Alef Logo
ضفـاف
              

تحولات الرّمل: وعي الاستمرارية في التجربة الروائية في الإمارات

سامح كعوش

2008-03-02

الاستمرارية التاريخية في التجربة التراكمية لكتابة الرواية في الإمارات، هي التاريخ مستعاداً عبر كتابات سردية تنحاز إلى تاريخها لتكشفه وتنقّيه في بياضها الإبداعي، وشفافية حكايتها عن المستور والمخبوء في الحال الجماعية والاجتماعية في منطقة جغرافية ما، وإن امتدّت ما بين شرق الجزيرة العربية عند ساحل الخليج العربي، وغرب الشمال الإفريقي عند ساحل المحيط الأطلسي.
أما عن تحولات الرمل، فهي المتحول الموضوع، في كتابة اثنين من كبار الكتابة الروائية في الإمارات، هما: راشد عبد الله، وعلي أبو الريش، كونهما يختصران في تجربتيهما الكتابية حيزاً زمانياً يمتد ما بين كتابة الرواية الإماراتية الأولى، وهي رواية "شاهندة" لراشد عبد الله، والرواية الإماراتية الأبرز، وهي رواية "ك، ص: ثلاثية الحب والماء والتراب" لعلي أبو الريش.
وتحولات الرمل تعني تحولات مكانية وزمانية غايرت المألوف، وانطلقت من صفر الكتابة بتعريتها شخوص أبطالها ومجريات أحداثها، وإعلان "سلطة التافه" كمصدر سلطة وقوة للنص الروائي المحلي كما رأى ميلان كونديرا في قراءته لليومي المتدفق كإحالة جمالية من خلال امتحان ما أسماه السخافة اليومية مستشهداً برواية "التربية العاطفية" لفلوبير المطبوعة العام 1869، وفي ما أسماه جمال الموت كما في رواية "أنا كارنينا" لتولستوي، وسلطة التافه هي ذاتها سلطة اليومي التي لا يفهمها إلا الروائي نفسه، ففي المسرح مثلاً لا يمكن لفعل درامي عظيم أن يولد إلا من فعل عظيم آخر، ووحدها الرواية أفلحت في اكتشاف سلطة التفاهة الفسيحة والغامضة بحسب كونديرا.
وسلطة اليومي في النص الروائي تربطه بالواقع ولو في يوتوبيا خاصة بالروائي نفسه، متخيلة ولكن من مجموعة وقائع يعيشها ويربط بينها بخيط الشكل الفني والمضمون الروائي الذي يتخذ من سحر الواقع فيفعل في القارئ ما فعلته روايات نجيب محفوظ وحنا مينة حين نقلت واقع حياة البسطاء والمهمشين في مصر وسوريا، وأقنعت قارئها بصدق ما تنقله من يومية سردية كاشفة عن مجتمعات بأسرها، فها بطلة رواية "شاهندة" ابنة عائلة من الخدم العبيد الذين اتخذهم "حسين" خدماً في بيته وتجارته وترحال مركبه في رحلة الغوص والبحث عن اللؤلؤ، وإن اتخذت زوجته من بنات تلك العائلة، ومن "شاهندة" تحديداً، بناتٍ لها، لا تقبل بأن ينادينها إلا باسم "أم"، تقول الرواية على لسان "سلمى" زوجة حسين، مخاطبةً شاهندة:"لا تقولي لي من الآن سيدتي أبداً، أنتِ ابنتي، قولي لي يا أمي، أنا أمكِ يا شاهندة، أنا مثل حليمة، أنتِ بالنسبة لي شيء كثير، أنا لم أذق طعم الأمومة إلا بكِ ومعكِ".
وها بطل رواية "ثنائية الروح والحجر التمثال" الأول أبو ناصر نفسه، يعتمر عمامة النواخذة، ويرتدي عباءة العصمة والمواعظ القديمة التراب، مستميتاً من أجل جرعة ماء، فهو كما يصوره علي أبو الريش "الرجل الأحمق، تصلّب كهذه الصخور، حتى تفتتت إرادته، وتحوّل إلى ذرات تذروها ريح الألم والهزيمة"، وها بطل الرواية الثاني ثمرة علاقة خطيئة وزنا، جمعت بين "فطوم" الخبلة، والبيدار حمود العور، فالبطل هو الطفل اللقيط الذي وجدته "سلامة" زوجة أبو ناصر مرمياً قرب البئر، جسماً غريباً في قطعة قماش صفراء ذات لون ترابي، شبيه حشرة كبيرة تدب على الحصى.
كما تعني تحولات الرمل، وعي استمرارية جماعية لتاريخ بلدٍ ينتقل من مرحلته الصحراوية إلى مرحلته الحجرية، في سياق تطور كتابي وإبداعي، وإن اتخذ شكل التطور العمراني كواحد من تعدد وجوهه، فلا بدّ للرمل من أن يحتل الحيز الأكبر اليوم وغداً، كما بالأمس، في ما يحيل الأدب الروائي المحلي وثيقة ميلاد ثم سجل اعتراف، أو كتابَ تاريخٍ لتاريخِ البلدِ نفسه تكتبه تجربة الشخص الذي فهم أنه سيستمر كتابةً وإن انتهى جسداً، والشخص هنا راشد عبد الله، وعلي أبو الريش.
يقول ميلان كونديرا في كتابه "الستارة": "ما يحيلُ الأدب والفن بشكل عام، إلى تأريخ لتاريخ، تاريخُه الشخصي فقط"، إذ يعتبر كونديرا "أنّ التاريخ أصبح تجربة كلّ شخص، وبدأ الإنسان يفهم أنّه لن يموت في العالم ذاته الذي ولد فيه"، فساعة الحائط تعلن الوقت الراكض نحو غايات كتابية وقولية وفكرية أخرى، وباريس بلزاك برأي كونديرا لا تشبه لندن فيلدينغ، لساحاتها أسماء، ولمنازلها ألوان، ولشوارعها روائح وضجيج، إنها باريس في لحظة معينة، باريس كما لم تكن من قبل، وكما لن تكون فيما بعد أبداً، ومن هذا المنطلق "التاريخاني" في قراءة تطور الكتابة الروائية، نستطيع أن نصل إلى نظرية تفسّر تطوّر الرواية المحلية في الإمارات، فإمارات أوائل التسعينات وأواخر الثمانينات لا تشبه إمارات الألفية الثالثة بأي شكل من الأشكال، وإمارات راشد عبد الله في رواية ثمانينات القرن الماضي "شاهندة" لا تشبه إمارات علي أبو الريش في روايته الأخيرة "ك، ص: ثلاثية الحب والماء والتراب"، لأنها الإمارات في لحظة تاريخية خالصة، خارج ما رسمته لها الكتابة الروائية والنظرة الفنية لروائيي الإمارات أنفسهم.
يطرح ميلان كونديرا عبر قوله السابق، نظريته في الوعي الأدبي والروائي تحديداً، بالمكان والزمان كمتحولين في وعي الاستمرارية، وهي بمعناها الأول القناعة المطلقة بحتمية التحوّل، وليقنعنا بهذه الحتمية فهو يستعير من التجارب الروائية العالمية أسباب مصداقية هذا الطرح، كي نعود لنطرحه في قراءتنا في الوعي نفسه في الرواية الإماراتية المعاصرة، من خلال هذه النماذج الروائية الرائدة في المنجز الإبداعي المحلي في الإمارات، وهي "شاهندة" لراشد عبد الله، كنموذج أول للرواية في الإمارات، ثمّ "ثنائية الروح والحبر التمثال"، و"زينة الملكة"، و" ك، ص: ثلاثية الحب والماء والتراب" لعلي أبو الريش، لنستطيع القول بالمكان، كما رآه ميلان كونديرا متحولاً وواعياً للاستمرارية في الكتابة، في علاقة البطل أو مجموعة الأبطال، في الروايات تلك، بالمكان كقرية، أو كصحراء، أو كبحر، أو كمتخيل مكاني ينتمي إلى اللا مكان، وتلك علاقة أخرى يفرضها الكاتب كإحالة مرجعية خارجية على نصّه، ويبقى المكان واحداً في النص والواقع، ليبقى منتمياً بشخوصه وبيئاته وتشكلاته اللغوية بأبعادها الدلالية، إلى الحيز الذي يتيح للكاتب أن يقول بتاريخية ما، ولا يستطيع الخروج عنها.
فبحسب كونديرا، لا يمكن أن يكون أبولينير قد كتب "الكحول" بعد كتابه "جماليات الكتابة"، كما لا يمكن لعلي أبو الريش أن يكون قد كتب "ثنائية الروح والحبر التمثال"، إلا بعد "شاهندة" لراشد عبد الله، وقبل " ك، ص: ثلاثية الحب والماء والتراب" لعلي أبو الريش نفسه، وبحسب كونديرا أيضاً، لا يمكن لنا إلا أن نقرأ الأدب الروائي إلا بما يسميه هو "التاريخ والقيمة"، إذ تكمن قيمة الأدب في تاريخيته وتاريخه لا في قيمته الأدبية نفسها.
فالأدب الروائي لا يستطيع أن يستعيد الصورة في اللغة، والدلالة في المفردة، كما يفعل الشعر، وهو بذلك ذو حركة صاعدة تشبه إلى حدٍّ بعيد، البلّور الثلجي المتجمد في آفاق القطبين وأعالي القمم، أو الصخري المتحجر في أعماق الكهوف المائية، أمّا الشعر فهو التناسق الدائري الأشبه بحلقات جذع الشجرة التي تُعرف أعمار الأشجار بها، وهذا يحيلنا حتماً إلى قراءات شتى لتاريخ الأدب، تجتمع على اعتبار صحة وصواب الفرضية القائلة بأنّ القيمة الجمالية بلا معنى خارج تطورها الفني التاريخي الطبيعي، فكأن الأدب بعامة، والكتابة الروائية على وجه الخصوص، متحف تاريخي مفتوح، تشكّل المفردات فيه الدلالات الزمنية لعمره، والدلالات القيميّة لمضمونه.
أمّا الكتابة المحلية في الرواية، فتشبه إلى حدٍّ بعيد هذا الاتجاه في القول النقدي الجمالي، الذي لا يعتقد أحدٌ في سياقه المنهجي أنّ قيمة ما يكتبه الروائي كفنٍ تكمن، من وجهة نظر سوسيولوجية، خارجَ تناسقه مع الذوق الخاص لجماعة أو أقلّه، لفردٍ ما، من خلال علاقة بطلة رواية "شاهندة" لراشد عبد الله بمكانين هما قريتها "الحيرة" والمدينة التي صارت فيها ملكة، وليس الكاتب بالطبع، في تاريخ ملابسها، وأعرافها في المأتم والزفاف، وهواياتها الرياضية أو أعيادها، كما تكمن في مدى اقتراب هذا الفن الروائي الخاص، من مجموع الأذواق الخاصة لمجتمع ما، يقول جان ميكاروفسكي، مؤسس علم الجمال البنيوي في إحدى مقالاته المنشورة في براغ عام 1932:" وحدها فرضية القيمة الجمالية الموضوعية تعطي معنى للتطور التاريخي للفن"، بما معناه، وكما يرى كونديرا، أنّه حين لا توجد القيمة التاريخية، لا يكون تاريخ الفن إلا مستودعاً واسعاً للأعمال الفنية التي ليس لتسلسلها التاريخي أي معنى، وبالعكس، يمكن في سياق التطور التاريخي لفنٍّ فقط، إدراك قيمته الجمالية.
وهذا ينطبق على كتابة راشد عبد الله الروائية في رائعته "شاهندة"، في ما يمكن تسميته نقدياً بتحولات الرمل، انطلاقاً من السياق التاريخي لتطور المكان الذي يعترف به راشد عبد الله نفسه في تقديمه لروايته بقوله:"قصتي هذه تنبع من واقع عشناه، عشناه بين حبات الرمل المحترق، في حياة جافة قاسية..."، كأننا نمسك بمفتاح الدخول إلى عالم راشد عبد الله الروائي من بابه الواقعي وعالمه الذي فرض عليه ضرورة الكتابة بأن قدّم له أسبابها لتنكتب على يديه وبقلمه، ولا يقررها، في التشابه إلى حدّ التطابق مع ما انطبق قبلاً على كتابة الرواية عند سرفانتس في رائعته "دون كيخوته" التي كانت كتابة سببية تاريخية، تشكّلت بقيمتها الأدبية الجمالية في إطار تعاقبية مفترضة زمنياً ومكانياً، فسرفانتس بحسب كونديرا، لم يكن يهتم بأن يكون روائياً أو لا يكون، بل كان يفكر بكتابة خاتمة ساخرة في الأدب الفنتازي للمرحلة السابقة، ولم يكن يعتبر نفسه مؤسساً، وفقط لاحقاً وبالتدريج، كما يقول كونديرا، نسبتْ إليه ممارسةُ الكتابة الروائية هذا القانون، ونسبته إليه ليس لأنه كان أول من كتب الرواية، أو كان أفضل أول الكاتبين لها، بل لأنه انتمى إلى تاريخية المكان والزمان الذي مثّل بالنسبة لخلفائه من الروائيين القيم الروائية الأولى.
بمعنى آخر، نستطيع أن نفهم أهمية تاريخية الرواية كمنجز إبداعي من خلال تعاقبها على مرحلية أن تتبدى كتاريخ، لتشكّل في التطور الإنساني قيمة جمالية خاصة.
وسرفانتس الذي كتب شخصية بطله "ألونزو كيخادا" المسكين، الذي أراد التحول بنفسه إلى الشخصية الأسطورية لفارس متجوّل، ففعل العكس، عبر وقوعه في النثرية والواقعية واليومية والمادية للحياة، في تحولات الرجل المسكين، الباحث عن حلمه ليرتطم خياله بطواحين هواء وقطاع طرق، في إسبانيا يومها، ما يفرض قيمة تاريخية على النص الذي فقد قيمته الجمالية الخاصة خارج دلالاته التاريخية على المتغير الزمني في وعي استمراريته.
سرفانتس هو نفسه راشد عبد الله الذي كتب شخصية بطله "سالم" الذي يسرق من المقابر أكفان الموتى ليستبدلها بأي نوع من أنواع الأغذية، ويبحث في مياه الخليج عن صيد أي شيء في بطولة تحديه ثورة المياه، وبطولة استلهامه من قسوتها طريقة جديدة للبحث عن كسرة خبز، البطولة التي يحتاجها بطل الرواية الجائع في زمن بؤس قريته وشدة فقر أهلها نتيجة انقطاع الغذاء عنهم لأنّ الحرب منعته بعدما كان يأتيهم من وراء الخليج عبر التجارة مع الهند.
وراشد عبد الله يستعيد الحراك الاجتماعي نفسه الذي تولى سرفانتس تجسيده في شكله الروائي، في علاقات الإقطاع والعبودية، فدون كيخوته احتاج إلى خادم يحمل له أغراضه، وأسلحته، فاتخذ من سانشو خادماً أميناً، وعاش على اعتبار أنه قد تقمص شخصية النبيل، بعدما كرّسه صاحب الفندق، وها هو "حسين" أحد أبطال رواية "شاهندة" يتخذ من عائلة "شهداد" بكاملها خدماً، ويتخذ من شهداد نفسه تميمة حظ وفأل سعد، تقول له زوجته:"نعم يا حسين، لقد كانت هذه الأسرة فألاً حسناً علينا، لم نخسر في تجارة، لم يواجهكَ السمك، لم تغرق الأمواج قاربك، فماذا تريد أكثر من هذا؟".
وهو نفسه علي أبو الريش في روايته "ثنائية الروح والحجر التمثال"، عبر شخصية بطله أبو ناصر الذي يصفه علي أبو الريش بقوله:"الحرارة الخالدة، لا يقاومها إلا مخلوق أسطوري، القافلة تهيم في العراء الملتهب، التهب فؤاد أبي ناصر، احتسى الوميض رقراقاً، دفاقاً، تدفق في بون الصحراء، بلبل أتونها، تحركت في احتفال بهيج، زهت، ولمعت، وأشاعت الخبر اليقين ، أدرك أبو ناصر، أن القافلة، التي تبث في روحه الحياة، صارت قطيعاً، لمع في الصحراء"، أو شخصية بطله في الرواية نفسها، الفتى
وفي مكان آخر من رواية "ثنائية الروح والحجر التمثال"، في وصف لقاء أبي ناصر بالراعي، في مباغتته أبا ناصر عن سر وجوده في العراء، وقد خلا وفاضه من حاجة يعتمد عليها، أو وسيلة يستعين بها، قال الراعي، في لهجة مباشرة استحدث من سحنة الصحراء مذاقها:"من أي بلد جئتَ أيها الغريب؟"، ما يسمح لنا بأن نكتشف هذا الافتراض التاريخي لقيم الرواية انطلاقاً من زمانها المتحوّل، فلماذا الراعي هو الشخصية المكملة هنا، كما هو الشخصية الضد في رواية سرفانتس، ولماذا القطيع هو القطيع؟، إنه السؤال الذي لا نستطيع الإجابة عنه إلا في السياق الدلالي لتاريخية الرواية كفن وأدب، خارج القيمة الجمالية للشكل الأدبي أو لمضمونه.
وها هو علي أبو الريش في روايته "ثنائية الروح والحجر التمثال" يتناص بما لا يقبل الشك، وبقصد لا واعٍ، وضمن ما نسميه وعي الاستمرارية في التحول، مع سرفانتس الذي يسرق فكرة السراب من ذاكرة الرمل العربية، فبطل علي أبو الريش، أبو ناصر، لا يشارك الراعي شجاعته، بل يشارك القنفذ هروبه، "شاطر القنفذ في الهروب، شاطره في الجبن، أحسّ أنه قزم، ضئيل، أمام الراعي، انحسر البحر أمام تمدد الصحراء، انكمش فتألقت ... تابع أبو ناصر الرحلة بانكسار وتعب"، كأن علي أبو الريش يحكي عن بطل سرفانتس الجبان، "ألونزو كيخادا" المسكين، الذي يتخيّل قطعان الماشية جيوش الأعداء، فيهاجمها لكنها تنتصر عليه، وتغلبه طواحين الهواء، أو كأنّ "أبو ناصر" بطل علي أبو الريش يكمل رحلة "دون كي خوته" بطل سرفانتس، في وعي استمرارها تاريخياً، وفي بيئتها الطبيعية في الصحراء العربية، لا بيئتها المصطنعة في براري وسهول إسبانيا الخضراء، ولا سراب في الخضرة والماء.
تحولات الرمل إذاً، في تاريخيتها المتسلسلة، هي وعي استمرار لفعل ذاكرة وعيش سابق، فراشد عبد الله ينقل حالة عيش سكان ساحل الخليج العربي بتفاصيلها التاريخية التي انتمت إلى الزمن "الحاضر يومها"، كأنه الراوي الذي يحرّك بعوده رمل ذاكرة المكان، يحرّك ذاكرة الرمل، وينقل تحولاته الفنية التي ما إن تفقد علاقتها بالحاضر كما هو "الآن"، حتى تتحول إلى صورة متخيلة وشبحية لأن "السرد هو الذكرى" برأي كونديرا، وإن تميّز راشد عبد الله بنبوءة المدينة الحلم التي تمثلت في مدينةٍ استقبلت بطلته "شاهندة" ونصّبتها ملكة عليها، بما يشبه رؤيا قيامة مدن الازدهار العمراني والاقتصادي والرفاهية الاجتماعية التي تنشأ اليوم بين الرمل في عدم الصحراء لتحيله جنةً خضراء على الأرض، ومكاناً خصباً لروايةٍ أكثر فنيةً وإبداعاً.
ولأن هذا السرد للحاضر "الماضي" ليصير "أمس"، يتعلق بشكل أو بآخر بموت شخصيات الرواية، فهو عملية تحطيم لكل قيم المجتمع ومكنوناته الداخلية في علاقات أفراده في ما بينهم، وهو عملية كسر للسائد الاجتماعي في تحولات الشخص من حال إلى حال، يراوح بين إيجابية وسلبية في الحضور، وبروز وانمحاء، وصعود وعلو، وهبوط وانحدار وتحطّم، كما فعل راشد عبد الله ببطلته "شاهندة"، وكما فعل علي أبو الريش ببطله "أبو ناصر" في التماهي مع ما فعله سرفانتس ببطله "دون كي خوته" الذي ظل يحتضر لثلاثة أيام، نقرأ في رواية دون كيخوته "كان يحتضر، ولكن ذلك لم يمنع ابنة أخيه عن الطعام، والمربية عن الشراب، وسانشو عن أن يكون منشرح المزاج"، أو ما فعله تولستوي ببطلة قصته "آنا كارنينا" التي رمت بنفسها أمام عجلات القطار، يقول ليو تولستوي في سرده حادثة موت "آنا كارنينا": "استولى عليها شعور شبيه بذاك الذي كانت تحسه قديماً عندما كانت أثناء استحمامها تتأهب للغطس في الماء، أدخلت رأسها بين كتفيها، ويداها ممدودتان إلى الأمام، سقطت تحت العربة".
فعلي أبو الريش في روايته "ثنائية الروح والحجر التمثال"، يقول في حالة الإحباط التي تصيب أبا ناصر:"فكر أن يدخل الماء، تأهب، رفع جلبابه، وربطه حول وسطه، لكنه تقهقر ... سار على الرمل يحسد انكساراته"، كأنه يكتب على بطله الموت في التخلي عن حالة المكابرة الذكورية التي اتسمت بها علاقته بالزوجة "أم ناصر" بعكس الصورة التي يرسمها راشد عبد الله لبطل روايته "شاهندة" جابر زوج شاهندة نفسها، إذ يقول على لسانه لزوجته "شاهندة":"شاهندة، يبدو أنك لا تعرفينني جيداً، لقد شاهدتُ دموع كثيراتٍ غيركِ، وسمعت هذه الصحراء الواسعة توسلاتهنّ، ولكن الأمر كان ينتهي بكل واحدة جاءت في هذه القافلة إلى ما أريد، واشتهي، وأنا أشتهيكِ" ثمّ بعد هذا الحوار تنكشف لشاهندة حقيقة أنّ جابر هذا قد خان عهد إخلاصه لها مع الفتاة الشقراء التي أحضرها معه من رحلته في الصحراء، ما بين ساحل البلاد وداخلها باحثاً عن العبيد، وكأن علي أبو الريش وراشد عبد الله يشيران، كلٌّ من جانبه الخاص به، إلى التحولات المجتمعية الكبرى التي حصلت في مجتمع الإمارات بشكل أو بآخر، لتلتقي الرؤية الروائية مع الواقع الحقيقي في ما أنضجته التجربة الكتابية من وعي الاستمرارية التاريخية في الرواية المحلية في الإمارات، التي تمثل عبارة راشد عبد الله في روايته"شعرت شاهندة بالأسف الشديد على شهور الإخلاص التي مرت عليها، وتصوّرت حديث الصحراء، ولاحظت اهتمام جابر بها (بالفتاة الشقراء)" العبارة المركزية واللغة المفتاح لما يدل على تحولات الرمل في حديث الصحراء نفسه، وتحولات أبطال الرواية المحلية في الإمارات من مجرد شخصيات بسيطة إلى شخصيات معقدة، تعقيد الحياة نفسها في التحول إلى السريع والمفاجئ في السرد، كما في تحولات شهدتها حياة بطلة رواية "شاهندة" العبدة الحسناء، من حياتها مع أهلها في بيت التاجر حسين، مروراً بتحرير العبد "شهداد" والد شاهندة، وتنصيبه رباناً "نوخذة" لسفينة الغوص، ثم اختيار شاهندة لابن النخاس محمود ابن سالم حبيباً لها تبادلته مشاعر الحب، فيقابلها بالفضيحة والخطيئة ورفضه الزواج بها، ثم زواجها بجابر الذي اشتراها من عمها ، التاجر الذي امتلكها وعائلتها عبيداً له، قبل أن يعتقهم، العم "حسين" الذي باعها من جديد كعبدة، بعد موت أبيها غرقاً في البحر، وصولاً إلى تحوّلها بغياً يبيع خدماتها للآخرين، عبد الله، صديق زوجها المؤتمن عليها في سفر جابر الطويل، ثمّ تركها مع الرجل العجوز في الصحراء في أيامه الأخيرة.
وينطبق هذا التوصيف النقدي لتحولات الرمل على الرواية كونها الرواية الأقدر على تمثل انتقال المرء في شخصية بطلتها "شاهندة" من حياة القحط والجوع، في القرية وبيئة الصحراء الأولى، إلى حياة القصور والجاه في المدينة والتحول الذي شهدته حياة شاهندة وانتقالها من عبدة ثم بغي ثم شاردةٍ في الصحراء تكاد تموت عطشاً، إلى ملكة وصاحبة رأي وشأن عظيمين، حين يتحول الحبيب محمود ابن النخاس، الذي فضحها في القرية ولم يقترن بها بعد انتهاكه حرماتها، عبداً يركع أمامها، وينتظر انتقامها منه لما فات من السنين الأربعين التي قضتها تجتر ذنبها الذي ارتكبته باسم حبها له.
أمّا علي أبو الريش فإنه يقف على مقلب آخر من موضوع التناول التاريخي لمسألة البيئة المفترضة للرواية، فهو ينتقل بأبطاله من المكان البحر إلى المكان الصحراء، في تأكيد لمرجعياته الفلسفية التي يقيمها لنصه الروائي، فكأنه في روايته "ثنائية الروح والحجر التمثال" يسير في اتجاه معاكس لسير حيوات أبطال رواية "شاهندة" لراشد عبد الله، فأبو الريش يشير إلى الصحراء كممر نحو الجبل، حلم الثبات المستحيل في تحولات الرمل، بينما يتجه راشد عبد الله ببطلته إلى السهل، المدينة كي يحقق لها لا الثبات بعد التحولات التي مرت بها، في الرمل والظمأ والجوع والعذاب، بل الانتقام ممن تسبب لها بكل هذا، وإن اتفق الاثنان، راشد عبد الله وعلي أبو الريش، على الشكل الأخير والخاتمة لمسيرة هذا التحول الأسطوري.
علي أبو الريش، بادئاً الألفية الثالثة بروايته "ثنائية الروح والحجر التمثال"، يبدأ شكلاً جديداً لتحولات الرمل في الرواية المحلية في الإمارات، فالبحر في مطلع الرواية قاتل أحلام "أبي ناصر" بطل الرواية، والموجة العالية قصمت ظهر القارب، وأبادت شحم أمنيات أبي ناصر بربح قليل في زحمة البر بالقوارب ذات المجاذيف العملاقة، في ساحة الصيد التي لم تحمل له وعداً بالرزق بل حرمته إياه كله، والصحراء هي الخلاص، في علاقة يومية بها يعيشها أبطال الرواية بها، وبخاصة سلامة التي تجد فيها الطفل الذي انتظرته طويلاً، ولم يكن أبو ناصر سبباً فيه، لكنها وجدته قرب البئر فكان سبب اشتعال وميض الأمومة في صدرها، ورغم استحضار علي أبو الريش للنبرة الذكورية العالية نفسها التي وردت في رواية "شاهندة" لراشد عبد الله في خطاب جابر وشاهندة، والتي تبدت في خطاب أبي ناصر القائل لزوجته عن الطفل الذي وجدته قرب البئر:" ألم أقلْ لكِ، إنه مسكون، بل إنّ جيشاً من الجن يقطن جوفه، فهذا الصوت النافر لم أسمع شبيهه في حياتي، إنني أكره هذا النوع من المخلوقات، فأبعديه عن وجهي، أو انصرفي به إلى حيث تشائين"، إلا أنّه يخصص أكثر من نصف الرواية لبطولة الفتى نفسه، في استعادة الشكل البدئي للرواية في الأعمال الشكسبيرية التي أعلنت موت الأب في نظرية عقدة أوديب، فالفتى يتسبب بضياع الأب، أبي ناصر، في الصحراء، ليكون سبباً في ارتباط الرواية ببيئة الصحراء وتحولات الرمل مرّتين، وعبر جيلين من الأبطال في الرواية.
ويبدو علي أبو الريش أقدر على تلمّس الرؤية الواضحة لملامح تحولات المكان الرمل في تاريخية الحدث الروائي، في مسيرة يرسمها ما بين مدينتين، حقيقيّتين هذه المرة، يسميهما باسميهما، المسيرة ما بين مدينتي "دبي" و"رأس الخيمة"، لبطلة روايته "زينة الملكة" زينة، التي يصف مسيرتها من دبي إلى رأس الخيمة بقوله على لسان الرواي لا المحايد بل المشارك في الحدث نفسه:" شيعت زينة نظرة إلى الظلام، تنهدت، فالرحلة التي قادتها إلى "دبي" المدينة المسكوبة على الأرض، رمت نثار بطشها في صدر المرأة (زينة)، صار بإمكان زينة أن تقول إنها أنجبت طفلاً مشوّهاً اسمه الصدمة، وهذه الإمارة التي تعشقها أشبه بكائن بغيض تحبه ولا يحبك، كلما دنفت به حباً، تهاون في الجفاء والعصيان".
الصدمة إذاً هي نتاج تحولات الرمل هذه، ، كأنّ قتل النوخذة، وهو الخصم الطبيعي والتاريخي لشخصيات علي أبو الريش المحورية في الرواية، هو قتل الرمل في شكله الأول، وغوصه عميقاً في عروق الأرض وصولاً إلى شاطئ البحر/ الخليج، وكأن مسيرة زينة في رواية "زينة الملكة" لعلي أبو الريش، من "دبي" إلى "رأس الخيمة" تسير في الاتجاه المعاكس لمسيرة "شاهندة" في رواية "شاهندة لراشد عبد الله، لتصير دبي التحول الأخير لمدن الرمل، والقمة التي يطمح إلى كشفها وتذليل جبروتها أبطال الرواية المحلية في الإمارات، كما يرسمهم علي أبو الريش في أكثر من موقع في مساحة سرده وروايته، يقول في رواية "ثنائية الروح والحجر التمثال" ما بين الجبل والصحراء عناق قديم، وشجون، أقدم من الدهر، ما بين مارد الجبل وناموس الصحراء، عقيدة الاحتواء وربقة الاكتواء، في البداية، تردد الفتى، هل يخوض غمار العراء المتمدد كاللهيب، أم يعود أدراجه إلى الوراء، إلى حيث المخبأ السريّ، ويتقوقع هناك، ويختفي إلى الأبد"، كأن علي أبو الريش يُبقي بطل روايته في تحولات الرمل كي يغرق فيهان أو ينطلق ببطء إلى ما هو ثبات كنتيجة لهذا التحول، فالصحراء كما يصفها في روايته نفسها، هي الخواء ولكنها الأمل معاً، يقول:"وصرخ (الفتى) حتى رنت الصحراء، وأصدر الخواء صداه المفجع، تصدّع قلبه واحتدّ، واستعاد الحنين إرثه القديم، حين قفز الأرقط، ومنح مؤخرته للعراء، التهب فؤاد الفتى، واشتدّ السعير، وحرّك موقد القلب جمراته الحارقة، احترق، تصهّد، لكنه لم يفقد الأمل".
والصدمة هي التي تدفع بكاتب روائي من الإمارات، كعلي أبو الريش، إلى استنتاج التحول الأخير للرمل في علاقته بمسمى روايته الأخيرة "ك، ص: ثلاثية الحب والماء والتراب"، وهو على لسان راويه في وصفه الحالة النفسية لبطل هذه الرواية "أبو متراس" يقول:" يريد أبو متراس أن يصل إلى القمة بسرعة فائقة، صحيح أنه امتلك الشغاف لكنّ ذلك كلّه لا يكفي، يريد أن يُذيب الأشياء بين يديه، يريد أن يحرق الرمل، وان يحوّل الماء إلى سائل شفاف، ويستنسخ من الشجر نبات الصحة وعافية الفلسفة".
أما الأمل في الرواية التي ترسم تحولات الرمل في البيئة المحلية في الإمارات، فيتمثل بالجبل الألفة عند علي أبو الريش في رواية "ك، ص: ثلاثية الحب والماء والتراب" التي يصوّر فيها بطلته "شامة" كفتاة عانس تلامس صلابة الجبل فيأتي الخصب الروحي وتثمر الشجرة المهجورة والمغدورة، ويصبح الوعل الابن غير الشرعي ابن أمّه، نبتة التيه التي سارت حولها عينا الفتاة الباحثة عن الحقيقة المطلقة، نابذةً قيم الآخر الموبوءة بداء الصنمية، كما يتمثل الأمل في التمثال برمزية الثبات ضد التحول، والشموخ ضد الهبوط والخلاء والهامشية، والكهف والمغارة برمزية الرطوبة واجتماع عناصر الماء والتراب في ما يشبه الصلصال الحي لا الرمل الميت، ورمزية الماء في زمن الحب للتطهر من الرذيلة، ولو مع الحيوانات والمخلوقات البرية، فها الكلب فهد عند حافة الأفق ينتظر عودة زينة، في رواية "زينة الملكة" لعلي أبو الريش، وها هي الحيوانات "تستقبلها بنظرات العتاب ومواء ونباح الزعل، هذه الحيوانات لم تعتد على غيابها، ولا تذكر زينة أنها غابت عنها لمدة أكثر من سويعات"، ليصير غياب زينة عن مملكتها البرية، غياباً يشبه غياب "شاهندة" في رحلة العذاب قبل وصولها إلى القمة الحلم، مدينة القصور التي نصبتها ملكةً، أو يشبه غياب أبي ناصر في "ثنائية الروح والحجر التمثال"، أو الغياب في رواية " ك، ص: ثلاثية الحب والماء والتراب " لبطلتها "شامة" التي يرسم لها علي أبو الريش نسقاً يسير بالفتاة البحرية إلى حيث تقطن الجبل، وتشهق صخوره، وتزأر متحديةً صخور السفوح المتآكلة تحت أقدام مدّعي الحكمة والشهامة، وغياب البطل المنبوذ "أبو متراس" في سيره نحو ملاذه في العراء بحثاً عن المجد وتحقق الحلم في تحولات الرمل وحتمية الثبات التاريخي الأخير، ولا غياب في مسار التحولات الروائي إلا بغرض الوصول، كما الجبل في الرواية نفسها، يقول علي أبو الريش بلسان الراوي:"اقتنع الفتى بأنّ القمة الساحقة، تجلس على عرش بهيج، مكتنزة بحكمة الجبل، ووقار الجلاميد الحجرية، الخالدة، هالة السحر المجيد ... مدهوشاً، مذهولاً، إزاء الملكوت الجليل، قال (الفتى):"هذا الشموخ لا يليق إلا بسلطان الجبال، وجلالها، وليس للصحراء سوى الفجور، وفساد الخليقة".
وها هو الفتى في رواية علي أبو الريش، يحاول ملكاً كما حاول كثيرون غيره من أبناء الرمل، أبناء الصحراء في جاهليتها وقبل ذلك بكثير، وفي ذاكرتها المتحولة نحو الحجر، نحو البناء الطيني والإسمنتي في معجزتها الحاضرة، التاريخية التي تعي استمراريتها، وتمضي حثيثاً نحو اكتمال البناء، فالفتى في الرواية يبني مملكةً كما تبني الصحراء مملكتها في حاضر الإمارات اليوم، فتكتب الرواية سردية هذا المشهد المبدع في تحولات الرمل نحو الثبات، يقول على لسان الراوي:"وضع الفتى أسس مملكته، ونمت الأحجار، حجراً حجراً، على قمة الجبل، مدّت الأحجار المترادفة روحه بالانتشاء، تسامى، وانتفخت أوداجه، تورّم صدره بلواعج الزهو والافتخار، نظر إلى الحضيض السفلي مشمئزاً، متقززاً، فحاور العراء في تعالٍ".

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

افتتاح المؤتمر الدولي الثاني عن الآثار في الإمارات‏

03-آذار-2009

لا يشبهنا في الموت أحد

09-كانون الثاني-2009

الذاكرة تحفر في متخيّل شعراء الحداثة في دول الخليج

09-تموز-2008

لغتي ابتداءُ الكون

07-حزيران-2008

تحولات الرّمل: وعي الاستمرارية في التجربة الروائية في الإمارات

02-آذار-2008

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow