Alef Logo
ضفـاف
              

صورة الصويرة؛ الحاضرة 2

دلور ميقري

خاص ألف

2013-06-10

2 ـ الرحلة الثانية:
كود الرحلة
: samfynd

زيارتي التالية لمدينة " الصويرة "، شاءت أن تتوافق هذه المرة مع أوج فصل الصيف من عام 2009. فما أن انقضى شهر رمضان، ولحق به العيد بأيامه الثلاثة، حتى رأينا أن الوقتَ قد حان للفرار من حرّ مدينة " مراكش "، اللاهب. وعلى الرغم من أن الحافلة الكبيرة، ( البولمان )، كانت تنفح ركابها طوال الطريق بنسيم مكيّفها، المنعش؛ إلا أنني ما أن ترجلت منها، في محطة الوصول، حتى أدهشني جوّ المدينة البحرية، المعتدل الحرارة. أحدُ الأدلاء، وكان فتىً في سن المراهقة بعدُ، رافقنا إلى منزل للإيجار سبق أن اقترحه علينا إثرَ مساومةٍ، معتادة. قلنا، أننا فارقنا جوّ المدينة الحمراء، الجحيميّ، المشبع بدخان المركبات. ولكننا، علاوة على تمتعنا هنا بالهواء العبق، النقيّ، فقد انتقلنا أيضاً من صخب تلك المدينة إلى هدوء شقيقتها هذه، البحريّة. في " الصويرة "، مثلما في باقي حواضر الساحل المغربيّ، تتميّز ألوان المنازل بالأبيض الناصع، المزركش بالأزرق الزاهي، والمنسجم مع صفاء سمائها وبحرها. وهوَ ذا سورُ المدينة القديمة، المقابل لمحطة وصول الحافلات السياحيّة، يُبهر الغريبَ الزائرَ بمشهد البيوت الأثرية، التي يعلو بعضها أبراجٌ مثلثة الشكل، مرصوفة بالقرميد البنيّ أو الأخضر. تستند هذه المنازل، إذن، إلى مداميك السور التليدة؛ وقد اشرأب من هنا رأسُ شجرة نخيل أو إحدى الشوكيات، ومن هناك لوّحت أيادي دقران كرمة أو عريشة مجنونة. هذا السور العتيق، في المقابل، كان ما يفتأ محتفظاً برونق الجدّة والتماسك والجَمال، حيث تنفتح فيه أبوابٌ ومداخل مهيبة ورائعة العمارة.
نحن في طريقنا للنزل المقصود، المفترض أنه يقع في حارة " الملاح " بالمدينة القديمة؛ وهيَ حارة اليهود، المعروفة، الخالية تقريباً من ساكنيها هؤلاء، الأصليين. سنمرّ أولاً بالحديقة المنمنمة، المستلقية في فيء السور، والتي تنبثق منها شجرة صنوبر ضخمة، يحيط بها صغارها في حنوّ و رقّة. شوكيّة " لسان الحماة "، مزدهرة في هذا الفصل بطبيعة الحال. فيما الجارات، من الأقحوان الأبيض، يستلقين في خمول وهن يتأملن تمثالاً نصفيّاً لرجل مجهول ( بالنسبة لي على الأقل! )، يتوسط المستديرة المعشوشبة. خِلَل الأشجار، ينبسط جزئياً مشهدُ البحر المحيط، بلون سماويّ صافٍ في العمق، فيما موجه على الشاطيء كأنه الفضة، الناصعة، المسكوكة تحت لهيب الشمس. النورسُ المشاكس، يحلق ثمّة وصولاً إلى الكورنيش، الحافل بحركة الزوار المصطافين والأهالي المقيمين. برجُ القلعة، الجنوبيّ، يتشامخ في اطلالته على اليمّ متوهّماً ردّ الغزاة، القادمين بسفنهم من جهة أوروبة. الشطآنُ القصيّة، تبدو للعيان وهيَ مترامية تحت الجبال الخضراء: من تلك الناحية، قدمت حافلتنا للتوّ، حيث يتفرّع الطريق الآخر إلى جهة مدينة " أغادير " اعتباراً من ضاحية " الغزوة ". هذه الأخيرة، سيكون موعدنا معها في رحلتينا الثالثة والرابعة؛ عندما زرناها بدعوة من شقيق قرينتي، الذي يعمل هناك في كبرى فنادقها.
ما أن خرجنا من الدهليز الطويل، المتصل بين بوابة المدينة القديمة من جهة محطة الحافلات تلك وبين مدخل " السوق الجديد "، حتى انفتح لعيوننا برزخ صوَرٍ ذو ألوان شتى. منذئذٍ، سيضحي كلّ ما ألقاه هنا على السجيّة نفسها من الإبهار، سواءَ أكان خلال دربٍ أو داخل زنقة أو تحت قنطرة. وها هوَ " السوق الداخليّ "، الشديد الضيق، تتراصف فيه جنباً لجنب الفنادقُ والمطاعم والمقاهي ومحلاتُ المصنوعات التقليدية ودكاكين الحلوى، فتنبعث من أنحائه روائح متنوّعة، مألوفة وحرّيفة. زواريبٌ على الجانبين، البعض منها له أسقف من الخشب والقصب، فيما الأخرى ذات فسح سماويّة. مداخل تلك الأزقة، هيَ بدورها تتوزع على القناطر أو الأقواس. ثمّة ساحة هنا، دروبها تتميّز بقناطر متتالية، تجعلُ عين المرء، المُنهَبلة، تزوغ بين الواقع والخيال. إلى أن ينتهي السوق بنا في " حومة الملاح "، أين سينفتح دربها الرئيس على زقاق معتق، مملوء بالظلال، لن نلبث أن تقطعه أقدامنا حتى آخره: هناك، إذن، يقوم منزل الإيجار، الموعود. للمدخل بابٌ مقوّس، خشبيّ ومزخرف، يشي بعراقة الدار، وهوَ من سيسلّمنا إلى شقيقه الأصغر، الحديديّ، المنذور لحراسة الطابق الأرضيّ. هنيهة، ثمّ أطلت امرأة على حدّ الشيخوخة، مرتدية لباس أهل المدينة، الكلاسيكيّ. لم نختلف على ايجار الأيام الثلاثة، المفترض أن نقضيها هنا ، طالما أن صاحبة المنزل وضعت طابقه الأرضيّ تحت تصرفنا مقابل مبلغ معقول. وكما علمنا منها أيضاً، فإن ابنة عازبة تشاركها في السكن بالطابق العلويّ، المتفرّد هوَ الآخر بباب حديديّ. نزلنا السعيد، يتألف من حجرتيّ نوم وصالون واسع للغاية، مقسّم على ثلاثة مطارح يفصل بينها عقودٌ حجريّة مصبوغة بالجبس وملبّسة بالزليج. الأرائك الخشبيّة، المغطاة بالفرش والوسائد المدبّجة، شبيهة بتلك التي يمكن للمرء التنعّم بمجلسها في معظم البيوت المغربيّة. أرضيّة الصالة، بلاطها ناصع ونظيف، فيما سقفها الكلسيّ موشىً في زواياه بالنقوش البديعة، وقد شعّت في وسطه تماماً فتحة المَنوَر، المربّعة والمزجّجة. ولكن في المطبخ، على دهشتنا، لم يعثر بصرنا على أشياء مفيدة للاستعمال، اللهمّ سوى الثلاجة الصغيرة. ثم ما لبثت شيخ الدار أن أعلمتنا، وعيناها تبرقان، أن بمقدورنا الاعتماد عليها فيما يخصّ وجبة الفطور وفي مقابل مبلغ زهيد.
بما أنني كنت على جمر الغضا، متشوّقاً لجولةٍ في المدينة القديمة، فقد مكثت متململاً ولا غرو في حضور عجوزنا؛ هيَ المتصفة بالفضول والثرثرة. فما أن تناهضت للمغادرة إلى وكرها العلويّ، حتى أسرعنا إلى الحمّام تمهيداً لتغيير ملابسنا والخروج إلى هواء المدينة البحرية، المتحرّر من الدخان والسخام. دقائق قليلة، على الأثر، وكنا ندلف إلى " السوق الجديد " عبرَ أحد مداخله، الخمسة. هذه الأخيرة، كان يفصل بين كل منها مسافة مديدة نوعاً. ويلاحظ المرءُ، علاوة على ذلك، أنّ عمارة المداخل متشابهة لناحية طرازها الاسلاميّ المحليّ؛ كونها مكوّنة من قوس حجريّ كبير، ثم قوسان آخران، صغيران، يكمن بينهما مدفعٌ أثريّ من كلّ جانب. تشديدي على الطراز الاسلاميّ، لكون العمارة في " الصويرة " مهجّنة بشدّة مع الندّ الأوروبيّ، وخصوصاً البرتغاليّ ـ كما سبق وبيّنا في الرحلة الأولى. " السوق الجديد "، يُستهلّ اعتباراً من الساحة الداخلية، الخلفية، للقلعة البحرية الكبرى، ثمّة أين تقوم إلى جهة اليمين مبانٍ أنيقة، تنتمي للعصور الأوروبيّة الوسطى، تشغلها المطاعم والغاليريات. إلى يسار الساحة تتناهض نخلات ثمان، هرمات، وكأنما للتذكير بالوجود الاسلاميّ، الراسخ. وهوَ ذا برجٌ عملاق، مربع الشكل، بعلو ثلاثين متراً تقريباً، مزيّنة قمّته بساعة كبيرة، يقوم بين الساحة الداخليّة وساحة المدينة الأشهر؛ Casa Vera. لكأني به برج كنيسةٍ، مندثرة، سبق وشيّدها الغزاة البرتغاليون بالقرب من قلعتهم تلك، البحريّة؛ خاصّة أننا لم نرَ أيّ أثر دينيّ، نصرانيّ، في هذه الحاضرة العريقة..؟
حَذاء البرج، ينفتح المدخلُ الأول للسوق، الذي يبدو بعقوده المتتالية كما لو أنه قيسارية هائلة الامتداد يزدحم بالمتسوقين والزوار من مواطنين وسائحين. هنا، تقوم على جانبيّ الدرب الفسيح المطاعمُ والمحلات، وبعضُ الاوتيلات أيضاً. ثمة مطعمٌ صغير ذو أدوار ثلاثة، كنا قد اعتدنا على تناول وجبات العشاء فيه خلال زيارتنا الأولى للمدينة، حيث يقع مباشرةً عند مدخل ذلك الدرب، الذي سكنا وقتئذٍ في شقة بإحدى عماراته. نتمشى خِلَل السوق في الجهة المفضية للبحر، لنلقى ثانيةً مدخل الدهليز نفسه، أين قدمنا مذ سويعة من جهة محطة الحافلات. المدخلُ واسعٌ، بلا أبواب، يُقابل تماماً المدخلَ الآخر للقنطرة المنفتحة على ساحة Casa Vera. طولُ هذا الدهليز، جدّ الأنيق، حوالي مائتي متر بعرض يناهز العشرة أمتار. على الطرفين، تبدو الأبنية تقليديّة على الطريقة المعماريّة المحليّة. زاروب في غاية التألق، يقوم مدخله المقوّس إلى يمين الدرب، يذكّر المرءَ بالإيوان الدمشقيّ الهائل العلوّ. أقواسٌ متتابعة، على الطراز ذاته، آخرها هو جزءٌ من السور ويؤدي إلى خارج المدينة القديمة. هذا الأخير، عبارة عن قنطرةٍ بعمق يقارب الخمسة أمتار، متماهية بلون أزهر ضارب على الحمرة. إلى اليسار زاروبٌ آخر، ولكن مدخله غير مقوّس، مرصوفٌ على التوالي بمربعات السيراميك الملوّن بالأحمر ثمّ الأخضر. في صدر الزاروب بابٌ عريض، مقوّس ومدهون بالأبيض الناصع، تعلوه مشربيّة كبيرة لأحد المنازل. سقف الزاروب، مسقوف جميعاً بألواح رائعة من خشبٍ أخضر اللون. ثمّة محل لبيع الزرابي، المشغولة يدوياً بصنعة بربر الجنوب، الحاذقة. ثمّ على الأثر فسحة سماويّة، ثمّ بواكٍ أربع تقوم على جانبيّ الدرب بعلوّ الأربعة أمتار تقريباً لكلّ منها. ما أن ألقيتُ السلامَ على نفر الباعة، المتجمعين في احتفاء أمام بضائعهم الثمينة، حتى لفت نظري بابٌ مغربيّ السمة، شاءَ أن يذهلني لوهلةٍ عن المناظر المونقة، الدانية: إنه ببعد أربعة أمتار متساوية للطول والعرض، مع قوس وافريز حجريين، ملونين بالأصفر. مادة الباب هيَ من الخشب المصبوغ بالزرقة الزاهية، وقد ثبتت فيه مسامير ضخمة للزينة على شكل هندسيّ من جانبيه علاوة على نقش للشمس في مركز الافريز. القبضة من البرونز، تقليديّة الشكل، فيما مسامير أخرى من نفس المعدن مطروقة في محيط هذا الباب حتى قمّة قوسه. بلاطة المدخل، الضيّقة والواطئة، كأنما لتسهل على المرء عبورَ الباب إلى حرمة المنزل. وإذ لم أكُ من أولئك المدعوين للدخول إلى هذا المنزل الفاره، فإنني في المقابل غبطتُ ساكنيه..!
للرحلة صلة..





تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

حكاية من كليلة ودمنة 8

04-آب-2013

حكاية من " كليلة ودمنة " 7

27-تموز-2013

حكاية من " كليلة ودمنة " 6

18-تموز-2013

حكاية من " كليلة ودمنة " 5

11-تموز-2013

حكاية من " كليلة ودمنة " 4

06-تموز-2013

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow