Alef Logo
ابداعات
              

نقد / قراءة نقدية في (أصابع) لمنى ظاهر

سامح كعوش

2006-06-04

خاص ألف

(أصابع) منى ظاهر امتداد ٌ خفيٌّ لعالمٍ افتراضي قوامه هي و هو فيها و رغبتها فيه حدّ احتراقها. عالمٌ لا مكانيّ و لا زمانيّ ، بل إنّ مجموعتها " أصابع " هي اتضاح حالة حب في أبسط أشكالها المتخيَّلة . هو امتدادٌ لعلاقةٍ حميمةٍ بين طرفين هما " هي " و " هي " ، حين تتخذ منى شكلَ الآخر في انعكاسهِ الدافئ داخلَ ذاتها كروحها .
ولا يضيرها وقوع هذه " الأنوية " في نرجسية ٍ تعطيها الفعل في النص، و شبقيةٍ تتخذ أرقى أشكال الفعل العشقي في تحقق الحبيب/ المستحيل. فهي لا تفعل ُ إلا في الحلم، ولا يتحقق هذا الرجل/ الآخر إلا في خيالها كأسطورة ، فالأسطورة هي التجلي لرغباتها الممنوعة بفعل حاجز المكان بين الوطن = المنفى ، بين الحقيقة = الخيال. تتوجه ملكاً في الاسطورة لا ليحبّها ، بل لتمارس فعل غوايته و كفى .تحتفظ به كملاذٍ أخيرٍ حين " الكلمات حيرى و عنق الزجاجة يضيق ُ أكثر، حتى إذا انعتقت من أسرها ... أسروها عند أول نقطةٍ للتفتيش "(صفحة 67).
لأصابعها " جدلية علاقةٍ بينهما، تفعل ُ فعلَ السحرِ ، و تتماهى ذاتها فيه ليصيرها حلماً أو طيران نوارس تتعلمه لتكتشف به أسرار الطيران ، لا لتبحث فيه عن قوتها اليومي . تعتقلهُ ملتاعاً
"و تعصف به كعاصفة ، تهيّج بركانه الثائر، تعتبره ذاك الحوت الذي تهوى فك ّ قيده حدّ إبحاره ِ في عشقها ، ثم ّ عندما تتحقق النبوءة التي تحمل لغدها دونه ، تسجنهُ من جديدٍ في محارة. هو في كل هذا ، كمارد القمقم الذي سكن البحر و رهن عمره بمن يفك أسره فيخرجه من أعماق البحر . تقدمُ منى على اغتيال صورتهِ لتلوّنها بليلكها العجائبيّ ، أو تحمله إلى أعلى سماواتها ثم ترميه في بحرٍ من كلماتٍ بلا نقاط، يتسع ليصير ملعبهما معاً ، يتراشقان بالنجوم، و يوزّعان النقاط/ بصمات الأصابع حيثما و كيفما اتفق لهما أن يفعلا ، " معهُ أذيّلُ جُملي بنقطةٍ و أكثر، لو تبغين أن نتحادث نقاطاً فلنفعلْ " (صفحة 19).
إذاً ، ترسمُ منى ظاهر صورةً ليلكية ً ربيعيةً لرجلها الخفي النبي ، الذي يسكن الغيب / الغيم ، و يختفي في بياض الورق. إنه رجل الحلم الذي لا يأتيها إلا في عتمتها التي تضيء ، فكيف ترسمه هي بالنقاط و تختنقهُ بالحروف و لا يجيء ، في بياض ورقتهِ بكل سواد حبرها ؟ " يسيلُ منه الحبر و يسيل منّي، يأخذنا للحلم، و في الحلم و بينه (صفحة6) .
هي تعلم أنه رجل المستحيل و المتاهات، يعذّبها بتقشّفهِ، و بلادته عن الحضور. لا يتسلل إليها إلا حين بوابات الروح تنكمش، و يحيا على قيد الحلم في الجميل المُتخيَّل، " ليس هناك أجمل من الجميل المتخيّل ، و يعيش السر بيننا " (صفحة 11).
رجلها الحبري ، أسطورة الورق الموزّعة بين الكلمات و الشهوات، يغريها بتحققهِ الأسود ، و لا يعدها إلا بالاحتراق، " أصابعه تسيل على جسدها شموعاً ، بينما أصابعها تسيل إلى عنقه كشفتين لا يصلان قبل الكلام ، حين تتقطر الكلمات عسلاً و شهوةً ، رغوةً على امتداد بياض صفحتها/ صدره الورقيّ " ثمة عسلٌ لا ترتشفهُ سوى الأصابع = تنقيط الجمل يُغريني " ( صفحة 9 ).
رجلٌ لا يعدُها إلا بالظل ، " غرابة الظل تراودها ، فقد يكون ظلهُ يلازمها " ( صفحة 49 ). يقبع في اللامكان ، في اللاوطن ، في غربةٍ معتمةٍ لا تنيرها إلا أصابعها حين تمتد إليه ، و تمارس عشقها له كأجمل من فعل غوايةٍ ، و أشرف من فعل شهادةٍ / استشهاد ، " و هناك في اللامكان ، يقاسمني هو الهواء ، لنرقص للموت ، و نهرب من القفص " ( صفحة 49 ) .
هذا الرجل الغيمة ، يكفيها منه أن يأتي معلناً ربيعها، أن يحمل مطراً في جعبتهِ ، حبر قصائدها ، تعرّقها حين يلثم بشفتيه برتقالها فيعتصر منها رائحة تراب الوطن و يشتمها. و لأنه الغيم ، المطر ، السماء ، تصير هي أرضه البكر ، في طفولة يديها ، و خصوبة عمرها المشتاق إلى خصبه المائيِّ . ولا يرضيها منه أقل من انسكاب روحه فيها ، موته على يديها ، لتمحوَ من ذاكرتها الصورة وتُبقي على أثرها في ذاكرة الحواس / البصر / العطر و اللمس " هناك في غابتك، حيث تتشابك الأغصان ، و تحترق الشهوات ... و تنبعث مياهك من جوف الرغبة الكامنة ، و تقول إنها روحك " ( صفحة 56 ).
هي و هو في علاقة الأصابع الممتدة عبر فراغ الروح و الأيام و المساحة بين الثابت و المتحول من العواطف و الجغرافيا و الحواس و الذاكرة . هي امرأة الليلك ، البنفسج ، الكرز و التوت ، و هو رجل المتاهات، رجل المستحيل، كائنها الحبريّ رجل الحلم و الغيب .
ثباتها ضد تحوّله ، فراشتها ضد احتراق قنديله ، وهج شمسه / رغبته ، ثباتها كوطنٍ ، و تلةٍ ، و شجرة زيتونٍ ، أو مبنى عريق في بلدة قديمة. أنثى صامدة / " على حافة الألم ، هدية نضال المرأة الفلسطينية بطرحتها السوداء و عينيها النجلاوين ، و زندها المخضوضر ، صامدة هي تهزّ السرير بيمناها ، و تزرعُ الفلّ بيسراها ، كلنا في الوطن ، نبني بيوتاً و نزرع الزيتون " ( صفحة 46 ) . و ثبات مكان / " الطابق السفلي من المبنى الفلسطيني العريق الذي يسكن البلدة القديمة بحجارتها الصامدة العربية ... فتحت ُ و كان هو " ( صفحة 15 ) .
هي الريح و هو النار ، تهبّ فتذكيه ، تزيده اشتعالاً حين حضورها كسماء لغيمة قلبه و أحلام ٍ لعتمة ليلهِ ، ووطنٍ لغربتهِ ، و فراشةٍ لربيعه . يلتقيان في اتحاد رؤى و أرواح ، و امّحاء ِ حدٍّ حدَّ الانصهار و الاندثار ، و لا يرتاحان إلا إلى مزيد من الاحتراق و التشظي في غربتهما عن المكان / الوطن ، " اثنان في المنفى نحن ... و الوطن يحيينا بذوراً ، نتهيأ زيتوناً للمستقبل " ( صفحة 11 ) .
قيامة الأنثى من غيبوبتها الشرقية التي استمرت منذ الأزل ، تتحقق على يدي منى ظاهر في أصابعها ، و لأن قيامتها تعني قتل الذكر ، فإن أصابعها تلتف حول عنقه ، تخنقه و تسطو على أنفاسه لأنه لا يقوى ، لأنه ذكرُ اللافعل ، اللا قدرة ، ذكر الورق .
هو في المكان البعيد ، المنفى ، حيث اللاوطن ، يناديها لتعيد إليه وطناً فقده و افتقده ، أو تعيده إلى الوطن ككرزٍ بين الأصابع ، أو كنرجسة انتظار ، جنية عشق و فراشة لربيعه ، و لو محترقاً على يديها ، تسيل ُ نبراته في غياب الصوت، و لأن " الفراشة لا يقربها إلا من يريد الاحتراق معها للأبد ( صفحة 32 ). يطالبها بفعل قوة يعجز هو عن امتلاكها ، هو الأسير في اللاوطن ، اللامكان ، المعتقل " معتقلٌ أنا بتفكيري فيكِ ، معتقلٌ أنا بشوقي كلّي لكلّكِ، معتقلٌ أنا بشوق أصابعي لأصابعكِ ، معتقلٌ أنا للشعر ( صفحة 39 ) .
التحرر احتراق و انسلاخ ، و الحلم حرب من أجل أن نشنّها بحزم. أن تتفتح في عمره بجرأة العشق و انزياح الأسماء عن مسمياتها ، إلى أسمائها الجديدة. المرأة تصير فراشة و الرجل حبراً ، و منى تصير جنية ساحرة تعيد خلق الأشياء كما تشاء هي لجنّيها المأسور في القمقم ، " يدمنان التحايل على اللامكان ، في المنفى ، و يعيشان في خيال الحلم" (صفحة 66).
" وقت اللاوقت معه ، و مكان ليس بالمكان ... إيحاء تراجيدي " ، أي مكان هذا الذي تبنيه أصابع منى ظاهر ؟ أي جمال هو هذا الذي يتلوننا حين نغرق معها في تعب الألوان من الليلكي الربيع ، الفاقع العشق حد الثمالة ، حدّ السكر المفرح و احتراق الروح في اشتهاءات الجسد و فوات الرغبات ؟ . تسكننا في المساحة / ربيعٍ عشقيٍّ بامتياز. لكنه تراجيدي النهايات في اللقاء المستحيل و الرغبة المؤجلة. فعل بكاء و حزن ، لذة دامعة لأن الذاكرة لا تشبع و المكان يضيق، و لأنها أثرٌ من وطنٍ ضاعت عيناه و بترت يداه ، و صار بلا قلب ، بلا شعب ، بلا ذاكرة .
هي زهرة لوزه، تزهر في ربيعه و لا يأتي ، فيمضي بعيداً ، وحيداً منهزماً إلى خريفه بعد حين ، " ينحرقانِ حتى الرماد، و يغدو الهلاميُّ اشتعال حياة " ( صفحة 8 ) .
إيحاءٌ تراجيديٌّ حزينٌ كما أعلنت منى ظاهر في امتداد " أصابعها "، فعل اختلاس اللذة ، بالقبلة في العنق تدوّخهُ ، بالشفتين اللتين تزاوجان زقزقته و لا يغرّدُ فوق غصنها ، لأن الجسد لا يتلذذ إلا بالدمع ، " أيتلذذ جسدنا دموعاً تتقطر يوم نحبُّ أيضاً ؟ و هل في دموع أجسادنا ساديةٌ تتلقفنا ؟ " ( صفحة 30 ) .
إيحاءٌ تراجيديٌّ و إن تلوّنَ بالعشق ، في عملية استدراجٍ ذكي للحواس " يستدرجهُ عطري ... يُسكرهُ ... تنزل عليّ أمطارٌ من القُبلِ، تمطرني ... تلتهمني شفتاه ، و ذاكرة أصابعه لا تشبع " ( صفحة 21 ) .
يريدها أن تدخل أحلامه لأنه أضعف من أن يحلم ، أضعف من أن يواجه الجلاّد بحقيقة الحب ، " أن تنزلقي إليها ليلاً، الليلك " ، تقول الحبيبة : " الليلُ لك " .
أجل، هو ينتحر لتعلو هي ، لتحيا كأنثى قديرة صاحبة فعل عظيمٍ ، متمرّسةٍ في الغواية القدسية العاهرة " اصابع للصلاة، المكان القديس العاهر " ( صفحة 4 ) ، تغني له بعزف لا يقدر أن يقاومه ، بما يشبه السحر الذي يحرّك اشتهاءات روحه العطشى، ليصير جسرها إلى شهوتها كأنثى تتقطر عسلاً ، كفراشة وهج لا ينطفئ، " أأرسمك بألواني ؟ أم أعبرك بشفاهي ؟ قد أختار الاثنين معاً " ( صفحة 28 ).
تتنفّسهُ ، يتنفسها، يهتاجان ، يحتاجان، يتزاوجان، يتساكنان، يشتهيهما العشق، ثم يكون الانطفاء، لأن الرجل/ هو لا يقوى، يتساءلُ :" هل أعود لوطنٍ لم يحتملني ؟ " ( صفحة 19 ) . لأن الأنثى تستعيد قدرة الألوهة المؤنثة / عشتار أدونيس ، و لأن الرجل انطفأ و دخل في غيبوبة الأساطير.
بينهما التناقض حينها، هي امرأة الحبر على جمر النيران ، و هو " رجل الورق بجمر الحبر يكتبها " ( صفحة 34 ). بينهما الرغبة الغائبة في ضياع المسافة بين الوطن واللاوطن، و الحب و اللا إمكانية الحب ، و الاشتياق كقمة التصعيد في الموقف الدرامي التراجيدي، الشوق المريض إلى لحظاتٍ لا تمر ثانيةً ، و أمكنةٍ تقبع في أعماق لا وعي البدويّ كأطلالٍ تشهد على غربتهِ كلما مرّ بدار ليلى " يلثم ذا الجدارَ و ذا الجدارَ " ، و يبكي عذاب ترحاله الطويل و مشقة البكاء، بكاء الروح لا العينين، " تشابكت أصابعنا، و تلاصق جسدانا، كانت نشوتنا تهدي خطانا نحو الطريق ، كنا ننزل في زورق النيل الشراعي ... و تغطينا رحلة الليل الطويل " ( صفحة 57 ).
منى ظاهر، مبدعةٌ في الحلم ، في تحفيز ردة أفعال الذاكرة ، شاعرة اللون و الرسم ، و القبض على اللحظات الهاربة في لا وعي إنسانٍ يختصر وجودُهُ وعياً جماعياً لشعبٍ بلا وطن.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

افتتاح المؤتمر الدولي الثاني عن الآثار في الإمارات‏

03-آذار-2009

لا يشبهنا في الموت أحد

09-كانون الثاني-2009

الذاكرة تحفر في متخيّل شعراء الحداثة في دول الخليج

09-تموز-2008

لغتي ابتداءُ الكون

07-حزيران-2008

تحولات الرّمل: وعي الاستمرارية في التجربة الروائية في الإمارات

02-آذار-2008

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow