Alef Logo
ابداعات
              

قصة / الصّمت

رامي الطويل

2007-04-01

خاص ألف

لو لم أفعل ذلك .
لم يكن أحد يتوقّع ذلك , ما حدث لا يصدّق , بلمح البصر تلاشى الصّمت من القاعة , و حلّت الفوضى , بعد أن أخرج شريف من جيبه مسدّساًَ حربيّاً , و أطلق منه رصاصة هشّمت رأس السيّد وجيه , الجالس قبالته , و أردته أرضاً .
اندفع الأعضاء وسط الصراخ نحو الجثّة , رفعوها , و وضعوها ممدّدة , فوق الطاولة التي كانوا يجتمعون إليها قبل لحظات .
بدت الجثة ضخمة أكثر من المعتاد , بعد أن تشوّه الوجه ,
و اختفت نظرات السيّد وجيه الحادّة , و حاجبيه الكثيفين , و ابتسامته الدّمثة التي طالما امتاز بها .
وحدها الآنسة جميلة , هربت إلى ركن بعيد مخفية وجهها بين كفيها , و هي تعول منتحبة , بعد صرخة الذّعر المرعبة التي أطلقتها .
عاد شريف للجلوس بهدوء , وضع مسدسه الحربي على الطاولة , و هو يحدّق بالجثة الممدّدة أمامه بنظرات ثابتة , و قد هدأت أنفاسه , التي طال اضطرابها قبل هذه اللحظة .
بعد أن سوّى الأعضاء الثلاثة الآخرين وضعية الجثّة , وقفوا ذاهلين لا يجرؤ أحدهم على النظر إلى الآخر , و عاد إلى القاعة صمت مريب - إذا ما تجاهلنا نحيب الآنسة جميلة المتواصل - .
تحرّكت شفتا شريف ببطء شديد , و دون أن يرفّ له جفن , أو يحيد بنظره عن الجثّة المشوهة , لفظ عبارته الحازمة :
- لو لم أفعل ذلك , لفعله هو .
لم يستغرق كلّ ذلك أكثر من ثوان قليلة , فُتح بعدها باب القاعة , و ولج إليها عدد كبير من الموظفين , محدثين جلبة عالية من العويل , و الصراخ , و اختلطت أصوات الاستنكار , و الاستهجان , بنظرات الذعر , و الذهول , دون أن يفهم أحد ما حدث , لكنّ إجماعاً عاجلا صدر بضرورة إبلاغ الشرطة , التي وصل رجالها بعد ساعة واحدة , بلباسهم الرسميّ , و بنادقهم الطّويلة , روسيّة الصنع , فاقتادوا شريف مكبّل اليدين , صامتاً , يمشي بثقة المنتصر , و حمل أحدهم المسدّس داخل كيس ورقي ّ , بينما لحق بهم أعضاء المجلس ذاهلين , بما فيهم الآنسة جميلة , التي سالت كحلة عينيها ممزوجة بدموعها المنهمرة باستمرار , ممرّغة وجهها .
عاد الصّمت إلى القاعة , يشوبه وقع أقدام الشرطيّ , الوحيد الذي بقي ليحرس الجثّة , ريثما يصل الطبيب الشرعيّ .
تجوّل الشرطيّ في أرجاء القاعة , متفحّصاً المكان ببلاهة , ثمّ وقف يحدّق بالجثّة , مستغرباً ضخامتها .
استدار حول الرأس المهشّمة عدّة مرّات , محاولاً تبيّن ملامحها , دون جدوى , مطّ شفتيه أخيراً بلا مبالاة , و جلس بعيداً متكئاً إلى بندقيته الطّويلة ..
- ما يزال الوقت مبكّراً , مؤكّد أنّ هذا الرّجل لم ينتحر .
تمتم بذلك , و هو يغمض عينيه المنهكتين , مستسلماً لخدر يسري فيه منذ الصّباح , سعيداً بما استطاع استنتاجه .

نظرية الصّمت .

لم يمض سوى أسبوع واحد على تسلّم الأستاذ سمير مهامه كرئيس للمجلس , خلفاً لوالده الذي توفي قبل شهرين , بعد أن ترأس المجلس لعشر سنوات متتالية , وبعد أن اختلف الأعضاء طويلاً حول تسمية رئيس جديد لهم , و لم يُحسَم الخلاف إلا بعودة السيّد سمير - غير المنتظرة – من ألمانيا , بعد أن أتمّ فيها دراسته للفلسفة , عندئذ أجمع الأعضاء على تسميته رئيساً , حفاظاً على سيرورة المجلس التي كرّسها والده .
كان سمير أوّل شابّ يدخل المجلس منذ تأسيسه , فهو لم يتجاوز الثالثة و الثلاثين , بينما تجاوزت أصغر أعضاء المجلس - الآنسة جميلة - السابعة والأربعين منذ أسبوع , و قد حاول في اجتماعه الأوّل بالأعضاء أن يلمّ بأعمال المجلس , و أن يفهم حيثيات المهام الملقاة على عاتقه , بعد أن طلب منهم استبدال كلمة السيّد , التي يستخدمونها للمخاطبة , بكلمة أستاذ لدى مخاطبته , فهو لم يكن بعد مستعداً للتخلّي عن اللقب الذي أمضى سنوات من الدّراسة المرهقة للحصول عليه .
بدأ الأعضاء حديثهم , فارتفعت أصواتهم كالعادة , و تحوّلت إلى غوغاء بدا الأستاذ سمير تائهاً فيها , غير قادر على فهم شيء , سوى التحالف الواضح بين السيّد شريف , و السيّد وجيه , اللذين بدا صوتهما هو الأقوى , بينما كان السيّد سميح - ذو العين الواحدة – يفرض مع السيّد ساهر ( حليفه ) جوّاً من السخرية اللاذعة , تثير السيّد شريف بشكل واضح , أمّا الآنسة جميلة فقد بدت محايدة تماماً , تؤيّد الجبهة الأولى تارة , و الثانية تارة أخرى , دون أن تصرّح برأيها الخاص مطلقاً , كما أنّها التزمت الصّمت لفترات طويلة , بدت خلالها شاردة الذهن , بعيدة عما يدور حولها .
في لقائه الأول بالأعضاء وجد الأستاذ سمير صعوبة بتمييز الآنسة جميلة , إذ كانت تشبه زملاءها بطريقة ارتدائها للثياب الأقرب إلى الذكورة , و ألوان ربطات العنق القاتمة التي تختارها , و شعرها المرفوع , المخبأ تحت قبعة بنية , تشبه ما يعتمره العجائز من الرجال , و الملامح القاسية لوجهها الذي تكاثرت فيه التجاعيد , و بدا الشاربين واضحين فيه فوق شفتين دقيقتين , غائرتين , و صوتها الأجش , المبحوح , الشبيه بأصوات المدخنين من الرجال .
بعد أن انتهى الاجتماع الذي ارتفعت فيه وتيرة الصراخ إلى حدّ تبادل الشتائم في بعض الأحيان , التزم الأستاذ سمير الصّمت برهة , أدرك فيها أنّه لن يتمكن من فهم ما يدور حوله بهذه الطريقة , و أنه الوقت الملائم للاستفادة مما تعلّمه طوال سنوات دراسته , شدّ ظهره إلى الكرسي , بعد أن تناول عن الطاولة قلماً راح ينقله بين أصابعه , ساهماً , مانحاً لنفسه هيئة القائد التي لم يستطع احتيازها بعد , ثمّ تقدّم من الأعضاء باقتراحه الغريب , في أن تقسم اجتماعات المجلس إلى ثلاث مراحل :
- جلستان يلتزم فيهما الجميع الصّمت , لنتمكن من فهم اقتراحاتكم , و دراستها , و من ثمّ نخصّص جلسة لمناقشة تلك الاقتراحات , بعد أن يكون كلّ منكم قد سجل ملاحظاته , و حدّد أهدافه بدقّة .
اعتلت الدّهشة وجوه الأعضاء , و تبادلوا نظرات الاستغراب , لكن الأستاذ سمير لم يلحظ ذلك , فهو لم يتجرأ بعد أن ينظر مباشرة إلى وجوه الأعضاء , التي تشبه إلى حدّ كبير وجه والده , الذي لم يجرؤ يوماً أن يرفع رأسه أمامه , إضافة إلى كونه اندفع بحماس كبير لشرح نظريته حول الصّمت , محاولاً استعراض معارفه التي اكتسبها جراء دراسته للفلسفة , و نتيجة صداقة وثيقة جمعته مع يهوديّ ألماني يعمل محلّلاً نفسيّاً , راح يكرّر اسمه الطويل مراراً أثناء الحديث , دون أن يتمكن أحد الأعضاء من حفظه .
- ليس مهمّاً أن نتكلّم , الكلام سهل جدّاً , علينا أن نتعلم كيف نصمت , بذلك فقط يمكننا التخلّص من الفوضى , الصّمت سيمنحنا مساحة من الإمعان , و التركيز , تزول معها كلّ العوائق التي تسبب خلافاتكم ....
أسهب الأستاذ سمير في شرح نظريته , محاولاً إضفاء الكثير من الأهميّة على حديثه , عبر فواصل صغيرة من الصّمت بين جمله الطويلة , يعود خلالها لمداعبة القلم بأصابعه , و تقليب بعض الأوراق الموضوعة أمامه دون أن ينظر إليها , و دون أن يلحظ الابتسامة السّاخرة التي اعتلت وجه السيد وجيه وهو يراقب غيظ السيّد شريف الذي رغب عدّة مرّات أن يصرخ بوجه رئيسه الجديد : ( لو أنّك تؤجّل ألعابك السّخيفة إلى البيت , فأطفالك كما أعتقد أحوج إليها )
أمّا السيّد ساهر , و السيّد سميح فقد اكتفيا بالتغامز كلّما أعاد الأستاذ سمير ذكر اسم صديقه اليهوديّ .

وحدها الآنسة جميلة كانت تحدّق بوجه الأستاذ سمير دون أنت يرفّ لها جفن , لم تكن مصغية إليه , بل إلى صوت رقرقة عذبة تعتمل في صدرها للمرّة الأولى منذ كانت مراهقة , وقد انشغلت بإخفاء شاربها بأصابعها , و مدارات وجهها كلّما نظر إليها هذا الشاب , الذي يتقن جيداً مداعبة القلم , و الذي جعلها تشعر للمرّة الأولى بأنوثة ظنت أنّها تحررت منها منذ زمن بعيد , كانت تحدّق بوجهه الذي بدا وسيماً , قوياً , مثيراًُ , إذا ما قارنته بوجوه العجائز المحيطة بها .
استمرّ حديث الأستاذ سمير ساعة طويلة جدّاً , أحسّ بعدها بنشوة عارمة , و هو يسمع الثناءات المتلاحقة حول أهمية نظريته , و التأكيد على حاجة المجلس إلى مثل تلك الذهنية العلميّة الدّقيقة , المصحوبة بعنفوان الشباب الواضح , عندها فقط رفع رأسه , و نظر مباشرة إلى وجوه الأعضاء , الذين يعلمون جيّداً أنّ ما يقترحه رئيسهم واجب التنفيذ دون نقاش , عملاً بما أسّس له , و كرّسه والد الأستاذ سمير - رئيسهم المتوفى - .
خرج الأستاذ سمير من القاعة محتفظاً بنشوته , بينما غادر الأعضاء متّحدين بشعورهم بالخيبة , جرّاء ألعاب طفوليّة يعلمون جيّداً أنّها لن تفضي إلا إلى إطالة زمن الاجتماعات المملّة , أمّا الآنسة جميلة فقد غادرت القاعة بعد أن تحوّلت الرقرقة العذبة إلى خرير شلالات صاخبة تندفع في عروقها , حاملةً إيّاها على جناحين من الغبطة نحو فرح موعود , يقطن في ثنايا تحوّل جذريّ سيأتي .

التّحوّل .

قطع الأعضاء الأربعة قهقهتهم المرتفعة بعد أن دخلوا القاعة , و فوجئوا بالأستاذ سمير , الجالس خلف الطّاولة , صامتاً , يقلّب أوراقه , غارقاً بالتفكير , تبادلوا نظرات الاستغراب , و السخرية بعد أن نظر كلّ منهم إلى ساعته , ثمّ جلسوا حول الطّاولة ملتزمين الصّمت , كاتمين غيظيهم , بينما بقي كرسيّ الآنسة جميلة شاغراً لأكثر من نصف ساعة , عبقت بعدها في الجوّ رائحة عطر مغرق بالأنوثة جعل الجميع – باستثناء الأستاذ سمير – يلتفتون ناحية الباب لتتسع عيونهم دهشة , و هم يرون الآنسة جميلة تدخل القاعة بفستان قصير ذي ألوان زاهية , و على كتفيها ينساب شعرها مسدولاً , بعد أن صبغته بلون ذهبيّ لمّاع , و قد أخفى طلاء الوجه الكثير من تجاعيدها , كما اختفى شاربيها , و بدت شفتاها المصبوغتان بأحمر الشفاه مكتنزتين , نضرتين على غير العادة .
ابتسمت الآنسة جميلة ابتسامة الفوز , و مشت نحو كرسيها بخطوات واثقة , مغناج , بينما تعلّقت الأنظار بكعبي حذائها المرتفعين بشكل مبالغ فيه , و هما يصدران إيقاعاً رتيباً يكمل أنوثة المشهد .
جلست الآنسة جميلة بثقة تحت عيون زملائها , الذين تبادلوا نظرات الاستغراب , و السخرية بصمت حفاظاً على قانون الجلسة , أمّا الأستاذ سمير فظلّ مستغرقاً بأوراقه , غير آبه لما يدور حوله .
تململ السيّد سميح , و أراد أن يصرخ بوجه الآنسة جميلة : ( إنّك تبدين كرأس يقطين يابسة ) , لكنه اكتفى بأن يدوس قدم السيّد ساهر , معبّراً له عمّا يجول في خاطره – لعدم قدرته أن يغمز له بعين واحدة - , ابتسم السيّد ساهر - و قد فهم ما أراد حليفه – ابتسامة مبتورة مخافة أن يلحظه أحد , غير منتبه إلى أنّ أحداً لم يكن ينظر إليه سوى عين حليفه الوحيدة , أمّا السيّد شريف فقد أومأ إيماءة سخرية سريعة , وعاد يحدّق بوجه السيّد وجيه , لمعرفته بخطورة ما اتفقا عليه , وكم يحتاج من تركيز كيلا يفتضح أمرهما في جلسة النقاش , لكن السيّد وجيه لم يعد مبالياً بذلك , و تحوّلت عيناه إلى مرآتين صغيرتين تعكسان صورة الآنسة جميلة , التي يحدّق بها بشهوة واضحة , استطاع السيّد شريف التماسها فاعترته رعشة الغيظ و أراد أن يصرخ بوجه الآنسة جميلة : ( ليس هذا وقت ملائم لعرض مفاتنك ) , لكنه التزم الصّمت مرغماً , كاظماً غيظه , محاولاً إيجاد وسيلة للخلاص من ورطة ستوقعه فيها هذه الفاتنة الشمطاء.
ارتسمت ابتسامة الغبطة على وجه الآنسة جميلة عدّة مرّات , وهي تتأمل أصابعها الطويلة , ذات الأظافر المطليّة حديثاً بلون أحمر مثير , و بدأت تشعر بحرارة النظرات المنزلقة على جسدها , فرفعت رأسها بهدوء , و نظرت مباشرة إلى الأستاذ سمير , لتفاجأ بوجه أملس , صلب , رخاميّ , لا حياة فيه , و قد تحوّلت عيناه البنيّتان إلى قطعتين من الزجاج الكتيم , تدور فيها بنود المشاريع , و الاتفاقيات , و الصفقات , التي لم يستطع فهمها بعد .
تلاشت ابتسامة الآنسة جميلة , و خبت نظرتها دفعة واحدة , و انبعث من أعماقها صفير قديم طالما اعتادت سماعه , صفير يشبه صوت ريح تعصف في غابة من الأشجار العارية , أو صوت قاطرة بخارية تعبر أرضاً صحراويّة قاحلة , دون أمل بالوصول إلى أيّ مكان .
عادت الآنسة جميلة بكرسيها إلى الوراء , و هي تعضّ شفتيها المرتجفتين , مغمضة عينيها , لإخفاء خيبة لم يلحظها غير السيّد وجيه , الذي ارتسمت على وجهه ابتسامة الفوز , و سرت في جسده رعشة تشبه نشوة طارئة , فشمل الجميع بنظرة واحدة لتستوقفه عينا السيّد شريف القلقتين , ابتسم له بودّ , و غمز بعينيه مشيراً إلى الآنسة جميلة , ما أثار حنق السيّد شريف خشية تحالف جديد يكون هو الحلقة الأضعف فيه .

السيّد وجيه .

في منزله الذي يعيش فيه وحيداً منذ وفاة زوجته الثالثة قبل أربع سنوات , جلس السيّد وجيه يحتسي كأساً من النبيذ بجوار الموقد , شاعراً بالغبطة كلّما استعاد تفاصيل جسد الآنسة جميلة , و يعتريه شيء من الغبن , فلا يتوانى عن لطم كفّيه ببعضهما آسفاً :
- كيف لم أنتبه لها قبل اليوم ؟ هل يكون ذلك من علائم الشيخوخة ؟
ثم يستدرك مبتسماً :
- لا يهم , يكفي أنني رأيت ذلك قبل أن أفقدها , عندئذ كان الندم سيقتلني .
بدأ السيّد وجيه يشعر بالامتنان للأستاذ سمير , و صديقه اليهوديّ , و لكلّ النظريات الفلسفية , هو المعروف عنه خبرته الواسعة بالنساء , و علاقاته العاطفية المتشعبة , و التي لم تتوقف يوماً رغم تجاوزه الستين من العمر , لكنّه احتاج كلّ ذلك ليكتشف امرأة حقيقية تجاوره الكرسيّ منذ ستّ سنوات , فصار يتعجّل الوصول إلى جلسات الصّمت , و قد أدرك منذ اللحظة الأولى أنّ منافسه الوحيد – الأستاذ سمير – خارج اللعبة , فهو ما يزال شابّاً , قويّاً , عائداً مؤخّراً مع زوجة ألمانية شقراء , و لن يتاح له أن يلحظ مفاتن الآنسة جميلة الخاصّة جدّا , و التي لا يلحظها غير خبير بالنساء مثله , فراح يمضي جلسات الصّمت و هو يتأمّل كفّيها الساحرتين ذات الأصابع الدّقيقة , و عنقها الطّويل الممتلئ , الذي ينضح شهوة إذا ما أضاف إليه امتلاء جميل في الخدّين , و نعومة , و دقّة في شكل الأذنين , حتى قرّر أخيراً أنّ هذه المفاتن مجتمعة تكفي لتغطية عيوب الوجه , الذي لم يعد يراه قبيحاً .


الكف .

اعتاد الأستاذ سمير أن يبدأ جلسات النقاش بشرح مستفيض لفضائل الصّمت , متجاهلاً المتاهة التي أوقع نفسه فيها , حيث تحوّلت القضايا التي رآها شائكة في البداية , إلى قضايا معقّدة لا قدرة له على حلّ طلاسمها , و بدأت ملامح الانقسام الذي رآه واضحاً في السّابق تتموّه بشكل يثير الدّهشة , فالسيّد شريف يستهلك الجلسات بالصراخ , محاولاً فرض اقتراحات لم يعد السيّد وجيه يبذل أيّ جهد لتأييده فيها , بينما راح السيّد سميح , و السيّد ساهر يحصدان ثمرة ذلك بخبث طالما عرفا به , أمّا الآنسة جميلة فقد التزمت الصّمت في كلّ الجلسات , غير معنيّة بكلّ ما يدور حولها , مكتفية بمراقبة السّاعة , بانتظار حلول الخامسة مساءً , موعدها الذي أصبح يوميّاً مع السيّد وجيه في منزله الجميل .
لم يجد السيّد وجيه عناءً باستمالة الآنسة جميلة , بعد الخيبة التي ألحقها بها الأستاذ سمير , و تأكّد بعد ليلة الحبّ الأولى التي أمضياها معاً , أنّ غباء الجمال يحكم الرجال , فيحرمهم لذّات يتوقون دوماً لاستشعارها , فبات يشعر بالفخر لأنّ ذلك لم يفته , وراح يجاهر به لحليفه - السيّد شريف - , فيرفع كفّه مفرودة الأصابع أمامه , مرّة ليبلغه بموعده مع الآنسة جميلة , و مرّة ليخبره بعدد الأيام التي أمضياها معاً , و في المرّة الأخيرة , حين غمز بعينيه مشيراً إليها , أراد أن يبلغ حليفه أنّه تمكّن من مضاجعتها خمس مرّات في يوم واحد .
كان السيّد وجيه يشعر بالفخر كلّما رفع كفّه أمام حليفه , بينما تتورّد وجنتا الآنسة جميلة خجلاً و هي تلحظ ذلك خلسة , أمّا السيّد شريف فقد بات قلقاً , متوتّراً , خائفاً , يشعر بالاختناق كلّما رأى كفّ السيّد وجيه مرفوعة أمامه .

السيّد شريف .

لم يكن يخطر ببال السيّد شريف , الذي احتفل بعيده الثالث و الخمسين قبل شهر واحد , أنّه سيضطر بعد كلّ تلك السّنين إلى استخدام سلاح حربيّ , و بما أنّه لم يمتلك يوماً سلاحاً كهذا , فقد طلب مساعدة من قريب له في الجيش , يعمل أميناً لمستودع أسلحة , فاستجاب الأخير له بكلّ سرور , هو الذي كان ينتظر مناسبة كهذه يعبّر فيها عن امتنانه لما أغرقه به السيّد شريف من خدمات طيلة سنوات وظيفته , و في اليوم التالي أحضر له سلاحاً جديداً , قدّمه إليه بسعادة :
- سلاح حربيّ ممتاز , لم يستعمل مطلقاً , و لا تقلق لذلك , فأنا متأكّد أنّه لن يستعمل يوماً للغرض الذي جيء به من أجله , لقد نظّفته , و هيأته لك , أعلم أنّك جاهل بذلك .
شكر شريف قريبه , غير مستغرب سرعة تلبيته لطلبه , لمعرفته المسبقة بعدد الأسلحة التي كان قريبه يبيعها سرّاً خارج حدود عمله .
أخذ شريف المسدّس , مع عبوة صغيرة تحتوي خمسة و عشرين رصاصة , تخلّص منها حال عودته إلى البيت , محتفظاً برصاصة واحدة داخل المسدّس , إذ أدرك أنّ قتل السيّد وجيه يجب أن يتمّ بمحاولة واحدة ناجحة , و في حال الفشل بذلك فلن يترك لنفسه متّسعاً يقتل فيه شخصاً لا يرغب بقتله .
استلقى شريف على السّرير مغمضاً عينيه , و هو يداعب المسدّس بكفيه , و في مخيلته ترتسم كفّ السيّد وجيه الذي اعتاد مؤخّراً رفعها أمامه مفرودة الأصابع , مذكّراً إيّاه بالملايين الخمسة التي اتفقا على اختلاسها , و عاد إليه صوت السيّد وجيه حين دنا منه قبل يومين , مبتسماً , و همس في أذنه :
- غداً سأتحرّر من الرقم خمسة , لقد بات يحكم كلّ ما أقوم به يا رجل .
قال ذلك و هو يغمز بعينيه مشيراً إلى الآنسة جميلة , التي احمرّت وجنتاها مجدّداً , ليدرك السيّد شريف أنّها باتت حليفة السيّد وجيه , و شريكته في صفقة الملايين الخمسة , و أنّه خسر بذلك حليفه الوحيد الذي يعلم خفاياه , و يستطيع أن يفقده وظيفته , و ثروته التي جمعها على مدى سنوات من عملهما غير المشروع .
ارتجفت أصابع شريف حين استعاد كلّ ذلك , فضغط بكفّيه على المسدّس الرّاقد على صدره , و قد حسم أمره , و كادت ابتسامة الفوز ترتسم على شفتيه عدّة مرّات قبل أن يغفو .

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

البرتو مانغويل يورّط القارئ في عشق التفاصيل

23-تموز-2016

سيد درويش... عبقري الموسيقى العربية

25-آب-2015

قصة / منشور سرّي

25-كانون الثاني-2011

قصة / الصّمت

01-نيسان-2007

قصة / المحطّة

15-شباط-2007

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow