Alef Logo
دراسات
              

قراءة في قصيدة الشاعر سائد السويركي

د. خضر محجز

خاص ألف

2013-03-01

حوار مع الظل
قرأ الشاعر سائد السويركي هذه القصيدة منذ ما يقرب من الشهر، في منتجع اللايت هاوس بغزة. ولقد كنت قد وعدت نفسي بحضور هذه الأمسية الجميلة، لولا أنني اكتشفت ـ في اللحظات الأخيرة ـ أن مع الجمل مقرونة به هرة، ولا يمكن تلقي أحدهما دون الآخر. فقلت في نفسي: لن أشتري الهرة حتى ولو أضعتُ الجمل.
في اللغة والكلام:
يقول نيتشه:
"إن العشق في الحياة شديد البخل، شديد الصمت والتشوش؛ أو إنه عندما يتوصل إلى التعبير، فبطريقة ملتبسة وغير عقلانية، تخجل من ذاتها"(1).
فلنتأمل كيف تقول قصيدة سائد السويركي عشقه. يقول:
هذا أنا الذئب
وهذا ظلها
فمن أنا والذئب بي
ومن هي؟
وهي الضفيرة وانعكاس الضوء في المرآة
يسمي علم اللغة الحديث اللفظ دالاً (signifier)، لأنه يدل أكثر مما يفصح، إنه لا يحقق المعنى، بل يحيل إلى ما يمكنه منه فيما يسمونه مدلولاً (signified). إن هذا المدلول لا يمكن أن يقول المعنى تماماً، بل يشير إليه إشارة، فما ينتجه المدلول إن هو إلا المشار إليه باللسان (referent) فهو المرجع الدنيوي الذي تريد اللغة أن تعيد تمثيله فتفشل في كل مرة.
هكذا نرى أن بين الدال (الكلمة) والمدلول (الذي تقصد الكلمة أن تحضره) علاقة جد معقدة ومتلازمة تلازماً تكاملياً. فالدال يفترض به أن يستحضر المدلول. والمدلول يفترض به أن يستحضر المرجع الدنيوي الذي قصدت إحضاره الكلمة. وليس الدال وحده هو الذي يستدعي المدلول، بل إن المدلول أيضاً يمكن أن يستدعي الدال: فإنني حين أفكر في امرأة مثلاً، سوف أنطق الكلمة التي تدل عليها (امرأة). وإن خروج هذه الكلمة من الوعي إلى العلن يجعل الآخرين يستحضرون صورة لامرأة ما، ويفكرون في المرأة. وهذه العلاقة التي تمكن كلاً من الدال والمدلول من استدعاء أحدهما الآخر هي المعنى(2).
ورغم أن المعنى متعدد بتعدد مستخدمي الدوال، إلا أنه يبقى هناك قاسم مشترك يحيل إليه مجمل العلاقات. فالمرأة تبقى هي المرأة.
ولا يستحضر رجل امرأة إلا وجردها من ملابسها. تلك هي الحقيقة، ولو زعم الأخلاقيون أنها غير ذلك. ومن شك في ذلك، فلينظر كيف يختار (الأخلاقيون) نساءهم.
الشعر كذلك يقول ذلك، لكنه يقوله بلغة هامسة موحية، تدعي الخجل، فيما هي تتخذ من الخجل وسيلة جمالية ليس إلا.
انظروا: هوذا شاعر يقول: أنا ذئب!.
فهل قصد أن يقول: أنا حيوان مخادع مفترس، وذو أنياب يقطر منها الدم؟..
لدينا هنا ثلاث علاقات للذئب: الخداع والافتراس والقسوة.
فهل أراد سائد الثلاثة معاً، أم أن واحدة منها فقط، هي ما توقد في ذهنه، فاختار له دال الذئب؟
لا شك أن سائد لم يقصد أن يقول: أنا مخادع، كما لم يشأ أن يقول: أنا قاس.
إذن فقد تبقت لنا علاقة ثالثة فحسب، هي الافتراس.
فهل أراد سائد أن يقول: أنا مفترس؟
إن مثل هذا التعبير لا يمكن أن تسمح به الحضارة، المجتمع، الوعي.
لكن ما يمور بداخل الشاعر والقصيدة عنيف، ولا تستطيع اللغة أن تعبر عنه. وهو رغم عنفه حقيقي.
دعونا نتأمل في الإنسان، فنقارن بين شكلين من أشكال فعل واحد، يمارسه في حالتين: حالة وجوده في المجتمع، وحالة انفراده عنه واختلائه بنفسه.
فلنقل مثلاً: دعونا نراقبه وهو يتناول اللحم أمام الناس.
ثم لنتساءل: لماذا نراه يتناول اللحم برقة، ويقطعه متأنقاً، متجنباً مصمصة العظام، فيما نحن نعلم ــ من تجاربنا الذاتية ــ أنه لو كان في بيته لمصمص العظام، واستحلب مشاشها؟
ففي أي حالتيه يكون هذا الإنسان أقرب إلى طبيعة نفسه؟ وفي أي حالتيه يشعر بمتعة أكبر؟
وإذا كان الجواب معروفاً، فلماذا كان ذلك كذلك؟
إنها بقايا الإنسان الأول، الذي نزل عن الشجرة قبل أحقاب، ثم أجبرته الحضارة على كتمان هذا التوق، بسبب مواضعات كثيرة، ليست كلها طبيعية!.
فلنقل ــ بشكل آخر ــ إن الحضارة قد رفضت صورته الأولى فقمعها، واستعاض عنها بصورة أخرى، اختارها له المجتمع، فرضيها له المجتمع، مع أنه لم يرضها لنفسه، فظل يراجعها كلما شعر بابتعاده عن عين السلطة!.
تلكم هي العلاقة الجنسية في حقيقتها: الرجل يريد أن يفترس المرأة. والمرأة تدرك هذا وتستمتع به. ولا مكان لتحقق هذا إلا في السرير، بعيداً عن الرقابة.
ولكي لا يتبقى لديك أثارة من شك، في صحة ما نذهب إليه، فتصور كيف سيكون شكل العلاقة الجنسية لو حدثت أمام المجتمع!.
إنه ذئب، ولا يكون ذكراً إلا إذا كان ذئباً. وإنها لتتمتع بادعاء أنها نعجة تحاول أن لا يفترسها الذئب. والويل له إن لم يفترسها!. هكذا تقول الفلسفة، وهكذا تقول القصيدة:
تقول الفلسفة:
"تظهر النساء براعة جمة في المبالغة في إظهار ضعفهن. بل إنهن حاذقات في اختراع الضعف، إلى درجة تظهرهن بهشاشة الحليّ التي تشوهها حبة غبار. يجب عليهن أن يشعرن الرجل ببلاهته وأن يثقلن ضميره. هذه هي طريقتهن في الدفاع عن أنفسهن ضد قانون الأقوى"(3).
وتقول القصيدة:
وهي الندى, لو ذاب بي لرأيتني ذئبا حقيقيا
فمن سيحملني إلى وحشيتي؟ وأنا اختبار الذئب بي منذ البداية
فتسأله الأنثى باستغراب مفتعل:
أنت ذئب؟
فيرد عليها لاشعوره، الذي انبعث الآن من مكامنه السحيقة:
هذا أنا تحت الرداء
ولو سألنا الشاعر في لحظات تحكم الوعي عما قصده بالرداء لقال لنا إنه الرداء هنا هو جلده القشري الخارجي.
حسنا فليقل عن كلماته ما يشاء، ولكن لنا أن نقول ما نعتقد أن لاشعوره ذهب إليه، من وراء هذا المنطوق اللغوي المخادع.
قال: هذا أنا تحت الرداء.
فنقول: أفليس ممكناً أن تصوره هذه الكلمات، في الفراش منتظرا سقوط النعجة بين مخالبه؟
الفراش كذلك رداء يغطي عري جسده المنتظر.
هل هذا ممكن وأقرب إلى تصور العلاقة ، أم ما يحاول أن يقوله لنا الشاعر من وراء قشرة الحضارة؟
ودليلنا على ما ذهبنا إليه ما يقوله بعد ذلك فوراً:
ذئبيتي وطني
إذ نراه يعود ليؤكد ما ذهبنا إليه كاشفاً ـ دون وعي منه ـ عن مكنونات ما اختفى دهورا طويلة تحت رداء الحضارة. فأي اعتراف هذا لو كان خارجاً من الوعي!..
الذئبية هي الوطن؟!..
كيف كان ذلك كذلك؟!.
أزعم هنا أن الوطن تعبير مقموع عن الرغبة. فنحن نعلم أن الوطن هو البيت. والبيت هو الحقيقة واضحة بعد أن تتعرى من لباسها المستخفي.
إنه يقول هذا، مدركاً ــ إدراكاً غامضاً ــ أن لا شيء يعجب الأنثى مثل هذا!.
ها هنا لغة تقول ظاهراً، ومن ورائها كلام يقول حقيقياً باطناً منبعثاً من الرغبة الأولى: فاللغة هنا تقول (ذئبيتي وطني). ولكننا نقرأها كلاماً يقول: (افتراسي للمرأة هو حقيقتي)..
هذا هو الفرق بين اللغة والكلام، منذ أن قرر علم اللغة الحديث أن الكلام (speech) نشاط متعمد مقصود يوجده فعل الفرد، أما اللغة (language) فتوجدها قوة الجماعة(4).
وبين فعل الفرد وقوة الجماعة توجد مساحة، تمارس فيها القصيدة حريتها المحدودة، إذ تقول: (ذئبيتي وطني)!. وقد تفطن نيتشه مبكراً، إلى قانون الجنسين هذا حين قال: "إن طبيعة الرجل هي الإرادة، وطبيعة المرأة هي القبول"(5).
بشكل آخر، يمكن القول بأن تعبير (ذئبيتي وطني) هو إنشاء لغوي، أي من فعل القوة، فهو هكذا لأن الجماعة قبلته. فأين فعل الشاعر؟ أين الكلام في القصيدة؟
إنه الجملة السابقة:
"انزلي ولا تتزنزلي الا يا تفاحة" مقرونة بما بعدها.
إن جملة (انزلي ولا تتزنزلي الا يا تفاحة) تتحول، من لغة جمعية إلى كلام فردي، باقترانها بما بعدها، إذ تقول القصيدة بعد ذلك مباشرة:
"لعبة الاحتمالات فاضحة ... لا تخف ما لا يختفي".
هو ذا شاعر يريد أن يتكلم، متحرراً من فعل القوة، فلا يجد أفضل من استخدام لغة الجسد، فيقول الشعر:
"وجهك اللغة
وجهك الكلام".
إن اللغة هنا لا تستطيع أن تتأمل مناطق الشهوة من جسد المعشوقة، فيقفز الكلام بتعبيراته الإشارية، ليدور حول ملكة النحل راقصاً.
ولقد تعارفت الجماعة على عدم تحريم الرقص، مع أنها تعرف ما يحيل إليه، ولا تفصح عنه..
إنها لعبة الخفاء والتجلي المعروفة: قل ما تشاء بخفاء، حتى ندعي أننا لم نفهم مقصودك. كذا يقول التابو، فيما لا يملك الشاعر إلا أن يظهر شيئاً من الانصياع فيقول:
"والغابة علمتنا كيف يولد الصياد
ومن أين تأتي الفريسة
علمتنا أن نقرأ الريح".
الغابة هي المجتمع، التابو، القوة...
وعلى الشاعر أن يتعلم لغتها فيعيد القول: (انزلي ولا تتزنزلي يا تفاحة).
ثم يعود ليحدث نفسه بالكلام:
"بيني وبين فريستي شعر من المطر انهمرت به
فنبت فيه".
الشعر بينه وبين فريسته!..
شعر من المطر!
وهل المرأة إلا أرض تستقبل المطر؟
ألا ترون الإشارات الجنسية هنا واضحة؟.
إن الأنثى هنا تتمتع بكونها فريسة، رغم أنها تبدي عكس ذلك.
يقول جلين ويلسون:
"لأسباب تطورية ـ تعود إلى عصر الزواحف تقريباً ـ اعتمد الذكور جنسياً على السيطرة، بينما كانت استثارة الإناث تحدث، على نحو أيسر، من خلال الخوف والخضوع. وهكذا فإن عدداً كبيراً من النساء إنما يحصلن على الإثارة الجنسية من خلال إثارة الخوف لديهن، مهما كان مقدار ما قد يظهر لديهن من احتجاجات تدل على أنهن لم يستمتعن مطلقاً بهذه الخبرة"(6).
كثيراً ما يردد، بعض من يحاولون الاستخفاء، عبارات حول جمال المرأة الروحي. وكأنهم لا ينظرون إلى جمالها الحسي!. ولعمري إنها لخديعة الذئب للفريسة.
إن ما يجعل المرأة جميلة ــ في نظر الرجل ــ هو أنوثتها.
وأنوثتها تتجلى أكثر شيء في جسدها.
أرأيتكم أن لو قال رجل لامرأة جميلة: يعجبني ذكاؤك؟
أكانت ستشعر بالسرور؟.
ولتوضيح الصورة أكثر نقول: ماذا لو قال لها: لا يعجبني فيك إلا ذكاؤك؟
الجواب معروف، لكن النساء يدرن حوله دون أن يصرحن به. وهذا نوع آخر من سحر الخفاء والتجلي.
فلماذا تنزل التفاحة دون رغبتها؟. ولماذا تنزل التفاحة دون أن تتزنزل؟
إن وعي الذكر بذكورته لمخيف. وإن وعي الأنثى بأنوثتها لجميل.
وإن جمال الجميل لا ينحني إلا لقوة الأخذ، منذ أن تقرر أن يأخذ آدم حواء، فيما هي تدعي التمنع.
تقول الأساطير الشفاهية، إن حواء تاهت من آدم، وأخذت تبحث عنه مضناةً في الأرض، طوال سنوات. وأخذ هو يبحث عنها مضنىً في طول الأرض وعرضها. فلما التقاها، ورآها من بعيد ــ ورأت أنه رآها ــ استراحت تحت شجرة، وتناومت. فقال لها آدم ملهوفاً: أين كنت يا حبيبتي؟ لقد بحثت عنك كل الأرض طولاً وعرضاً. فقالت له متصنعة عدم الاكتراث: لم أفارق مكاني منذ غادرت.
انزلي ولا تتزنزلي يا تفاحة
هكذا هي: تتمنع في لحظة تكون فيها أشد رغبة. وهكذا تقرر في قانون الجنسين منذ الأزل.
تقول القصيدة:
"ولم أزل تحت الرداء معمداً بالرغبة الحمقاء
لا تسألي شجر الغريزة عن عصافير السماء
هذا الرداء أنا
فلتقرئي دمّ الفرائس تحت قوس النصر في ذات الرداء
انزلي ولا تتزنزلي إلا يا تفاحة"..
ها نحن نرى هنا شاعراً يمارس أشد تأثير لسحره، بما ينقصه، بما لا يستطيع الإعلان عنه، لأن رغبته الجامحة قد بقيت في أعمق أعماق روحه، يغرف منها بلاغته العجيبة(7).
إن اللغة لا تستطيع أن تقول، لكن الكلام هو ما يقول. ونحن الذين نفهم الكلام الذي لم تقله اللغة. فلنتأمل كيف قمعت سلطةُ المجتمع قوةَ الرغبة، فاستحالت كلاماً.
تقول القصيدة بعد ذلك مباشرة:
"لا شيء يمضي هكذا دون أن يكون له ظل أو صدى
في البدء كانت رعشة في الطين
في البدء كنت حجرا مسافرا لا ينبت العشب عليه
في البدء ، كانت ومضة بلا صوت ولا حدائق ولا وعي ولا أسئلة
في البدء لم يكن الخلف حاضرا ، إنما اندلاع للأماكن في الفراغ
في البدء لم تكن الأنثى ولا المرآة ، إنما كنت وحدي مع طيني المر
أدحرج الفراغ لأمسك المعنى"...
إن المعنى بعيد، يحتاج من الشاعر إلى أن يدحرج الفراغ ليصل إليه. وهذا المعنى البعيد، يمكن تأمل علاقاته، وسط كل هذه التعبيرات اللغوية المقموعة: إن الشاعر ــ أو لاشعوره ــ يستعيد لحظة البكارة الأولى، لحظة الخلق الأولى، حيث كان آدم وحواء بعيدين وحيدين، وما من رقيب!.
إن الرغبة هي ما يقول هذا الكلام: يتوق الشاعر إلى أن ينفرد بمعشوقته، بعيداً عن الأعين. ثم يفضحه بوحه، إذ يعقب بعد كل ذلك مباشرة، بتساؤله المحير:
"هل كان ضروريا وجود الله والمرآة والمرأة والفراغ المطلق ونحن؟"
والمعنى: هل كان ضرورياً وجود كل هذه العقبات بيني وبين جسد المعشوقة؟
ولمن يشك في كون هذا هو المعنى، الذي يحيل إليه توق القصيدة، نقول: تأمل ما يقوله الشاعر بعد ذلك السطر مباشرة، إذ يقول:
"والإلٰهات اللواتي لا يرغبن في أن يعرف المؤقتون سر الكون"..
فستكتشف أن لا إلٰهات ــ في الواقع التصوري للشاعر ــ إلا إلٰهات عاريات من كل شيء، سوى الرغبة والجسد والجنس. أو هكذا على الأقل صورت الميثيولوجيا القديمة كل الإلٰهات: نسوة سماوية يتمتعن بالرجال بشراهة حسية، يتحسر معها الشاعر أنه لم يكن واحداً من فرائسهن..
في بلاغة التكرار:
نعود الآن إلى التكرار الملازم للقصيدة في العديد من التعبيرات اللغوية، ولنقتصر هنا على تكرار تعبير:
"انزلي ولا تتزنزلي إلا يا تفاحة"..
إن هذه العبارة لتتكرر في قصيدة سائد خمس مرات. فهل جاء هذا التكرار عبثياً؟
لا يمكن القول بأنه كذلك، لأننا بين يدي قصيدة تعب صاحبها في الاشتغال عليها. وسائد ليس من الذي يلقون الكلمات على عواهنها ــ أو كيفما اتفق له ــ وحتى لو حدث له ذلك، فإن علينا أن نحفر فيما وراء ذلك من أسباب خفية.
لماذا كان هذا التكرار؟
إن عبارة (انزلي ولا تتزنزلي إلا يا تفاحة) معهودة لدى الأولاد ــ ذكورا وإناثاً ــ منذ كانوا يلعبون سوياً في الحواري والأزقة، قبل أن تذهب من ذهن المجتمع صورة البراءة الأولى، التي كانوا عليها حقاً.
لقد كانوا أبرياء حقاً، لكن الشاعر يعيد إنتاج تلك اللحظة الماضية بمشاعر اليوم. ومشاعر اليوم تقول إننا لم نعد أبرياء. ومشاعر اليوم تقول بأن علينا أن نحفر تحت هذه العبارة، التي قيل إنها طفولية لا تخفي تحت قشرتها شيئاً ذا مدلول. فهل كانت فعلا هذه العبارة ــ أيام الطفولة ــ بلا مدلول؟. فإن كانت كذلك، فكيف جاءت وما هو منبعها؟ لم قلنا أيامها (انزلي ولا تتزنزلي إلا يا تفاحة)؟ لِمَ لمْ نقل مثلاً: إنزلي يا برتقالة، أو يا خوخة، أو أي شيء آخر؟.
ثم لِمَ لمْ نقل: إنزلي يا تفاحة، بدلاً من هذا التخيير للتفاحة، بين النزول وعدمه؟
وهل هذا التخيير للتفاحة حقيقي أم إنذار؟ هل نريد أن نقول لها: لك الخيار أن تنزلي أو لا تنزلي؟
أم أننا نقصد أن نقول: سواء نزلت أم لم تنزلي، فيسوف تسقطين وألتهمك، لأنك تحملين في داخلك بذرة الرغبة؟
في البداية دعونا نتأمل لم اختار التفاحة للنزول دون غيرها، ألا يذكرنا هذا بما استقر في الوعي من أن التفاحة هي الرغبة، ألا نقول تفاحة آدم؟. إن الثمرة المحرمة قد سقطت تحت عيني آدم المحمومتين فالتهمها، متناسياً الأوامر والنواهي. وإن تاريخ المثيولوجيا ليقول لنا إن التفاحة هي من أغوى آدم، وليس العكس. إن ما وقر في وعي البشر هو أن حواء هي التي أغوت آدم، قبل أن تدعي أنها لم تكن راغبة، كما أوضحنا في الأسطورة الشفاهية السابقة.
من ناحية أخرى، هناك هذا التكرار للعبارة (انزلي ولا تتزنزلي إلا يا تفاحة) على طول القصيدة. فماذا يعني هذا؟
إننا أمام مخطوطة أصلية ــ العبارة في لحظتها الأولى، العبارة البكر التي قيلت أيام الطفولة ــ يحولها الشاعر إلى نص موازٍ، يحولها من فعل ظُن يوماً أنه طبيعي في سياقه، إلى إنجاب مقصود صاغه تاريخ الرجال والنساء والرغبة(8).
إن الشاعر ـ بهذا التكرار المقصود، يقول أشياء وأشياء، ليس بالضرورة أن يقصدها وعيه، بل ربما انبثقت من لاشعوره. إنه ذكر شرقي يدرك إدراكاً غامضاً أن أنثاه ـ حين يتعلق الأمر بالجنس ـ سوف تبدي ضروباً من التمنع مهمتها زيادة اشتعال الذكر، الذي تظل تنتظر منه المبادأة الهجوم، ذلك النوع الممتع من (الاغتصاب)!.
إنه فحل وهي ناقته.
هكذا قال تاريخ العلاقة بين الجنسين.
إن تكرار العبارة هنا لا يعيد تمثيل المشهد، بل يؤبده على خشبة مسرح الحياة: تواصل الأنثى فعل أمرين متلازمين: تهييج الذكر، وإظهار التمنع. فيما يواصل الذكر اشتعاله المتهيء للحظة السقوط، وحين تقترب اللحظة يهجم، فتقاوم الأنثى قليلاً، قبل أن تستسلم متمتعة، لأنها هي من أراد ذلك في الأصل.
ستجادل العديد من النسوة في صحة ما ذهبنا إليه.. سيجادلن في العلن، وسيوافقن في السر، لأنهن مدركات أنها الحقيقة. لكن علم النفس يؤكد ما ذهبنا إليه. ومن شاء أن يتأكد فليعد إلى عبارى جلين ويلسون السابقة.
تصوروا ديمومة المشهد بهذه الطريقة: الشاعر ينتظر سقوط التفاحة أبداً، والتفاحة تتهيأ للسقوط أبداً، ولكن القصيدة تتركهما في هذا الوضع، ولا تمتد اليد لتقطف، لأنها لم تفهم بعد إرادة التفاحة. فيظل الشاعر مشتهياً دائما. وهذا هو ما يصنع هذه القصيدة الحزينة.
هناك تكرار آخر في القصيدة أشد وضوحاً، ذلكم هو قوله بين كل فقرة وأخرى (هل تعرف قاعدة when)؟
وإذا كنا نعرف أن كلمة (when) معناها متى: فإن لنا أن نتصور كم هو مرهق هذا الانتظار من سائد، الذي لا يزال يلح عليه وعيه أن يتساءل عن موعد سقوط التفاحة.
أيها الشاعر، لن تسقط التفاحة من تلقاء ذاتها. تلك هي طبيعة الأشياء. فلست نيوتن. وليست هي الأرض. بل أنت رجل وهي امرأة. ولا بد من فهم قانون الجنسين، الذي نص عليه نيتشه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات:
1ـ نيتشه. العلم الجذل. العلم الجذل. ترجمة سعاد حرب. دار المنتخب العربي. بيروت. 2001. ص82 ــ 83.
2ـ انظر: ستيفن أولمان. دور الكلمة في اللغة. ترجمة كمال بشر. مكتبة الشباب. القاهرة. دون تاريخ. ص65.
3ـ نيتشه. مصدر سابق. ص72.
4ـ انظر ستيفن أولمان. مصدر سابق. ص30.
5ـ نيتشه. مصدر سابق. ص76.
6ـ جلين ويلسون. سيكولوجية فنون الأداء. ترجمة شاكر عبد الحميد. مراجعة محمد عناني. الكويت. سلسلة عالم المعرفة. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. 2000. ص19.
7ـ انظر: نيتشه. مصدر سابق. ص81.
8ـ انظر: إدوارد سعيد. العالم والنص والناقد. ترجمة عبد الكريم محفوض. دمشق. اتحاد الكتاب العرب. 2000. ص170.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الفكرة والدخان لمعين شلولة(*) محتوى الشكل وشكل المحتوى

06-آب-2016

نصوص المرأة في غزة / الجسد يتكلم

25-أيار-2015

عابرون في ثياب خفيفة ناصر رباح وكلاب النثر السوداء

28-أيار-2014

قراءة في قصيدة الشاعر سائد السويركي

01-آذار-2013

نظرات في كتاب حاج حمد (إبستمولوجيا المعرفة الكونية)

25-تموز-2011

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow