنا إلى هناك.
خيم الهدوء على الجو مجددا ، بعد يومين من المطر الخفيف.و كنا نبتهل لو يتأخر الطقس الرديء حتى بدايات كانون الأول.
كنا نعلم أن هناك واديين عميقين يفصلان الحسكة عن القامشلي ، و لو أنهما امتلآ بمياه الأمطار سوف ينقطع الطريق لعدة أيام.
و اليوم لا تجد فيهما غير النذر اليسير من المياه ، لذلك كنا ننحدر و نرتفع من غير مصاعب إن شئت القول ، نحن ، دائما ، نسير كذلك بسيارة أرستيد.
كان عبدالله ، الذي ارتدى بذته المعتادة ، ينطلق إلى الأسفل بسرعة فائقة ، ثم يرتقي السفح إلى أعلى نحو الطرف الآخر بنفس الطريقة.
و حينما عمد إلى تبديل السرعة بالعيار الثاني ، همدت السيارة في مكانها دونما أية حركة. لقد أعلن المحرك العصيان ، و توقف ،و هكذا ترجع عبدالله ببطء إلى قعر الوادي ، و كانت دواليبه الخلفية تغوص في الوحل و الماء الراكد . و لم يبق أمامنا إلا أن نترجل جميعا و نشارك في حل لهذه المعضلة...