Alef Logo
ابداعات
              

قصة / المبارزة

رامي الطويل

2006-11-19

خاص ألف
لم يشأ أن يبارزه بالسّيف .
- إنّه سلاح أبيض , و أنا أكره الأبيض في كلّ شيء .
قال بصوت واثق , و نبرة حادّة , جعلت صاحب الجسد الأسطوريّ يضحك ملء شدقيه , و هو يتأمل ضآلة خصمه , ذي الوجه الجافّ , و الملامح الصّارمة , و الذي تلتمع عيناه الواسعتان , كأنّهما تطلقان نشيد النّصر قبل بدء المعركة .
- لتكن البندقية إذاً ؟
قال الرجل الضخم بسخرية دفعت الحاضرين إلى الضّحك .
التفت عبد الله إليهم بنظرة صارمة , مؤنّبة , أصابتهم بالصّمت .
- البندقية سلاح آليّ يحكمه الغباء المطلق .
قال عبد الله , فاتسعت حدقتا خصمه دهشة , و زفر من منخريه , مغتاظاً مما يسمعه من هذا القزم , ذو النبرة الواثقة .
دنا بعض الحاضرين من عبد الله يستحثونه ضاحكين ..
- عليك أن تختار سلاحك يا عبد الله .
- أنت من طلب النزال , ولا يجوز أن تنسحب الآن يا عبد الله .
- لم نأت إلى هنا لننصت إليك , بل لنتفرج يا عبد الله .
صمت عبد الله طويلاً , و بدا ساهماً , تجول عيناه في الفراغ الذي يحكم سماء القرية .
ارتفعت الهمهمات من حوله متذمّرة ..
- إنّك تضيع وقتنا يا عبد الله .
- يجب أن ينتهي النزال قبل أن تسخن الشمس يا عبد الله
- إذا كنت قد عدلت عن رأيك , اعترف بخسارتك , و دعنا نتيسّر إلى أعمالنا يا عبد الله .
استدار عبد الله نحوهم بهدوء , ثمّ تحرّك ببطء , شاقّاً لنفسه طريقاً بين الحشد الصّامت بذهول .
مشى عبد الله بخطوات واثقة , تلاحقه عيون مترقّبة , حائرة , اتّجه نحو شجرة التوت الكبيرة الموجودة في طرف السّاحة , و هناك راح يخلع ملابسه قطعةً , قطعة , على وقع النظرات الذّاهلة , المرتابة .
تبادل رجال القرية نظرات التّساؤل , و الاستغراب , بينما أخفت النساء عيونهنّ , بأكفّ مفتوحة الأصابع , و رحن يطلقن صيحات الذّعر مع كلّ قطعة جديدة يخلعها عبد الله .
وحدها / جميلة / لم تُخفِ عينيها , بل راحت تتأمّل ذلك الجسد النحيل بإمعان , ساهمة , حزينة , حتى طفرت دمعة من عينيها الخضراوين , الخابيتين , تلتها صفعة قويّة , تلقّتها من زوجها , الذي صرخ مغتاظاً :
- تحنّين إليه يا ابنة العاهرة ؟
ثمّ سحبها من شعرها , مبتعداً بها عن السّاحة , دون أن يلحظ ذلك أيّ من الحاضرين , المقيّدين بحبال من الدّهشة , ربطهم إليها عبد الله , و هو يعلق ثيابه على أغصان شجرة التوت .
عاد عبد الله إلى وسط السّاحة عارياً , و وقف منتصباً أمام خصمه فاغر الفم , و الذي بدا حجمه الآن أشدّ هولاً .
نظر عبد الله إلى عيني خصمه , الذّاهلتين , مباشرة , و تحوّلت شفتاه إلى مجرّد خطّ دقيق يفصل بين يقين وجهه , و عظامه البارزة .
- ليكن نزالاً بالأيدي .
قال عبد الله بصوت واثق أصاب الجميع بالذّهول , و خيّم على القرية صمت جنائزيّ , تلاه ضحك هستيريّ بدأه خصم عبد الله , و امتدّ زمناً طويلاًَ , قبل أن يلجمه إصرار عبد الله , الصّامت , المتسمّر مكانه , تشتدّ ملامحه قسوة .
دنا الرجل الضخم من عبد الله - الذي بدا جسده أكثر ضآلة - و صرخ متوعّداً , بعد زفرة أثارت الغبار من حوله :
- سينتهي النّزال بعد لكمة واحدة يا عبد الله .
تعالت بعد ذلك الأصوات ساخرة من حولهما ...
- جئنا لنشهد نزالاً طويلاً , و ليس مشهداً كوميدياً يا عبد الله
- انظر إلى نفسك يا رجل , أنت لا تساوي حجم ساقه .
- كن موضوعياً , تخلّ عن جنونك , و لننصرف من هنا.
انحنى عبد الله , لطم الأرض بكفيه , متحديّاً , غير مكترث لما يسمعه , ما أثار الضّحك , و الهمهمات من جديد ..
- انظروا إليه , إنّه يبدو كالجرذ أمام هذا الثور .
- أتوقّع نزالاً استثنائيّاً سنرويه طويلاً في سهرات الشتاء القادمة .
- كلّ ذلك لأنه لم يحتمل إهانة هذا الرجل له .
- أظنّ أنّها أوّل إهانة يتلقاها في حياته .
كان عبد الله آنذاك يحدّق بثبات في عيني خصمه , الذي تلاحقت أنفاسه المغتاظة , لتغدو ضجيجاً , جعل الجميع يلوذون بالصّمت , مقيّدين بالتّرقّب , و الذّهول .
التفت عبد الله إليهم بنظرة ساخرة , و أطلق صيحة أذهلت الجميع أن تصدر عن كائن بتلك الضآلة ..
- لنبدأ الآن .
اندفع الرجل الضخم عندئذ بجبروت ثور حاقد , فارتفع الغبار من حوله , و حُبست الأنفاس ترقّباًَ , بينما عبد الله يحدّق بعيني خصمه , دون أن يتحرك قيد شعرة .
ارتفع الصراخ , و الشهقات المذعورة , و أخفت النساء عيونهنّ , في اللحظة التي رفع فيها الرجل ذراعه فوق رأس عبد الله , الممعن جيّداً بالقبضة المرفوعة فوق رأسه يراقبها و هي تهوي عليه بقوة أسقطته أرضاً .
ضحك الرجل الضخم عندئذ , و التفت إلى الحاضرين ..
- انظروا إليه , يريد نزالاً بالأيدي .
ضحك الجميع , و عاد الصراخ و الهتاف عالياً ..
- انهض يا عبد الله , انهض و تابع النزال .
- يبدو أنّنا سنتسلّى طويلاً , هيّا انهض يا عبد الله
- أنت من طلب النّزال بالأيدي , انهض , و الكم هذا الوحش على خصيتيه يا عبد الله , هيّا ... هيّا .
تابع الحاضرون الصراخ , لكن عبد الله لم ينهض أبداً بعد ذلك .

أنهى صديقي قصته , ثمّ تنهد بعمق , و مسح دمعة طفرت من عينيه , ربّتُّ على كتفه مواسياً , ثم دنوت من قبر أبيه الجاثم أمامنا , وضعت عليه وردة صفراء كانت بحوزتي , و تناولت حجراً عن الأرض , نقشت به على شاهدة القبر :
(( هنا يرقد عبد الله , الرجل , الصغير , رجلٌ لم تمنحه الحياة شيئاً , و لم يمنحه الموت أيضاُ . ))
تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

البرتو مانغويل يورّط القارئ في عشق التفاصيل

23-تموز-2016

سيد درويش... عبقري الموسيقى العربية

25-آب-2015

قصة / منشور سرّي

25-كانون الثاني-2011

قصة / الصّمت

01-نيسان-2007

قصة / المحطّة

15-شباط-2007

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow