Alef Logo
ابداعات
              

قصة / غيوم تسكن الجبل.. والرجال ينظرون من النافذة

الفارس الذهبي

2006-04-24

1- مُحتفِلون ومُتفرِّجون
نزل ذلك الولد مثقلاً بالنعاس على الدرج المتهالك تحت قدميه وتقدم إلى باب البيت، وقف على ناصية الطريق ينتظر أصدقاءه بهدوء. كان الصباح بارداً رمادياً حيث لا يوجد في الطرقات سوى بعض القطط على المزابل وبعض العجائز السائرين بسرعة مطرقي الرؤوس وهم بلباس النوم حين كان دائماً يتساءل إلى أين هم يسيرون…
وقف، وأحس بالبرد الشديد يدخل إلى عظامه وشعر به حينما بدأت أسنانه تصطك بسرعة وبحركة لا يفعلها عادة.
أدخل يديه إلى جيوبه بعد أن رفع ياقة لباس المدرسة الموحد واستند إلى السياج الحديدي للحديقة، البارد أيضاً فابتعد عنه بسرعة مرتعشاً…
البارحة كان عيد ميلاده السادس عشر حيث أحس بنفسه قد ازداد طولاً حوالي خمسة سنتمترات فأصبح طوله أكثر من طول أبيه بسبعة سنتمترات مما زاد من إحساسه بالرجولة.
شد ظهره وقامته ونظر يميناً وشمالاً كيما يراه المارون بحلته الجديدة…… لكن لا أحد… فعاد إلى برده…
والبارحة أيضاً لن ينسى أبداً صوت طلقة الرصاص التي دوت من بيت جيرانهم ولن ينسى أيضاً منظر جارهم الذي أخرجه رجال الإسعاف مسجىً على حمالتهم بعد أن انتحر، سالم الضابط الخمسيني الوحيد في منزله لسبب ما لا أحد يعرفه. سالم الذي كان يتودد له دائماً.
: لا.. لا.. لا أريد التذكر ولكن لماذا؟ مات.. لقد مات، لماذا أطلق النار على رأسه، وفي الحمام، كامل العري أيضاً. كان رجلاً جميلاً لكن السمنة داهمته وقضت على رشاقته وفتنته.
في هذه الذكرى تقدم أمير وهو يستكمل لباسه في الطريق بسرعة وبدا البرد واضحاً عليه وعلى أنفه الضخم جداً –والمضحك فهو لم يكن كذلك أبداً- أنفه الذي احمر كثيراً وأصبح بلون وجهه الذي أضحى لونه كذلك مؤخراً بعد المأساة التي شاهدها صدفة في عاصفة البياض الأنثوي لزوجة ناطورهم ولأول مرة، ساعتها، تأخر ويا الله كم تأخر ولم يذهب يومها إلى المدرسة بل عاد إلى المنزل والدموع على خده الأحمر والذي لم يعرف أحد سببها، لا أمه ولا شقيقته ولا حتى أبوه الذي أشفق على مرآه كثيراً وهو لم يعتد منه هذا، لم يعرف أحد إلا محمد الذي عاجله قائلاً وبهدوء الرجال الوقورين: بسرعة.. بسرعة.. تأخرنا.
وهنا تقدم رشيد وبجواره خالد.
رشيد الذي افتتن بضخامة جسده ونموه السريع فعاجله بالرياضة وخاصة رفع الأثقال فازداد ضخامة، وخالد الفتى الضئيل الأبيض الذي تقترب ملامحه من ملامح الفتيات، والذي طالما تضايق من حجم اللباس العسكري الفضفاض غير المصمم له.
ودون السلام أدار الاثنان المنتظران ظهريهما للقادمين ومشيا ببطء فأسرع الآخران باللحاق بهما.
تقدم الأربعة بهدوء ينزلون الجبل. قاسيون الرابض بقوة بأطراف الواحة الخضراء، الجبل الأجرد القاسي البارد الذي احتمت في مغاراته وشقوقه آلاف العائلات فبنوا لأنفسهم فيه أكواخاً مخالفة للمنطق ولكن.. يا الله كم هي جميلة.
لم يشعروا أبداً بانتمائهم إلى المدينة، المدينة التي طالما انتظروا تفتح أضوائها ليلاً… كل ليلة…
دمشق التي طالما وقفوا ووقفوا يتأملون صخبها وعنفها، قلقها وضعفها، مراقبة ومراقبة فقط.. لأنهم كانوا خارجها تماماً ودائماً كانوا خارجها.
وقف الأربعة في أعلى النزلة القاسية التي تؤدي عبر ضيق شوارعها وبيوتها إلى الجادة الثانية فهم قد تأخروا حينئذ عن المدرسة.
شد الأول ظهره وأرخى أمير شعره على وجهه فيما عدل رشيد قميصه ليبرز عضلاته وعدل خالد البذلة الفضفاضة قليلاً إلى الخلف كي تستوعبه.. وهموا بالنزول.
ولكن ليس إلى النزلة القاسية الطويلة بل عبر طريق المقبرة المختصر. وكأن هؤلاء الأربعة لابسي رداء الجنود قرروا اقتحام المدينة أو أنفسهم…
هبط الأربعة الصخرة العالية التي تشكل سور المقبرة الشمالي والتي تحد بيوتهم من الجنوب، كانت الصخرة بيضاء كبيرة فيها العديد من الحفر السوداء من تراب الجو الذي يحلو له أن يستريح بعيداً عن الريح هناك.
فيما المقبرة مليئة باللون الرمادي تماماً ما خلا بقعاً خضراء وصفراء هي أزهار الفجيلة البرية التي تنمو في كل مكان في هذا الوقت من السنة تحت المطر والثلج ولا تحتاج إلا لقليل من الشمس لتثب في وجه المقبرة.
قفز رشيد وتبعه محمد فخالد فالرابع. لم تكن المقبرة شيئاً مخيفاً بالنسبة لساكني الجبل فهم يتعايشون معها يمرون بقربها ويشربون قهوتهم على أفقها ويتوجهون بأبصارهم عبرها للمدينة.
لكنها كانت تحمل نوعاً من القداسة فأجدادهم وزعماءهم وأقرباءهم نائمون هناك، لذا فهي ممنوعة وليست مرغوبة.
أما مغامرو الجبل فكانوا يجدون فيها دائماً متنفساً لهم تماماً كالوقوف في باحة المساكن.
بعد أن التفوا عن الضريح الكبير خلف الصخرة التي تحجب عنهم الهواء شهقت عيون الأربعة من بهاء ما رأوه فالصبح في أوله وتكسرت رمادية السماء قليلاً بلطخات وردية وعشرات آلاف المنازل التي لا حس فيها إلا للدخان المتصاعد من سقف كل منها.
لقد أتعبهم ما رأوا فلم يجدوا مكاناً للجلوس إلا فوق القبور، فالقبور مريحة ولكنها باردة.

2- الاحتماءُ بالمَوتى
جلس الأربعة بصمت لا يليق بهم.
أخرج رشيد علبة سجائر رخيصة وأشعل واحدة بطريقة المحترفين ثم لف يده على الآخرين الذين رفضوا أن يدخنوا لأنهم صائمون، ولا يريدون أن يفطروا أيضاً، فامتعض رشيد وتمتم بصوت خفيض.. ثم أردف ليزعج خالد أضعفهم كما اعتاد: هل تعرف على قبر من تجلس؟ إنك تجلس على قبر برهان..
وجل الجميع وأضاف رشيد: برهان الذي شنق قبل أسبوع. ومع نطق رشيد لحرف العين انتفض خالد مذعوراً عن القبر ونظر إليه كمن لا يصدق أنه لامس بجسده شيئاً كهذا.
أطال خالد النظر في القبر وبدأ يقترب منه كي يقرأ بتمعن أكثر فيما رشيد ومحمد والثالث في مفاجأة كبيرة، وكمن فاتتهم الضحكة استغربوا تماماً.
وكأن برهان الرهيب يمت بصلة إلى خالد.. الرخو.
ودون أن ينظر إليهم: أتعلمون؟ .. لقد رأيته متأرجحاً في ذلك اليوم كان المنظر مخيفاً جداً، كنت مع أختي ذاهبين لزيارة أمي، ركبنا الباص وإذا بالناس مجتمعة وسط الساحة، شرطة كثيرة وسيارات فيما هو –وتلعثم قليلاً- معلق…… حبل ثم جسد يتأرجح مع الهواء.
لكن لماذا يتفرج الناس بسعادة على منظر كهذا.. حرام .. أليس كذلك؟.. لقد بكت أختي.
لم أفهم أنا شيئاً أو لم أستوعب لكن بكاء أختي جعلني أشعر وكأنه يخصني أو كأنه مظلوم.
انتفض أمير وقد ازداد وجهه احمراراً: لكنه قتل زوجته وأخاه.. إنه قاتل.
رد خالد وقد عاد إلى سكونه: لكننا نعرفه، كنا نراه دائماً وهو يوزع المازوت على الأحياء القريبة.. في ذلك اليوم لم أستطع النوم أبداً وأحسست نفسي بأنني إذا نمت فسيكون لوجهي نفس تعابير وجهه..
صمت الثلاثة فيما خالد يتكلم، ونظروا إليه وهو يقتلع بضعة أزهار من الفجيلة البرية وينفض التراب عنها ثم يضعها على هذا القبر الغريب.
قبر برهان الأحدب الذي قتل زوجته وأخاه وشنق قبل أسبوع حينما رآه خالد وشقيقته بينما كانا ذاهبين لروية أمهما الوحيدة ويومها لم يستطيعا النوم.
سقطت بضع قطرات من المطر فوق الجنود الأربعة، انطفأت سيجارة رشيد..
وانطفأت تراجيديا خالد..
وانطفأ احمرار أمير..
فيما ركض الأول ولحق به الثلاثة الآخرون نحو باب قبر الزعيم ذلك القبر ذي الغرفة الصغيرة والقفل المكسور، دخل محمد ولحقوا به.
ابتسموا جميعاً للمغامرة، أخرج خالد قليلاً من الخبز والجبن وبندورتان وبيضة مسلوقة.. كان يحمل إفطاراً كاملاً! ضحك الثلاثة في اتفاق صامت وبدأوا الأكل فيما إسمنت القبر المشقق والسقف التوتيائي يطقطق.
حين قاطعهم محمد وفمه مليء بالطعام: ماذا يجري في الدنيا؟ البارحة انتحر سالم.. موت، موت، موت.
كل شيء مرعب.. وشردت أفكاره فلم يعد يسمع شيئاً..
توقف خالد عن الأكل وقال:
لقد كنت أكذب.
لقد نمت…

3- انتبه.. لا لستَ حراً
لن يتبادر إلى ذهن أحد كيف فتح النافذة ذلك المساء.. لقد ارتكب جريمة كما قال الأب دون اهتمام…!
كان قد صفق الشباك للتو قبل فتحه، ولكنه أبداً لم يسمع صوت سيارات الإسعاف.
لأن صراخ الأربعة داخل المنزل كان أقوى من أي صوت في الخارج، كانت حرب التفريغ داخل المنزل دائمة ويومية، الحرب التي تخول أبا محمد تفريغ غضبه الدائم على عائلته فقط كونها تحتمله وبأنها –أي العائلة- ستحتمله أما الآخرون فليسوا مضطرين لاحتمال حساسيته.
وغالباً ما يتكون غضبه أثناء صعوده انحناءات الجبل القاسية التي ترهق أشد الرياضيين احتمالاً..
أغلق محمد النافذة بعنف فارتطمت الأخشاب ببعضها، أغلقها كي لا يستمتع الجيران ببقية القصة فالبيوت متلاصقة بشكل عجيب والجميع داخل المنازل كون الأمطار غزيرة في الخارج.
هكذا ظن محمد لكن العكس حدث. ارتطمت الأخشاب ببعضها وصمتت العائلة وسمع الجميع صوتاً يشبه صوت رمي خشبة معقوفة في الهواء. صمت الجميع.
أدار الأب ظهره قائلاً: لقد ارتكب جريمة.
لم يفهم الثلاثة الباقون محمرو الوجوه ما قصد…!
كانت الحمامة البرية التي ترقد في ظل الشباك نورا شقيقة محمد من ضربة الشباك فطارت في الظلام، حلقت بعنف نحو المجهول، طارت بعيداً عن دفء زجاج الأخت القليل وبعيداً عن زحام سيارات الإسعاف أسفل الحي حيث انتحر سالم.
أدرك الأحمق ما فعل، مد قامته الطويلة ارتجالياً من الشباك عله يرى تلك الحمامة البرية إلى أين ستذهب.
أو بأي شيء ستصطدم، بحائط، بجدار، بهوائي، وأين سيجد غداً جثتها.
لكنه شاهد جثة غيرها.
الطيران في الظلام مستحيل.

4- حزينٌ هو

رفع رشيد خالد من ياقته، ثم ألقى بقايا البندورة عليه.
: تباً لك.
ثم بادر أمير بهدوء وتساؤل.
: لم يعرف أحد ِلمَ انتحر سالم، آه أشعر بالخوف لن نذهب إلى المدرسة هذا اليوم أليس كذلك؟
أجاب الجميع بأن هزوا رؤوسهم بصمت ثم تابع: كان يركض صباحاً، كل يوم، ينزل ويرتدي لباس الرياضة الغريب وينحدر راكضاً ثم يعود تقريباً في الساعة العاشرة. لقد رأيته أنا مرة. كنت مريضاً، لم أذهب إلى المدرسة، نعم لقد رأيته.
وقف عصفور تعِب على شباك الباب المكسور، وبدأ بالنظر بخوف في كل الاتجاهات كان المطر، قد اشتد. رماه أمير بحصاة.
لم يخف العصفور من الرجال، استفزهم.. ضحك الثلاثة أما رشيد فألقى نظره إلى المدينة.
: أعتقد أنه كان يعاني الوحدة. ولكنه لم يخجل من رؤية رجال الإسعاف والشرطة والجيران له عارياً كيف انتحر في الحمام؟.. وصمت محمد.
: ماذا سيحل بالسيارة البيضاء الصغيرة التي كانت معه؟
: ستأخذها الدولة… هذا أكيد……
وبدأ التوتياء يذرف الطين المتراكم، وتذمرت العناكب هاربة إلى الزوايا.
وأخذت سحابة سيجارة رشيد الثانية تملأ المكان فانحدرت دمعة خالد على غبار التراب فوق الإسمنت……
صمت الجميع لفترة طويلة جداً وتثاءب الأربعة نعاساً بينما رشيد وقف عند الباب واستحال لونه أسود مع ازدياد الضوء، كان وجوم غريب يسيطر على المكان وكأن حدثاً عظيماً سيحدث الآن أو اليوم.
جو غريب لم يفهمه الجميع.
كانوا عندما يتحدثون عادة، هناك ثلاثة يستمعون إلى الحديث أما الرابع فهو، دائماً يسرح بأفكاره خارج المكان.
ملوا بعضهم، وذهب أحدهم ليحضر الخبز ليرضي والده عندما يعود إلى المنزل.
وقرر الاثنان النزول إلى المدينة ليدوروا حول المدينة بالباص. فيما صعد رشيد الجبل إلى ما فوق البيوت ووقف على الجرف وبدأ برمي الحجارة… حزين هو… فلا قصص لديه يرويها لأصدقائه…
أبداً… لا قصص… فهو غير بارع أبداً بسرد القصص وإذا أراد…… فهو لا يفعل شيئاً سوى النظر من النافذة.




تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مقالة في ديكتاتورية الفن ...

27-تموز-2012

قداس جنائزي مفترض ،قبل القيامة...

18-كانون الثاني-2012

سلام إلى مداح الشام العتيق...

08-كانون الثاني-2011

إعادة قراءة المأثور

20-كانون الأول-2010

مرثية من أجل مايكل جاكسون....

06-تموز-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow