إنْ كان الموت حقًا أم باطلًا، فإنّ رحيل طيب تيزيني يُثير الحزن بشدّة، كما أثاره قبل فترة رحيل صادق جلال العظم، لأنّ غياب هذين العلمين يثير فينا، نحن الذين ما زلنا أحياء، مشاعر اليُتم، لا لأن الحياة أصيبت بالعقم جرّاء غيابهما، بل لكونهما مثَّلا، إلى جانب كبار المفكّرين السوريين، عبد الكريم اليافي، عادل العوّا، أسعد عربي درقاوي، نايف بللوز… بُؤر طاقات فكريّة روحيّة تساعدنا على أن نستمر في الحياة وأن نأمل، في خضمّ محيط استبدادٍ بالغ العُسف، يسعى محمومًا لإنجاز ما كُلّف به؛ تحويل سورية إلى مزرعةٍ تضمُّ قطعانًا من ذعر.
لا بدَّ لكلُّ مَنْ عرف تيزيني عن قرب أن يلمس بوضوح كم كان طيّبًا، وكم كان صادقًا في تواضعه على غرار العلماء، وكم كانت لهجته الحمصية ودودة، تُقرّب سامعَها إليه، وكم كان مصغيًا -لا مستمعًا فحسب- إلى الرأي الآخر، إصغاءً يكاد يُربك المتحدّث لشدة نقائه من أيّ تكلُّفٍ، وكم كان مُحاورًا لا اتّكاءً على منظومته الفكريّة الفلسفيّة، بل على لبّ موضوع الحوار.
ولقد كان لي شرف مصادقته منذ سنتي الأولى في قسم الدراسات الفلسفيّة والاجتماعيّة في جامعة دمشق، وتواصلت لقاءاتُنا في بيته والجامعة، بصحبة صديقيَّ التاريخيين علي الكردي وأمجد كلاّس، يوم كنّا في ذروة تجربة انخراطنا في رابطة العمل الشيوعي، ونلتقي به لندخل في حوارات عن بنية مجتمعنا، وتركيبة السلطة الحاكمة، وآفاق العمل السياسي لمناهضة الاستبداد، وتجربة السجون التي خضناها في الثمانينيات والتسعينيات، وإمكانيات التغيير مستقبلًا.
في مرّة، وكنتُ مع صديقيَّ في بيته، رنَّ الهاتف، فاستأذن وردَّ، ثمّ دار حديثٌ طويل -بدا لنا من صوت تيزيني رسميًّا- فيه الكثير من الأخذ والردّ وبعض الانزعاج، والكثير من الرفض الحازم ولكنْ بلباقة. وفيما استمرَّت المكالمة، رحنا نتبادل النظرات الاستفهاميّة، مستشعرين باستثنائيّة ما يدور، إلى أن انتهتْ، فاغلق السمّاعة وراح يزفر زفرات غضب واضحة، وكان لا بدَّ أن نسأل لنطمئن، فعلمنا أن المكالمة من القيادة القطريّة تطلب منه إنجاز دراسةٍ عن فكر وشخصيّة حافظ الأسد، وحين أعلمهم برفضه القاطع، لم يتوانوا في التلميح له بمخاطر ذلك، فما كان منه -بكل هدوء ورسوخ- إلاَّ أن أكّد موقفه لهم، وانتهت المكالمة.
حين قامت الثورة في سورية، كان تيزيني من أوائل مَنْ خرجوا للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين، وتمّ اعتقاله آنذاك. كما كنّا معًا، برفقة شوقي بغدادي وعبد القادر حصني وآخرين، للمشاركة في مجلس العزاء المُقام لشهداء العديد من الأُسر، حيث تحوّلت ساحة برزة البلد إلى أمواج من هتافات تنادي بإسقاط النظام، وحينها طُلب من الطيب تيزيني أن يلقي كلمة أمام جموع الحاضرين الهائلة، ففعل بحميّة الشباب، وبُعد رؤية المفكّر. ثمَّ لاحقه التضييق والوعيد من دون أن ينال من مواقفه ونشاطاته.
في شخصيّة هذا الرجل المفكّر، إلى طيبة روحه المعروفة عنه، تواضعٌ صميم، وحميميّة في صداقته للآخرين، ومتابعة حثيثة لكل الأنشطة السياسيّة والتّجمّعات، وانخراط مستمر في مختلف تعبيرات الشأن العام، فضلًا عن تحويل محاضراته الجامعيّة إلى ندوات وملتقيات ثقافية فكرية، يحتشد لها العديد جدًا من الحضور من خارج الجامعة؛ وهذ ما جرَّ عليه المضايقات الأمنيّة وتهديدات رجال المخابرات ومختلف أشكال التضييق.
وقفتي هذي لا تعدو كلمة عرفانٍ لأحد أساتذتي الأجلّاء، ووداعٍ لآخر الراحلين من كوكبتهم. أمّا عن المنظومة الفكريّة الفلسفيّة لهذه القامة، وعن الدور التنويري الكبير الذي قام به طوال حياته؛ فهو شأن أصحاب الاختصاص في هذا الميدان، الأجدر بالدراسة والبحث والتحليل.
في النهاية، أودُّ أن أتساءل، مجرَّد تساؤل فقط؛ عمَّنْ هم الغرباء الأعداء الحقيقيّون من خلال صورتين لوجه هذا المفكّر السوريّ الكبير: إحدى الصورتين لوجهه حين زُفَّ إليه خبر قيام مؤسسة كونكورديا الفلسفيّة الألمانيّة الفرنسيّة العام 1988 باختياره كأحد أهم 100 فيلسوف في العالم؛ والأخرى لوجهه -أيضًا- حين استحضر ذهنه ذكرى المئات من أبناء بلده الذين قُتلوا لمجرّد مطالبتهم بالحريّة؟
أودُّ أنْ أتساءل، وأنا واحد من ملايين، يشهدون الآن كيف “ينغلق بابٌ من أبواب حمص، وتهوي شرفة من شرفات سوريّة، ويمضي عنّا مَنْ لا يمكن للموت أن يُغيّبه”.
أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...