Alef Logo
ابداعات
              

نقد / حمام بغدادي لجواد الأسدي: نبش خصوصية الشخصية العراقية والتباساتها

خليل صارم

2006-04-08

يحيل عنوان العرض المسرحي الأخير"حمّام بغدادي" للمخرج العراقي جواد الأسدي،على خشبة مسرح الحمراء في دمشق،إلى صورة المشهد العراقي الراهن بكل تناقضاته وتشظياته وأطيافه،ليس من موقع التوصيف أو إعادة وقائع ما يجري في هذا البلد الملتهب،إنما من فضاء آخر أكثر رصانة وحميمية،فضاء اختباري يشتغل على نبش خصوصية الشخصية العراقية العامية وتحولاتها في العقود الأخيرة الماضية،هذه الشخصية الغارقة في الالتباس والشجن الإنساني،وتتناهبها فوضى مشاعر لاتركن إلى ضفاف واضحة، هي مزيج من طفولة مستعادة بحنين فيّاض،وذكريات منهوبة، ولحظات عنف،سرعان ما تخبو أمام دفقة حنان مباغتة، تطيح بكل الجدران الوهمية التي تستند إليها.
لم يذهب جواد الأسدي في عرضه الجديد إلى أسئلة النخبة، بل اختار شخصيتين من القاع،في محاولة لفضح جوهر الوجع العراقي العادي، بعيداً من إشكالية الانتماء والتناحر المذهبي والهوية،فالشقيقان"مجيد وحمود"،يلعب دوراهما فايز قزق ونضال سيجري،يقفان في خندقين متقابلين،الأول وجد في لحظة الاحتلال الأمريكي للعراق صفقة رابحة لازدهار أعماله كسائق على خط بغداد-عمان،بعد أن فقد أحلامه في أن يكمل تعليمه ويصبح مغنياً مشهوراً،فيضيع في القاع والملذات العابرة والنساء،بما يشبه الهروب الدائم إلى الأمام،مؤجلاً لحظة المواجهة مع ذاته ومع الآخرين على طريق طويل لا يعلم إلى أين يقوده.أما شقيقه الأصغر الذي يعمل سائقاً مساعداً لديه،فهو أسير ضعف إنساني متأصل،وحال من الرعب لا يفارقه،كترجيع لأحداث دموية شهدها بعينيه،عندما وجد نفسه ضحية للنظام السابق،فكان شريكاً من دون رغبة،في مجزرة ومقابر جماعية،تحت وطأة التهديد بالقتل،مثلما وجد نفسه ضحية جشع واستغلال شقيقه الأكبر الذي طالما اغتصب حقوقه،وتخلى عن عائلته إلى الدرجة التي تجاهل فيها المشاركة في تشييع جنازة والده،أو حتى زيارة والدته المسنة.
في هذه المنطقة الإنسانية الموحشة والمدمرة،سعى جواد الأسدي إلى تشكيل عناصر عرضه،وترميم المشهد الغائب،على خلفية ما يجري الآن في بغداد،هذه العاصمة التي تحولت إلى"حمّام دم"،ومسرح خراب سياسي وروحي،محاذراً الاستغراق في الرطانة السياسية وتصفية الحسابات،وكأن الاشتغال على التفاصيل الروحية للشخصية العراقية هي المدخل الأساسي لتحليل ما يجري،وتالياً الخروج من هذا الحمّام.فالحمّام كمفردة وكفضاء سينوغرافي،يحمل إحالات كثيرة،لم يهملها النص،بل على العكس وجد فيها عناصر معمارية لتعزيز الفرجة ومضاعفة الحنين إلى طفولة بعيدة،وسيرة للأب الغائب ،قبل أن يتحول إلى مكان للمحاكمة والمواجهة الساخنة بين الشقيقين،هذه المحاكمة التي وصلت إلى حد محاولة القتل والإلغاء والإقصاء،بالتناوب مع البكاء والغناء والتهكم،وهي حالة عراقية بامتياز.
وبقدر ما يبدو العرض في قماشته الأولى بمثابة بيان شخصي للمخرج إزاء خريطة بلاده المتحوّلة،إلا انه في قراءة سوسيولوجية،هي في أساس بناء النص، تضيء مناطق العتمة في الشخصية العراقية وشجنها التاريخي بوصفها ضحية لعسف متواصل،أطاح بكينونتها،سواء في حقبة الديكتاتورية أم في مرحلة الاحتلال،وكأن هاجس جواد الأسدي المضمر ،وهو يقوم بتحرير نصه،هو نفض الغبار عن الجوهرة المخبوءة في الصدر،واكتشاف مواقع الجمال،بعيداً من الصورة التلفزيونية التي ألغت بالتدريج النسخة الأصلية،لمصلحة مكائد سياسية،وجثث عابرة للحدود،وفساد وانتخابات وهمية،واحتلال وانفجارات في شاشة مهتزة،عبر عرض متواصل للدمار. هكذا يتحوّل الحمّام أخيراً من مكان للاغتسال إلى ملاذ للتطهر من كل قذارة الماضي،نحو أفق آخر لا يشبه اليوم،ولكن هذا الأفق المشتهى،سرعان ما يطيح به انفجار،تهتز له جدران الحمام،فيصاب الأخ الأكبر بالعمى،وكأن فقدان البصر وبياض الذاكرة،هو ما سوف يقود إلى البصيرة،وإزاحة الغبش عم عينيه،ليتكشف المشهد على نحو مختلف وزلزال جديد.
يصوغ صاحب"تقاسيم على العنبر" نصه ورؤيته السينوغرافية في ثلاث حركات وخاتمة،بما يشبه التأليف الموسيقي أو الجناز،وذلك على الخطوط الفاصلة بين التراجيديا والكوميديا السوداء،يتطلبها بالتأكيد المشهد العراقي،كما يرسم فضاءه السينوغرافي بتقشف،مخففاً من وقع الاحتفالية التي وسمت بعض أعماله السابقة،في خط بياني متعرج،تبعاً لانشغالاته الجمالية،وهو هنا يستفيد من ثراء المشهدية السينمائية في التشكيل البصري،وتركيب الصورة،خصوصاً في خاتمة العرض(مشهد تصاعد البخار في الحمّام وتلاشي حضور الشخصيتين)،على خلفية جدارية رسمها جبر علوان كفضاء موازٍ لمقترح النص،في تجربة هي الأولى لهذا التشكيلي العراقي،إذ يتخلى عن ألوانه الحارة لمصلحة البياض،كما كان لموسيقا رعد خلف دور خلاق في التصعيد الوجداني والبصري،في إحالات ملموسة لحجم الدمار الجواني للشخصيتين اللتين لعبهما بمزاج عالٍ الممثلان السوريان فايز قزق ونضال سيجري،وهما يجدان نفسيهما في فضاء حكائي مختلف،يمزج اللهجة العراقية المشبعة بالفصحى في تداخل بارع،وهذه البراعة تنسحب على الأداء اللافت لممثل مسرحي استثنائي مثل فايز قزق،لطالما ترك بصمته على عروض سابقة مع المخرج ذاته،كما في"الاغتصاب"،و"تقاسيم على العنبر"،وهي المنطقة التي تميز شغل هذا المخرج في عمله على الممثل قبل أي اهتمام آخر،فيما فلتت بعض خيوط الشخصية من نضال سيجري،ربما لعدم التقاطه خصوصية اللهجة العراقية ومزاجها الساخر،على رغم ما بذله من جهد واضح على الخشبة.
تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

وجهة نظر - هكذا يمكن أن نفهم العلمانية ( 2 )

18-نيسان-2008

وجهة نظر - هكذا يمكن أن نفهم العلمانية (1)

29-آذار-2008

نقد / حمام بغدادي لجواد الأسدي: نبش خصوصية الشخصية العراقية والتباساتها

08-نيسان-2006

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow