Alef Logo
ابداعات
              

قصة / منشور سرّي

رامي الطويل

خاص ألف

2011-01-25

لن ينسى فريد الاستيقاظة المميزة في ذلك الربيع البعيد, حين تناهى إلى سمعه هدير طائرة الهيلوكبتر و هو يقترب رويدا رويدا, فتح عينيه السوداوين على اتساعهما ليزداد بريقهما ألقاً و هما تلمحان السماء مزدانة بألوان زاهية متعددة, و كأنها تمطر شلالات من ألوان قوس قزح, قفز من السرير فرحا, و تشبث بحديد النافذة مطلقا نظره نحو السماء ليتبين كمّاً هائلاً من القصاصات الورقية ترفرف في سماء المدينة, بعد أن رمتها طائرة الهيلوكبتر, المستمرة بطوافها الذبابيِّ على شكل دوائر تتسع, و تضيق حسب مشيئة الطيّار.
أحسّ فريد بقلبه الصغير يخفق فرحاً, و هو يرقب تلك الغيوم الملوّنة تدنو من الأرض, و يسمع صيحات رفاقه في الشّارع يركضون مهللين, ولم يدرِ إلّا وقد وجد نفسه بينهم, يركض حافياً مثلهم, يهلّل, و يصيح بصوتٍ ملئهُ الفرح, غير مكترثٍ بنثرات الزّجاج, و الحصى الصغيرة التي تخز قدميه الطريّتين.
حين بدأت أولى القصاصات تصل إلى متناول أيدي الأطفال بدأ السباق الفعليِّ للحصول على أكبر عدد ممكن منها.
امتدت الأيدي الصغيرة نحو السماء تحاول التقاط القصاصات قبل أن تصل إلى الأرض, كانت الألوان كثيرة, و زاهية, لكنّ فريد أحسّ بانجذاب فطريٍّ نحو اللون الأزرق, فراح يسعى وراء القصاصات الزرقاء أينما حملها الهواء, و أينما سقطت, وكأنه يجمع قطعاً صغيرة من السماء.
بعد دقائق قليلة كانت جيوب فريد مليئة بعشرات القصاصات الزرقاء مشوبةً بعدد قليل من ألوان أخرى, كالأحمر, و الأصفر.
- انظروا هناك
صاح أحد الأولاد مشيراً إلى الطائرة التي كانت تحلِّق في هذه اللحظة على علوٍّ منخفض يسمح للأولاد برؤية شخصٍ يقف ببابها, فارتفعت الصيحات, و امتدت الأيدي ملوّحة للطائرة, و مطالبةَ بمزيد من الألوان, استجابت الطائرة لنداء الأولاد, و لكن لم يخرج منها غيوم ملوّنة هذه المرّة, و إنّما عدد كبير من مظلّاتٍ صغيرةٍ تحمل كلٌّ منها في نهايتها ما يشبه صرّة العيد, ارتفع الهتاف مجدداً, و حثَّ الأولاد خطاهم الحافية خلف المظلات التي راح الهواء يحملها بعيدا.
لم ينتبه الأولاد إلى أنّهم اجتازوا حيّهم, و باتوا يركضون مع عشرات الأولاد من الأحياء الأخرى بأيديهم الممدودة نحو السماء ساعيةً للحصول على صرَّةٍ قد تحمل الفرح في طيّاتها.
استطاع فريد أخيراً الفوز بصرّةٍ كبيرة نسبياً بعد أن علقت إحدى المظلّات بعمود الكهرباء, و لم يتجرأ سواه على تسلّق العمود, و الحصول عليها.
على سطح البيت, في الركن المخصّص لألعابه السريَّة جلس فريد سعيداً مع زهرة – ابنة الجيران التي تصغره بسنتين, و التي قرّر قبل بضعة أيّام و هو على وشك أن يغفو أنّه سيتزوجها عندما يكبر- , كانت زهرة حزينةً لأنّها لم تستطع الحصول على أكثر من قصاصتين واحدة حمراء, و أخرى صفراء, فقام فريد بانتقاء كلّ الألوان التي تسلّلت إلى الأزرق الذي سكن جيوبه, و قدّمها إلى زهرة التي ضحكت عيناها بامتنان, ما دفع فريد إلى التجاسر أكثر, و تقديم بعض بطاقاته الزرقاء إليها, مستمتعاً بضحكة عينيها التي ازدادت ألقاً, و من ثمّ قام بحلِّ الصرّة, و إخراج ما فيها من قطع الحلوى, و تقاسمها مع زهرة, و أمضى ساعتين من الوقت يستمتع بطعم الحلوى ممزوجا بالضحكات المتواصلة لزهرة.
في البيت قام فريد بترتيب بطاقاته الزرقاء بشكلٍ أنيق, و أثناء ذلك قرأ بعض ما كتب عليها من عباراتٍ بدت غامضةً بالنسبة له ( الحكومة تهنئ جماهير شعبنا في هذا اليوم العظيم ) ( العيد الذهبي وكل عام و أنتم بخير ) ( معاً نحو مزيد من التطوّر و التقدم برعاية حزبنا المجيد )....., لم يكترث فريد لتلك العبارات, و كان ما يشغله هو بعض البطاقات التي تعرّضت إلى أضرار طفيفة جرّاء بقائها في جيوبه لفترة طويلة, فقام بتسويتها, و وضعها داخل كتاب القراءة السّميك علّها تستعيد رونقها.
في المدرسة هلّل فريد مع رفاقه حين أعلن المدرّس أنّه يوم للاحتفال بالذكرى المجيدة لميلاد الحزب, و أنّه لا دروس هذا اليوم.
نزل الأولاد إلى باحة المدرسة, يرقصون, و يهللون على أنغام الأناشيد الوطنية التي تبثها مكبرات الصوت عبر الإذاعة المدرسية, و من ثمّ استمعوا إلى مدرسيهم وهم يلقون الخطابات الاحتفالية, و يسردون وقائع المسيرة التاريخيّة لحزبهم الذي استطاع بعد نضالٍ طويلٍ, و مريرٍ أن يصل إلى سدّة الحكم, و يقود البلاد بحرصٍ كبيرٍ نحو التّقدم, والتّطور, و الازدهار, ويؤسّس لمستقبلٍ مشرق لأطفال هذه الأمّة.
صفّق فريد مطوّلا مع رفاقه, و هتف بعبارات لا يعرف معناها, لكنه جاهد ليكون صوته مسموعاً, و أحسّ سعادةً عارمة تجتاحه حين اختاره مدير المدرسة مع بعض رفاقه لتأدية الأناشيد الوطنية - التي يحفظونها جيدا – على المنبر, أمام ذلك الحشد الكبير, و باستخدام جهاز مايكرفون لطالما دغدغ أحلام فريد, و رغب أن يجرب صوته عبره.
أنشد بمتعة, و جاهد ليعلو صوته فوق أصوات رفاقه, و هو يحاول أن يسترق السمع في الآن ذاته ليعرف ماهية صوته الصادر عن المكبرات الموّزعة في كلّ أركان المدرسة.
لم يشعر فريد بالتعب ذلك اليوم, رغم البحّة التي أصابت صوته بعد أن استهلك طاقة حباله كلّها في الإنشاد أمام المايكرفون, و كانت المفاجأة الكبرى حين لم يطلب إليه والده أن يأوي إلى الفراش في الساعة الثامنة كما هي العادة, و إنّما جمعه مع إخوته الثلاثة, و طلب إليهم الجلوس أمام التلفاز لمتابعة تمثيلية السهرة.
إذاً هو يوم استثنائيّ بكلّ تفاصيله, فها هو فريد يجلس أمام التلفاز لمتابعة سهرة تلفزيونية لطالما حلم أن يسمح له بمتابعتها.
حين انتهت المذيعة من تقديم السهرة - بعد أن أعلنت أنّها تبثُّ احتفالاً بالذكرى الخمسين لميلاد الحزب العظيم – اختفت الألوان من شاشة التلفاز, و تحوّلت إلى اللونين الأسود, و الأبيض, و كأنّ زمناً آخر فرض نفسه في هذه اللحظة على واقع بدا مزداناً بالألوان المشرقة منذ الصباح.
بعد لحظات من بدء السهرة شعر فريد بانجذابٍ غريب نحو البطل, ذلك الشاب الأسمر بلحيته الشعثاء, وصوته الأجشّ, و حقيبته المعدنية التي حملها معه وهو يدخل القرية كمدرّس لأطفالها, كما شعر بالحزن لوجود فتاة جميلة في القرية مصابة بالخرس, أخذت أصابع فريد تمتدّ إلى حنجرته بشكل لا إراديّ كلّما أطلت الفتاة الخرساء على الشاشة, فيتحسّس حنجرته, ثمّ يطلق بعض الهمهمات الغريبة ليتأكد من أنّه لم يفقد صوته المبحوح.
ازداد تعلّق فريد ببطل السهرة, و هو يراه يصارع الإقطاع, و يقاتل الظَلمة, و يدافع عن فقراء القرية, ويتلو عليهم حقوقهم بالحصول على حياة كريمة بعيدا عن الذلّ, و المهانة, راح فريد مع تقدم الوقت يمارس لعبته المحبّبة بأن يتابع الأحداث, و هو يتخيل أنّه البطل, و يجهد مخيلته في محاولات لتركيب صورة وجهه الصغير- الذي يعرفه جيداً في المرآة – مكان وجه البطل الذي أسره بطيبته, و شهامته, رغم ملامحه المبالغ بقسوتها.
أثناء المتابعة أدرك فريد أنّ والده قد سبق له أن شاهد هذه السهرة عشرات المرّات قبل الآن, فهو يسرد لزوجته في كلّ لحظة ما سيحدث بعد قليل, و قد أفسد على ولده انسجامه مع إحدى الذروات الدرامية, حين قام البطل بالدفاع عن الفتاة الخرساء من ظلم شديد وقع عليها, ليأتيه بعد ذلك صوت والده آمراً:
- أدر وجهك إلى الحائط.
انصاع فريد لأمر والده, لكنّه لم يستطع الحفاظ على وضعيته, فقد أحسّ بأنّ شيئاً هامّا سيفوته في هذه اللحظة, فالفتاة الخرساء جاءت لزيارة البطل في غرفته التي يعيش فيها وحيدا.
عبر زاوية نظر حادة استطاع فريد التأكّد أنّ والده انشغل بالمتابعة و نسي أمره, فاسترق النظر إلى التلفاز ليجد الفتاة الخرساء تقف مبتسمة أمام البطل الذي يحدّق بها باستغراب, و من ثمّ تبدأ بخلع ملابسها, لتزحف الكاميرا بهدوء شديد و تستقرّ عند ساقيها العاريتين, و قد تكوّم ثوبها بين قدميها, شعر فريد بانتعاظ شيئه بين فخذيه في هذه اللحظة, و بات يسمع صوت أنفاسه كضجيج صاخب, وخشي أن يكون والده قد لاحظ شيئا مما يحدث, لكن البطل لم يخذل فريد هذه المرة فقد أنقذه من ورطته بأن دنا من الفتاة الخرساء بهدوء, و قام بتغطية جسدها العاري, تنهد فريد ممتنا, قبل أن يأتيه صوت والده كصفعة قويّة في هذه اللحظة ليوقظه من نشوته الصغيرة :
- تابع الآن.
استدار فريد, و عاد للمتابعة, ولكن دون تركيز هذه المرّة, فالساقين العاريتين للفتاة الخرساء ظلّتا تضيئان الشاشة أمامه رغم كلّ ما يدور من أحداث, إلى أن وصل رجال الاستخبارات إلى القرية باحثين عن البطل, واصفين إيّاه بالمخرّب, و الخارج عن القانون, و المهدّد لأمن البلاد, و استقرارها, عندها شعر فريد بحماس زائد و هو ينتظر من البطل أن يجسّد مفهوم البطولة الحقيقية, ويلقّن رجال الاستخبارات درسا حول أهمية الحريّة, و حق البشر بالعيش الكريم, كما كان يردد أمام الإقطاع, و أمام أهل القرية, لكن ذلك لم يحدث, ففي اللحظة التي اقتحم فيها رجال الاستخبارات غرفة البطل أردوه أرضاً, و بدأوا بضربه, و تعذيبه, و رفسه بأحذيتهم العسكرية, بينما فريد يغلق عينيه المغشيتين بالدموع , و يعتمل الصراخ في جوفه.. ( انهض و اضربهم, لا تستكن لهم, أنت البطل ), لكن البطل خذله هذه المرّة, و انتهى به الأمر مرميّاً على الأرض مضرّجاً بدمائه, وقام أحد العناصر بكسر قفل حقيبته المعدنية, و فتحها ليظهر داخلها عدد كبير من الصحف, و على رأسها ما كان يبحث عنه رجال الاستخبارات, صحيفة كتب عليها بخطّ عريض( البعث – العدد الأول ).
انتهت السهرة في هذه اللحظة, و عادت الألوان الزاهية إلى شاشة التلفاز, وبدأ بثّ متواصل للأناشيد الوطنية, الأناشيد ذاتها التي ردّدها اليوم فريد في المدرسة حتى بحّ صوته.
لم يستطع فريد النوم تلك الليلة, كان مسكوناً بهاجس البطل الذي أسره على مدى ساعة من الزمن, و خذله في اللحظات الأخيرة, أمضى ليلته و هو يستعيد تفاصيل ما حدث, و يهمهم بين لحظة و أخرى..( كان عليك أن تضربهم, أنت الأقوى ), و عندما تعود إلى ذاكرته تلكم الساقين العاريتين بكلّ بياضهما الحليبيّ كان فريد يتنهّد, و يتمتم ( لو كنت مكانك لما غطّيت ذلك الجسد العاري, الجميل ).
مع انبلاج الفجر دخل فريد بالنوم, دون أن تحفظ ذاكرته من ألوان ذلك اليوم غير البياض الحليبيّ لساقين عاريتين في شاشة التلفاز.
في اليوم التالي غادر فريد المدرسة بعد يوم دراسيّ طويل, فمظاهر الاحتفال, و الابتهاج انتهت, و عاد المدرسون إلى سحناتهم الجديّة, الصارمة.
في طريقه إلى البيت توقّف فريد أمام المكتبة, تردّد طويلا بعد أن أخرج النقود من جيبه, تلفّت حوله مرارا قبل أن يجرؤ على دخول المكتبة, و الوقوف مرتبكاً أمام البائع الكهل, الذي زاد من وطأة الموقف حين سأله بنبرة جافّة:
- ماذا تريد؟
ضغط فريد كفّيه المقبوضتين, المتعرقتين, و أجاب بصوت مرتجف:
- جريدة البعث
ابتسم البائع عندئذ, و اتّضحت أسنانه الصفراء, ثمّ قدّم الصحيفة لفريد, الذي دفع النقود, و غادر المكتبة بسرعة, و عند ناصية الشّارع توقّف ليرقب الطريق, و حين تأكّد من خلوّه دسّ الصحيفة داخل ملابسه المدرسية, و ركض مبتعدا بسرعة كبيرة.
قطع فريد المسافة إلى بيته راكضاً, و دون تردّد صعد السلالم بسرعة, ليصل إلى السطح, و ينزوي في الركن المخصّص لألعابه السريّة, و هناك جلس يقرأ الصحيفة بنهم شديد, و حين انتهى من ذلك أحضر صندوقا معدنياً صدئاً كانت جدّته قد تخلّت عنه منذ زمن بعيد, أخفى فريد الصحيفة داخل الصندوق بعد أن اخترع له قفل لا يمكن لغيره أن يفتحه, و نزل عن السطح منتشياً بشعور غريبٍ بالانتصار.
منذ ذلك اليوم أدمن فريد زيارة المكتبة كلّ يوم, ولم يعد بحاجة لأن يطلب الصحيفة من البائع, الذي بات يبتسم مكشّراً عن أسنانه الصفراء لدى رؤيته لفريد, و يقدّم له الصحيفة مباشرة, فيدسّها فريد تحت ملابسه, و يعدو راكضاً إلى السطح, ليقرأها, و يتجسّس عبرها على أخبار رئيس الجمهورية ( الأمين العام للحزب ) , و يعرف تفاصيل تحركاته, و مخطّطاته لتطوير البلاد, و الدفاع عنها, و الذود عن كرامتها, ثمّ يدفن الصحيفة في صندوقه الذي بات يحتوي مئات الأعداد منها, و يعود إلى ألعابه اليوميّة, دون أن يتخلّى للحظة واحدة عن حذره, و خوفه الدائم, و انتظاره اللحظة التي سيقتحم فيها رجال الاستخبارات منزله, و يحطّمون صندوقه, و يضربونه متّهمين إيّاه بالتخريب, والخروج عن القانون, وتهديده لأمن البلاد, و استقرارها.
رامي طويل
[email protected]

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

البرتو مانغويل يورّط القارئ في عشق التفاصيل

23-تموز-2016

سيد درويش... عبقري الموسيقى العربية

25-آب-2015

قصة / منشور سرّي

25-كانون الثاني-2011

قصة / الصّمت

01-نيسان-2007

قصة / المحطّة

15-شباط-2007

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow