Alef Logo
ضفـاف
              

نصوص المرأة في غزة / الجسد يتكلم

د. خضر محجز

خاص ألف

2015-05-25

إضاءة:

قرئت هذه المادة في احتفالية فلسطين للأدب (بالفست) التي انعقد يومها الأول في فندق آدم بغزة بتاريخ 23 مايو من العام 2015


تمهيد: في مفهوم الكتابة النسوية:


الكتابة النسوية (feminism writing) بوح بلغة الأحاسيس الأنثوية. لهذا يطلق عليه البعض مصطلح: كتابة الجسد (writing the body).

يعود تاريخ مصطلح كتابة الجسد إلى العام 1974، الذي شهد نشر كتاب جوليا كريستيڤا المعنون بـ(ثورة اللغة في الشعر)، وأطلقت فيه مصطلحها هذا، لتشير به إلى نوع من الكتابة النسوية المنطلقة من الجسد، إذ يتحول الإبداع إلى فعل، لا مجرد كتابة: فعل يتصف بما في الأفعال من توتر وحركة ونمو؛ حيث لا تكفي اللغة الخارجية لوصف سيرورة هذا الفعل، بل اللغة الشاردة المتمردة المتوترة، "التي تتحكم فيها الأصوات والإيقاع، لا المعنى والدلالة". إنها لغة مشحونة بأحاسيس خاصة بالأنثى(1).

يتحكم في كتابة الجسد مستويان: سيميولوجي ورمزي. فأما المستوى السيميولوجي: فهو ذلك المستوى التحتي من المعنى ــ وفقاً لمفهوم كريستيڤا ــ الذي تتحكم فيه الأصوات والإيقاعات، والانفعالات الخاصة بالمرأة (الغضب، الرفض، القهر، التناقض...). وأما المستوى الرمزي: فهو المستوى الحامل للخطاب، ذي المعنى المراعي لمنطق اللغة في التركيب والقواعد(2).

وعلى الرغم من أن معجم المستوى الثاني (الرمزي) في الكتابة النسوية، لا يختلف في جوهره عن المعجم الذكوري، إلا أن اجتماع المستويين ــ السيميولوجي الانفعالي والرمزي القواعدي ــ في لغة الإبداع النسوي، سوف يؤدي إلى تفاعل من نوع خاص، ناتج عن انعكاس كل منهما على الآخر، الأمر الذي يؤدي إلى تكثف الدوافع الداخلية الأنثوية، وانطلاقها في سَورة كتابة مختلفة عن الكتابة الذكورية. وكأن جسد الأنثى ــ كما تراه الأنثى ــ هو الذي يقوم بفعل الكتابة عن نفسه، لا كما كان الحال في الماضي عندما كان الرجل يكتب عن جسد المرأة، كما يراه هو من الخارج(3).

لدينا هنا ثلاثة نصوص نسوية، قصيدتان وقصة. القصيدتان واحدة لسمية السوسي، والثانية لسميرة أحمد. أما القصة لكوثر أبو هاني.

نبدأ بالقصيدتين:

تنتمي القصيدتان إلى جنس قصيدة النثر. وقصيدة النثر في غزة تواجه واقعاً مفارقاً: فهي مدينة لنوعها من جهة، ومدينة لواقعها من الجهة الأخرى. وإن هذا الدَّين لفادحٌ ومقلق في آن. لذا يمكن لنا القول بأن هذا الانتماء المضاعف سوف يتسبب في حدوث أزمة مضاعفة، أزمة تثير أنواعاً عديدة من الانكسارات الوجدانية والعقلية في أجساد النصوص. وإن من مهمة هذا التحليل أن يضع يده على بعض مكامن هذه الأزمة.


أولاً: قصيدة سمية السوسي: فَناء الرغبة(4):


تقول سوزان برنار عن قصيدة النثر:

"إنها خاصية قصيدة النثر ــ هذا النوع المنشطر ــ في أن تذهب في اتجاهين متناقضين، يترجح بينهما الشعراء والنقاد: ميل إلى الانتظام، إلى الكمال الشكلي. وميل إلى الحرية، والتشوش الفوضوي أيضاً"(5).

إنها تبحث عن شكلها، وكلما وجدته رفضته؛ باعتباره قيداً جديداً. وتبحث عن الحرية في القول، وكلما وجدتها اكتشفت أنها نظام، يتعارض مع طبيعتها المتمردة على الأنظمة. الشكل في قصيدة النثر هو اللاشكل، والحرية في قصيدة النثر تقترب من حدود الفوضى. هذه هي طبيعتها، بل هذه هي ميتافيزيقاها الخاصة.

عند تأملنا في عنوان نص سمية (فناء الرغبة) سوف يتبادر إلى أذهاننا ما هو معروف، من أن الرغبة هي ثورة الأحاسيس. فماذا إن ذوت الرغبة؟. تذوي الأحاسيس بما أنها موطن الإدراك الجمالي، وتذوي معها كل قدرة على تذوق الحياة!. فالحياة غير المدركة بالأحاسيس، لا تستحق أن تكون حياة. هذا على الأقل ما يمكن لنا رؤيته في سطور القصيدة:

"تذوي الرغبة، تنزوي، دائما ترتد إلى الخلف

لا بذرة تنثرها الحقيقة في وجوهنا

لا بقاء للأجمل، لا نهر ولا صبية

ينمحي اللون في لوحة التيه

بكارةُ العشق أنّةٌ دائمةٌ تتردد في المكان

لِمَ نُفرغُ العبارات من موسيقاها الصاخبة؟

فضاء باتساع الوقت، موجة ولا تلمس شاطئاً

خدر يشاطر اليد انكساراتها

خوف يجاور الفكرة، الفكرة صامتة، الصمت فكرة أيضاً

كل ما يحدث على الزاوية المقابلة محض لغو".

تذوي الرغبة وكان عليها أن تشتعل. تنزوي الرغبة مرتدة إلى الخلف، فتفقد أوليتها لصالح اللابقاء، الذي يتقدم لينال الحظوة. هنا تعاد صياغة القوانين تمهيداً لنفيها. هذه الصياغة الجديدة، وهذا النفي، مهمتهما إثارة الدهشة.

الصياغة القديمة لقانون الطبيعة كانت: (البقاء للأصلح). أما الصياغة الجديدة فهي: (البقاء للأجمل). ولأنه معروف لدينا بأن الصلاح في قانون الطبيعة هو القوة، فسوف يبدو كم هو فادح ثمن هذا القانون، إذ يمنح القوة حق البقاء، فيما يحجبه عن الجمال!. ومن هنا يبدو طبيعياً أنين الشاعرة: (لا بقاء للأجمل).

إن هذا الخطاب الشعري، المضاد لخطاب الطبيعة، محمل بالاستنكار. يقول الشعر: إن الأصلح ــ حقاً ــ هو الأجمل، لولا سطوة الواقع وقهر القوة. وإذ لم يعد الأجمل قادراً على البقاء؛ فلن نرى نهراً ولا صبية، وستفقد الألوان وجودها، وستتحول بكارة العشق إلى أنّةٍ مقموعة غائبة، لا يدل عليها سوى الصدى: (فضاء باتساع الوقت)!.

تبحث القصيدة عن حرية الرغبة (تذوي الرغبة، تنزوي، دائما ترتد إلى الخلف)، لكن هذه الحرية تشكل ــ في نظر النسوية ــ وسيلة قمع أخرى، يستغلها الرجل للسيطرة. من هنا تعود القصيدة للانقضاض على هذا الخيار السابق، بعد إذ اكتشفت أنه قرين عبوديتها الجديدة القديمة.

المرأة ــ في هذه الكتابة النسوية ــ يسكنها هاجس استغلال الرجل لأوليته الرغبوية، في سبيل فرض ديمومة قهر الأنثى. إن النص الغائب، المستدعىٰ لاشعوريا هنا، هو ظاهر الآيات القرآنية، المعطية للرجل حق الهجر في المضجع والضرب، لتطويع نصفه الجميل. والقانون السائد هنا: البقاء للأقوى!.

هكذا يعترف أنا الخطاب ــ مكرهاً ــ بواقع المرأة اليومي، وعلاقتها بالرجل، في هذا المكان المعزول من العالم. وإن لم تصدق فتأمل ما تقوله سمية بعد ذلك مباشرة:

"لِمَ

نُفرغ العبارات من موسيقاها الصاخبة؟".

أليس كل ما يفهمه الرجل، من الآيات المشار إليها، واضحاً وضوح صخب الموسيقى، فلم نفرغ الدوال الكلامية من مدلولاتها السائدة؟.

إن عنوان النص دال وذو محمولات أيديولوجية، كما هو الشأن في النص ذاته. يريد كلاهما أن يقول: إن تراجع الجمال هو في الحقيقة فناء للحياة. لا جرم، فقد علمنا أن هذا هو قانون الفن، الذي ظل دوماً مصادماً بشكل مؤسٍ لقانون التاريخ!.

الملاحظة اللافتة التي تميز هذا التناول الشعري عند سمية، هي وهن العزيمة، وكلال الروح، بعد طول نضال لم يثمر إلا ما نراه هنا. وإن شئت أن تستوثق من صحة هذا الاستنتاج فواصل القراءة:

"كأنني أمسك تاج الغواية

أشق الحكاية من طرف مختلف

مجدولة بي

أيتها الرغبة

متنصلة منكِ تماماً

ابتسم

وداع يجرح كفي

أشد علىَّ وثاقي

وأتوغل".

ولا غرابة في ذلك، فسيف الشعر مصنوع من الورد لا من الحديد، خصوصاً إذا كان بيد امرأة، تحاول أن تبوح برغبتها، فيقف الخوف مانعاً بينها وبين مبتغاها: فكلما باحت تراجعت، وكلما صرخت أسرعت فكتمت صرختها، مختبئة في عتمة البلاغة!.

إن ما ينقص الشاعرةَ هو البوحُ، وإذ تعذر هذا الآمن، فما عليها سوى الاكتفاء بالتلميح، الذي سرعان ما يتراجع قبيل النهاية، تاركاً وراءه ما يشي بوجوده للتفسير، وما يلمع خافتاً كضوء يراعة صيفية، مستعدة للفرار طيراناً عند أول مواجهة من المجتمع، كما هو واضح فيما يلي:

"عرِفتُ أن ما ينقص اللوحة لم يكن لونا، لم يكن ظلا، لم يكن فراغاً

كان فقط رغبة الرسام في تجسيد فكرته".

هو ذا تراجع تكتيكي في إنكار الرغبة الجسدية: (أيتها الرغبة/ متنصلة منكِ تماماً/ ابتسم)؛ عن طريق تصويرها بأنها مجرد فكرة تجريدية لا تغضب السائد: (كان فقط رغبة الرسام في تجسيد فكرته)!.

أيها السادة، نحن هنا في مواجهة صراع الرغبة المحرمة مع الواقع السيد. فللسيد أن يقول، وللرغبة أن تفنى.

ها نحن أولاء نرى أين تكمن أزمة هذا النص، ومن أين يبدأ انهياره.


ثانياً: قصيدة سميرة أحمد: وحدي يرسو البدر على شواطئي(6):


يتميز هذا النص بنبرة أنثوية زاعقة، نبرة امرأة امتلكت ما تريد، وتحارب من أجل المحافظة على ملكيتها، بحس أنثى مقاتلة. وإذا كان نص سمية السوسي السابق منطلقاً من المرأة الجسد، فإن نص سميرة أحمد هذا هو نص المرأة السيدة.

يمكن لنا تصور واقعة يومية تسجلها قصيدة سميرة بالصورة الآتية:

"لكِ الفراغ تلتهمينه

وقصاصاتٌ تلونها خيباتُكِ المتتالية

انتهي من شد حكاياتك المسلسلة في بئرك الفارغة".

سبق أن قلنا: إن المستوى الأهم، الذي يتحكم في كتابة الأنثى، هو المستوى السيميولوجي، التحتي، الذي تتحكم فيه الأصوات والإيقاعات والانفعالات الخاصة بالمرأة. إذن فهذا مستوى تستبد به مناطق العمى ــ بالمعنى الذكوري ــ غير الخاضع للمنطق!. من هنا يمكن اكتشاف سبب تعلق كثير من ناقدات النسوية بالقراءة التفكيكية، باعتبارها تقدم رؤية جديدة غير خاضعة لما سبق وأن تم إقراره. ومن هنا كذلك يمكن الإقرار بأن قراءة سيميولوجية نسوية ــ بالمعنى الكريستيڤي ــ هي قراءة تفكيكية كذلك. وكلنا نعلم مدى تعلق كريستيڤا بتفكيكيتها الخاصة(7).

ومن هنا كذلك يمكن لنا اقتباس سيميولوجية شولز، في موطن التفكيك، لنقول معه:

"إن في كل نص مناطق عمى هي، إلى حد ما، حاسمة في تأويله. فالنص لا يستطيع أن يقول كل ما يعنيه، لأن الصمت في بعض النقاط الحاسمة، يمكن معاني النص من الظهور"(8).

إن منطقة العمى، في نص الأنثى سميرة أحمد، هي الفراغ المطلق بين خطاب العاشقة الواثقة، وخطاب ما بين السطور لذات العاشقة، المعاني من القلق وانعدام الطمأنينة. فما الذي يدعو امرأة إلى توجيه كل هذا اللوم لامرأة أخرى، إلا أن تكون منافستها على الرجل ذاته؟.

إن تأملاً يسيراً في خطاب العاشقة: (لك الفراغ تلتهمينه... ) يدلنا على أننا لم نعد نسمع هنا صوت امرأة مثقفة تدعي المساواة، وتعتبر الرجل أحد اهتماماتها المتعددة ــ كما يحلو لدعاة النسوية القول ــ بل نسمع ما يشبه أصوات الانفجارات: انفجارات الشتائم و(الردح) الأنثوي الذي أخرجته الغيرة النسوية عن طوره العقلاني.

دعونا نقل بصورة أكثر وضوحاً: إننا في هذا الخطاب نواجه بوحاً مفاجئاً، لا تزال المرأة المعاصرة تنكره: إنها تنكر أن اهتمامها منصب على الرجل، هو محور حياتها ومرآتها وزينتها، كما أنه سيد أحلامها المستحيلة بالامتلاك المطلق.

أين منطقة العمى هنا؟. إنها في هذا البوح المفاجئ. أرأيتكم لو كنا قائلين للشاعرة إنها تغار بجنون على رجل يتفلّت منها، لو قلنا لها بأنها تحارب امرأة مثلها، في سبيل الاحتفاظ بـ(رجلها).. أكانت ستقر باحتمال خطابها لهذا المعنى؟. اللهم لا.

قلنا إن لدينا هنا امرأة تخاطب امرأة أخرى، الأولى هي العاشقة الرسمية المعترف بها من قبل مؤسسة المجتمع، والثانية هي العاشقة المتخفية المنكورة!. الخطاب ملغوم بكل هذه التوترات الأنثوية، التي طالما زعمت المرأة المعاصرة أنها صارت من ورائها. هكذا يتحول الشعر إلى نوع من البوح الفاضح، القريب الشبه بالعصاب.

و"العصاب ـ في اعتبار فرويد ـ تعبير غير مباشر عن وسيلة مباشرة، لإرضاء نزعة أو إطفاء شهوة. ولذلك يعتبره شيئاً غير مناسب، خطأ أو مراوغة، تعللاً أو تعامياً. وعنده أن هذه من العيوب التي لا يليق بالإنسان الاتصاف بها... غير أن العمل الفني يمكن بحثه كما يبحث العصاب، عندما نعتبره شيئاً يمكن تحليله انطلاقاً من مكبوتات الشاعر"(9).

دعونا نتأمل سوياً في قول سميرة لغريمتها المتخيلة: (لك الفراغ تلتهمينه)، أيتها المنكورة. يمكن القول بأننا هنا في مواجهة عملية القلب (renversement) المعروفة في علم النفس التحليلي؛ حيث يستدعي النقيض نقيضه بصورة أوتوماتيكية. فنحن نعلم أن الفراغ يستدعي نقيضه، الذي هو الامتلاء.

يقول فرويد مرة أخرى:

"إن كل عنصر ــ من حيث تفسيره ــ قد يعرب عن ضده، كما يعرب عن نفسه... والذي يجعل هذا القلب إلى الضد شيئاً ممكناً، هو هذه الرابطة الاستدعائية الباطنة التي تربط في فكرنا بين فكرتنا عن شيء وبين ضدها. وهذا القلب... قد يخدم أغراض الرقابة، ولكنه قد يكون أيضاً، في أحيان كثيرة، وليد تحقيق الرغبة: فما تحقيق الرغبة إلا أن تستبدل بشيء مستكره ضده"(10).

مُستَكرهٌ أن تتبجّح القصيدة النسوية الحديثة بإعلان امتلاك الامتلاء، بعد عقود من ادعاء الاستقلالية التامة عن الرجل. فما عدا مما بدا؟. ما الذي يدعو قصيدة نثر حديثة، لشاعرة من شواعر الحداثة والنسوية، أن تعلن فرحها بالامتلاء!. لا ريب أن وطأة الغريمة هي ما يدفع إلى ذلك. هي ذي حالة عصاب منفلت لا يراعي قوانين الكبت، إذ يخرج هذا المسكوت عنه من منطقة اللاشعور السفلية إلى منطقة الوعي الظاهر. نحن ها هنا بين يدي بوح منطلق متسرع لا يراعي مواضعات المجتمع. ومنذ متى استطاعت الغيرة النسوية أن تتوقف أمام محظورات الأيديولوجيا؟. إن خطاب الأنا المتحضرة هنا يعرب عن نقيضه فوراً. لذا فربما تتفاجأ الشاعرة ــ في لحظات صفائها ــ بقوة هذا المكبوت الذي كشف عنه التفسير.

يستعين التفسير برصد المقول المسموح للكشف عن الممنوع المكبوت؛ ويعيد صياغة الخطاب بالطريقة الآتية: لكِ الفراغ ولي الامتلاء، أنا الزوجة وأنت العشيقة. ويا ويل الزوجة من العشيقة، كما يقول باطن النص!. فإن لم تصدق فاقرأ قول النص من بعد ذلك مباشرة (وقصاصات تلونها خيباتك المتتالية). أي: لك الفراغ ولك الخيبات المتتالية، فيما لي الامتلاء والانتصارات المستمرة!.

أما إن شئت زيادة في التدليل على ما ذهبنا إليه فاقرأ من بعد:

"تعرفين جيداً

البحر للجميع

ولي وحدي بحار يحمل مفتاح الهدير

أشفق عليك من دوامة الانتظار

لن أطلب منك الرحيل

خلف مساءاتي الدافئة

وحدك تتعثرين بأشجار البرتقال وشعرك المجدول

لن أمنحك الأزرق بعينيه الداكنتين

وشاطئه المرسوم على قدري

أنت تحجرتِ في زاوية ما

تنزفين كل ليلة ماضياً لم يكن حاضراً

تتسكعين على عتباتي الشائكة

تنشدين... تبتهلين... تجترين ملامحك الباهتة

تنحسرين كشاطئ مخزي

تصبين عبثك كإبريق مل ركوده

فكوني كما شئت

ولكن لن تكوني شاطئ الآخر

ليرسو على ضفافك البدر".

البحار الذي يملك مفاتيح الهدير لي وحدي. سأدعك تنتظرين ما لا تنالين. لكنني لن أمنحك شرف توجهي إليك بالخطاب، ولن أمنحك حبيبي الممنوح لي بقوة المجتمع، وسأدع الانتظار يصيبك بالتحجر. أيتها المتسكعة على أبوابي المغلقة، سأدع عارك ينحسر عن شاطئ حبيبي...

هي ذي قوة الامتلاك المحمية بالاعتراف المجتمعي، في مواجهة رغبة دخيلة على شاطئها الخاص!. هي ذي امرأة شرقية تحسن الكيد النسوي، تنبعث من أعماق شاعرة متقنعة بدعوات الحداثة. أليس هذا هو مكمن أزمة النص؟.

وبعد، فلقد أظنه مستبعداً أن يقال بأن التفسير حمّل النص ما لم يحتمل، بعد كل هذه العبارات المفاتيح!. كما أظنه مستبعداً أن تُرفض النتيجةُ التفسيرية، القائلة: بأن كل هذه القوة الظاهرة عند أنا الشاعرة، تحيل إلى ضعف وخوف وتوتر وتناقض، أغفله النص، وكشف عنه التفسير.

يقول جاك ديريدا:

"إن الأيديولوجيات تبدأ في الانهيار عندما تصل بمنطقها إلى حدوده القصوى"(11).

يبدو الذكر هنا هو المنتصر والسيد. يراقب الفحلُ صراعَ النساء على مخدعه، فيزداد زهواً، فيما تزداد المرأة قهراً وتشيؤاً: المرأة تمتلئ به، والمرأة تتسكع حول مخدعه، هو الذي يمنح الدفء لواحدة، فيما يترك الأخرى تنتظر.. هو البدر، وهن أرضه التي يطلع عليها من علٍ...

وهكذا يصل منطق الأيديولوجيا النسوية إلى حدوده القصوى، ثم ينهار. تنشأ الأيديولوجيا النسوية ــ في البداية ــ من الرغبة في تغيير المعادلة المجتمعية، المنحازة إلى الرجل، وترفع شعاراتها بذلك؛ لكن صراع امرأتين على نفس الرجل، يضع الشعار أمام الاختبار: النصوص النسوية هنا تحمل نقيضها في داخلها، إذ تتهافت على إرضاء الرجل، متخلية عن الشعار.


ثالثاً: قصة كوثر أبو هاني: ستكون له يدان(12):


تتناول القصة علاقة بين امرأة ورجلين: طارق الرجل الأول الذي يكلمها في التليفون ليلياً، وخالد الرجل الثاني الذي انقطعت يداه أثناء الحرب، حين كان ينتشل جسد صديق جريح في الحرب، ثم اختفى ولم تعد الفتاة ترف ما حل به.

قلنا سابقاً إن الكتابة النسوية تنطلق من خصوصية الأنثى البشرية. ولأن من أهم ما تختلف به المرأة عن الرجل جسدها ــ الجزء الخاص بها الذي لا يشبه الرجال ــ فإن هذا الجزء البري الجامح، غير الخاضع لقواعد المنطق الذكوري، هو مكمن رموز الوعي النسوي. وإن مهمة هذه الرموز، في حالة تفعيلها كتابياً من قبل المرأة؛ أن تجعل الخفي ظاهراً، والصامت متكلماً(13).

إن كتابة الجسد هي كتابة أنثوية قصراً، كتابة ناتجة عن إحساس مكثف، ينطلق في سَوْرةِ كتابةٍ مختلفة. وكأن جسد الأنثى ــ كما تراه الأنثى ــ هو الذي يقوم بفعل الكتابة عن نفسه. لا كما تفعل بعض النساء حين تستعير وعي الرجل وتتكلم بلسان الأنثى. فلننظر كيف تفعل كوثر ذلك:

"طارق، الرجل الأول قبل أن أتعرف على يده الخشنة، ذات الأصابع الطويلة، التي يطل من رؤوسها الحمق؛ كلمني سبع مكالمات هاتفية، بعدد أيام الأسبوع المنصرم، عن تلك اليد الشريرة التي ضغطت على يدي بعنف، حتى سمعت صوت تكسّر عظام أصابعي. كانت مكالماته الليلية أجمل من التي تكون في النهار، بالرغم من عدم تقبّلي لأيٍّ منهما".

1ــ الفتاة تحب رجلاً، وتعبر عن حبها بالصور الآتية:

2ــ يد محبوبها خشنة، ذات أصابع طويلة، يطل من رؤوسها الحمق.

3ــ وهذه اليد شريرة تضغط على يديها بعنف.

4ــ وعنف هذه اليد الشريرة، يكسر عظام أصابعها بصوت مسموع.

5ــ وهي لا تتقبل مكالماته، خصوصاً النهارية منها.

كيف يمكن لوعي ذكوري أن يكتب هكذا؟. هذه هي كتابة الجسد: كتابة منطلقة من الإحساس الخاص، الذي يمكن لنا أن نقول بأنه عوامل الكبت التاريخية، ودوافع الثورة الفسيولوجية؛ مجتمعين. وكل ذلك لا تعبر عنها الكلمات الظاهرة فحسب، بل النيران المشتعلة داخل الكلمات. وإلا فكيف يمكن أن يجتمع كل هذا الحب، مع كل هذه الخشونة والعنف، الظاهريين؟!. وكيف استطعنا أن نسمع، في هذه الكلمات، صوت اختلاج أضلاع المرأة في حضن المحبوب، في لحظة التوحد الجسدي؟!. كيف يمكن لوعي لاأنثوي، أن ينشئ خطاباً يقول بأنه يحب شيئاً، غير مقبول لديه!.. لا، بل يفاضل في حبه بين قسم وآخر، من أقسام هذا الشيء ـ غير المقبول ـ بكلمات من هذا النوع: (كانت مكالماته الليلية أجمل من التي تكون في النهار، بالرغم من عدم تقبّلي لأيٍّ منهما)!. يمكن لنا أن نرى في هذه الكلمات كيف يتمنعن وهن الراغبات. وتلك مشاعر أنثوية يعرفها الرجل من المرأة منذ القدم. لكن المفاجأة الأنثوية ليست فيما سبق فحسب، بل في اكتشافنا ـ من بعدُ ـ أن الفتاة تحب شخصاً وتبحث عنه في آخرين. فلنقرأ المقطع التالي:

"كنتُ في ذلك اليوم ألامسُ اشتياقي لخالد، الرجل الذي انقطعت يداه أثناء الحرب. كانت يداه تنتشلان جسد صديقه الجريح... إلا أن شظايا متطايرة من صاروخ آخر، قطعت يديه... ودُفنت يداه فيما بعد مع جسد صديقه".

إنها تفتقد (خالد) ويديه المقطوعتين، وتحب (طارق) رغم خشونة يده (الشريرة وعنفها)!..

نحن هنا نواجه حالة من حالات صراع الحياة. خالد المحبوب الأصلي غائب ومقطوع اليدين، والشوق وحده لا يعيده. فيما طارق حاضر وله يدان. وهي ذي تخرج للقاء طارق:

"في الصباح أعددت نفسي للقاء طارق".

فيما هي تنتظر خالد، وتبحث عنه في شوارع المدينة:

"سألتقيه ذات صدفة، يوماً ما.. لن يكون نهراً أو حلماً. سيكون أنهاراً وأرضاً خضراء، وسماء زرقاء.. وستكون له يدان. وسنكون معاً مثل فرخي حمام".

فهل ترى الفتاة في طارق تعويضاً جسدياً دنيوياً حاضراً، عن حب عظيم أكبر من أن تتسع له الدنيا، فهو من ثم يتحول إلى وهم، أو توق، أو مثال؟!. ربما!. فمن يستطيع معرفة مشاعر الأنثى؟. ألم أقل إنها كتابة الجسد؟.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


الإحالات:


1ـ انظر: نبيلة إبراهيم. النقد الثقافي في إطار النقد النسوي. كتاب لعدد من المؤلفين. بعنوان: النقد الثقافي والنقد النسوي. ص273

2ــ انظر: نبيلة إبراهيم. المصدر السابق. نفس الصفحة

3ــ انظر: نبيلة إبراهيم. المصدر السابق. ص271 ــ 273

4ــ جريدة الأيام. رام الله. 15/6/2010

5ــ سوزان برنار. قصيدة النثر. ترجمة زهير مجيد مغامس. مراجعة علي جواد الطاهر. ط2. آفاق الترجمة. الهيئة العامة لقصور الثقافة. القاهرة. 1996. ص71

6ــ الموقع الألكتروني: دنيا الوطن. 15/7/2010

7ــ انظر: نبيلة إبراهيم. المصدر السابق. ص271 ـــ 274

8ــ روبرت شولز. السيمياء والتأويل. ط1. ترجمة سعيد الغانمي. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت. 1994. ص37

9ــ كارل. ج. يونج. علم النفس التحليلي. ترجمة نهاد خياطة. مكتبة الأسرة. مهرجان القراءة للجميع. سلسلة أمهات الكتب. القاهرة. 2003. ص247

10ــ سيجموند فرويد. تفسير الأحلام. ترجمة مصطفى صفوان. مراجعة مصطفى زيور. ط5. القاهرة. دار المعارف. دون تاريخ. ص469

11ــ انظر: كريستوفر بتلر. من كتاب: التفسير والتفكيك والأيديولوجيا. ترجة وتقديم نهاد صليحة. مادة في كتاب بعنوان: التفسير والتفكيك والأيديولوجيا ودراسات أخرى. بيتر بروك وآخرون. ترجمة وتقديم نهاد صليحة. القاهرة. سلسلة الألف كتاب الثاني. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 2000. ص103

12ــ مجلة عشتار. غزة. ع11ـ12. شتاء وربيع2009.ص49ـ83

13ــ انظر: نبيلة إبراهيم. المصدر السابق. ص263












































































































































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الفكرة والدخان لمعين شلولة(*) محتوى الشكل وشكل المحتوى

06-آب-2016

نصوص المرأة في غزة / الجسد يتكلم

25-أيار-2015

عابرون في ثياب خفيفة ناصر رباح وكلاب النثر السوداء

28-أيار-2014

قراءة في قصيدة الشاعر سائد السويركي

01-آذار-2013

نظرات في كتاب حاج حمد (إبستمولوجيا المعرفة الكونية)

25-تموز-2011

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow