Alef Logo
ابداعات
              

قصة / ملاك برتبة رجل امن

جلاديس مطر

2007-04-01

خاص ألف
في تمامِ الرابعةِ صباحاً فتحتُ عينيَّ فوجدتُ برزخا طويلا نورانيا ممتدا امامي من السريرِ إلى ما لا اعرفُ نهايتَهُ . نهضتُ و انا مازلتُ مكاني فتحوّلتِ الغرفةُ كلُّها إلى بوابةٍ لهذا البرزخِ، فعرفتُ ان لا مجالَ إلى الخروجِ أو الذهابِ إلى أي مكانٍ إلا عبرَهُ ..فقررتُ الدخولَ بالقلنسوةِ الصوفيةِِ و بقايا الدهشةِ و النومِ و التيه ...
و كمن يرى شريطاً سينمائيا لاليس في بلادِ العجائبِ ..هكذا خلتُ نفسيَ و انا امشي متهاديةً على ارضٍ لينةٍ كالاسفنجِ بينما بؤرةُ الضوءِ في نهايةِ النفقِ تتلألأُ و كأنها تُغري بألفِ مغارةٍ من مغاراتِ علي بابا و بكنوزِ كلِ قراصنةِ الدنيا و بآلافِ من اكياسِ الدراهمِ في العصورِ العربيةِ التي تميّزتْ بالبحبوحةِ و بناءِ دورِ العبادةِ .. و تقدمتُ

في هذا البرزخِ بخفٍ مصنوعٍ في أحدِ معاملِنا الحديثةِ و بثيابِ النومِ التي غُسِلت مراتٍ كثيرةٍ
بمسحوقٍ ابي محليٍّ و بحيرةٍ أثريةٍ صنعتْ في سوريا .. لكن ذاكرتي المثقلةَ بدبيبِ وحشرجاتِ
الحياةِ اليوميةِ امكنَ لها اخيرا ان تعرفَ السكينةَ في هدأةِ هذا البرزخِ الطويلِ الممتدِ ...
و ظننتُ ان التقدمَ و المشيَ إلى الامامِ على غيرِ هدى هو القدرُ المنتظرُ .. غير ان الشاخصاتِ التي بدأت تلوحُ لي هنا و هناكَ اخذتْ تدلني شيئا فشيئاً على وجهةِ هذه الرحلةِ التي لا تخطِرُ على بالْ ..
و فجأةً لاحت لي شاخصتان كبيرتان كُتبَ على كل منهما " الجنةُ " و " النارُ " . الغريبُ ان كلتا الشاخصتينِ كانتا تشيرانِ إلى المكانِ نفسه ..ففكرت : " احسنْ !..فهذا يُسهّلُ المهمة . فمن أنا لكي اقررَ بأي اتجاهٍ يجبُ ان اسلكَ ..فانا لم اقررْ هذا مرةً واحدة في حياتي على هذه الأرض ..و يبدو ان الخالقَ عرفَ بأزمتي فهوّنَ علي الأمرَ أيضاً فوقْ .." و ما ان تقدمت خطوتين في ذاك الاتجاه حتى وجدتُ باباً كبيراً تُُشيرُ اليه الشاخصتانْ فدلفتُ منه ، فانغلقَ دوني و بقيتُ في الداخلْ .
وهناك تطلعتُ حولي و فوقي و تحتي فلم اجدْ ارضيةً اسفنجيةً لينةً و لا نفقا و لا أضواء متلألئة أو أي شيء من هذا و إنما المكان هو غرفة فسيحة رحبة ُفرشُت أرضها برخام المكاتبِ العصريةِ بينما كان هناكَ مكتبٌ ضخمٌ شديدُ الاناقةِ عليهِ كومبيوترٌ لم ترَ مثله عيناي من قبل ، على حين تناثرتِ الاضاءةُ بشكلٍ فنيٍ يخلبُ اللبَّ . و بقيتُ للحظاتٍ و انا في ثيابِ النومِ صامتةً و مذهولةً اتطلعُ حولي إلى ان دخلَ – يا للغرابةِ – ملاكٌ – عرفته من جناحيه - ببذةٍ عصريةٍ و ربطةِ عنقٍ . طلب مني الملاك الأنيق بكلِ لطفٍ ان اجلسَ على اريكةٍ احتفاليةِ الجمالِ امامهْ ثم أكمل و انا ما مازلتُ منذهلةً : لو سمحتِ الملف !
قلت : أيُّ ملفٍ !
قال : اقصدُ سيرَتكِ الذاتيه ..!
قلت : يا سيدي .. كما ترى اتيتُ بثيابِ النومِ و ليس لديَّ لا ملفٌ و لا املكُ سيرةً ذاتيه .
قال : نعم .. نعم .. البعضُ ياتي مثلكِ هكذا بثيابِ النومِ ..لا بأسَ.. لا بأسَ
ثم تطلعَ في الكومبيوترِ امامهُ و طرطقَ قليلاً على " الكي بورد " و قالَ :
بعد ثوانٍ سيكونُ ملفكِ بين يديَّ فاقررُ إلى اين تتجهينَ . فسقطَ قلبي في هوةٍ لا يعرفُ قرارها سوى الله و بدأ يقرعُ كطبلٍ اجوفٍ كبيرٍ . لكن الملاكَ الانيقَ عاجلني بقوله " دعيني اسالكِ بعضَ الأسئلةٍ التي يتوقفُ عليها أيضا تقديرُنا و دراستُنا لملفكِ و سيرتِكِ الذاتيةِ " ..فهدأتُ قليلا و قلتُ " تفضلْ " ، فمن ابرعُ منا في الاجابةِ على أي سؤالْ ..و ايجادِ الحلولَ لاي مشكلة !!...
قال : اين كنت تعيشينَ !
قلتُ : في البلد !
قال : و ماذا كانت مهنتكِ ؟!
قلتُ و انا خائفةٌ من ان يدفعهُ جوابي إلى ان " يفقعَ من الضحكِ " : كاتبة !
قال : حلو ..طيب ..هل كتبتِ في صحفٍ رسميةٍ ؟؟
هنا لم اعرفْ بماذا اجيبُ فخفتُ ان أنا قلتُ لا، ان اذهبَ إلى النارِ و ان قلت نعم ان اذهبَ أيضا إلى النارِ !! فسكتُّ ، فأعاد سؤالهُ مرةً ثانيةً فقلت : و الله لا اذكر! ..
قال : حسنا ..و كيف كنتِ تكسبينَ رزقِكِ؟ ..
فتطلعتُ في منامتي و خفيَّ المُحليّينِ ..ثم نظرتُ في عينيهِ و قلتُ : يعني .. من هون شوي .. و من هون شوي ..
فهزَّ راسهُ متاسفاً و قالَ و الدموعُ المحبوسةُ في عينيهِ بداتْ تتلألأُ : طيب ..هل شاركتِ في مؤتمراتٍ ..اجتماعاتٍ ..ورشٍ؟ ..!
استغربتُ سؤالَهُ فهذهِ الأسئلةُ لا يسألها ملاكٌ حقاً و إنما رجلُ امنٍ ..فلم اردْ .. فاعادَ علي السؤالَ بنبرةٍ اقوى فقلتُ :
و اللهِ العظيم لم اشاركْ بأي منها ...فهذهِ الامورُ للمحظيينَ من الكتابِ ممنْ يعرفونَ كيف يعقِدونَ الصداقاتِ و يندسونَ في الجنازاتِ و الاحتفالاتِ و يهزونَ قبضاتَهم بالتحيةِ هنا و هناكْ ..
قال : همممْ .. طيب ..و هل سافرتِ إلى بلدٍ آخر غير بلدك ..؟
قلتُ : نعم ..ذهبتُ مرةً واحدةً إلى القدسِ ...عندما كانت لنا ..في الخامسةِ و الستين ..هناك قصتْ والدتي اساوري الصغيرةِ و وضعتْها على قبرِ السيدِ المسيح ..
فرفعَ حاجبيهِ مستغربا و قال : فهمتُ ...طيب ..ما رايكِ بسياسةِ اميركا في الشرقِ الاوسط !
قلتُ مستغربة : و هل جوابي سوفَ يحددُ دخوليَ إلى احدِ هذينِ المكانينِ ..
فقال بحزمٍ و ثقةٍ : بالتاكيدْ ...
فقلت ُ: طوال عمري اكره اميركا و سياستها ! ..
فابتسمَ الملاكُ و قالَ : طيبْ و مارايكِ بالمقاومةِ في لبنانَ و فلسطينَ و العراقَ و الصومالَ و السودانَ ..
فكشفتُ له عن سلسلةٍ متدليةٍ من رقبتي كتب عليها كلمةُ مقاومةٍ .. فاتسعت ابتسامةُ الملاكِ ..ثم كرتْ سبحةُ الأسئلةِ التي انتهت بقدومِ ملفي و سيرتي الذاتيةِ من الطابعة ...
سحبَ الملاكُ الملفَ و اخذهُ بين يديهِ ووضعَ فوقهُ ورقةَ اجوبتي و بدا يقلبُ فيها و يعبسُ و يحكُّ راسهُ وقلبي يخفقُ و يتحركُ هبوطاً و صعُوداً ...و اخيراً رمى الاوراقَ من بينِ يديهِ و قالَ بنبرةٍ عاليةٍ مرحةٍ :
مبروك ..بوجهك ع الجنة !!
قامَ الملاك ولملمَ اوراقَ الملفِّ و دسّها تحتَ ابطهِ و مدَّ يدهُ و قالَ " شرفي " ثم مشى يتقدمني و الملفُ محبوسٌ تحت ابطهِ . أخذتُ الحقُ بهِ في ممراتٍ و مماشٍ طويلةٍ متعرجةٍ مطليةٍ بالابيضِ كممراتِ و مماشي المستشفياتْ على جانبيها ابوابٌ كبيرةٌ وردية مغلقةٌ و فوقَ الابوابِ عُلقتْ لوحاتٌ مستطيلةٌ كُتبَ عليها مختلفُ اسماءِ الجنسياتِ من اوروبيةٍ و صينيةٍ و هنديةٍ و عربيةٍ إلى ان وصلنا إلى باب طويل عريض ضخم أملس وردي اللون فوقفَ الملاكُ و تطلعَ بي مبتسماً و قالَ :
- هنا اترككِ و أنا مطمئنٌ ..فهذهِ جنتكم مفصلةٌ على مقاسِكم و على صورتِكم و مثالِكمْ ...ادخلي و لا تخافي هناك من سيتكفلُ بكِ و ستجدينَ الراحةَ الابدية .
و اخرجَ مفتاحاً طويلاً قديماً اثرياً و فتح البابَ و دخلتُ ..ثم أُغلقَ ورائي .
في الداخل عادت ضربات قلبي إلى القرع بشكل اقوى بينما تحولت عينايَ إلى رادارِ لا تهدأ حركته .
يا للمفاجأة ، لقد وجدتُ نفسيَ في اماكنَ اعرفُها معرفتي لنفسي و اشخاصاً طالما عشتُ و عملتُ معهمْ ... المنظماتِ و النقاباتِ نفسها و الترتيبِ الهيكليِّ للمؤسساتْ نفسه .. الكنائسِ و الجوامعِ و ملحقاتهما من حركاتٍ و جمعياتْ نفسها ...و الالقابِ و التسمياتِ والخططِ و الجرائدِ و المجلاتِ و الكلامِ و التصريحاتِ والاحاديثِ و النكاتِ و تكافؤ الفرصِ و التأففِ و الطوابيرِ الطويلةِ و القصيرةِ و تلك الشاشات التي تبثُّ حمامَ الهنا و ارضنا الخضراءَ و برامجَ الاسرةِ كلها نفسها ...نفسُ الانكسارِ في العيونِ و نفسُ الفرحِ العابرِ اثرَ نكاتٍ ساخنةٍ تُطلقُ هنا و هناكَ في الخفاءْ ..
فاستغربتُ و شعرتُ لوهلةٍ ان الملاكَ لربما فتحَ البابَ الاخرَ .. لا بابَ الجنةِ ..فتراجعتُ خطوتينِ إلى الوراءِ ...وأ مسكتُ مقبضه اريدُ فتحهُ غيرَ ان الحارسَ الموجودَ في " الكولبةِ " ..قال ان هذا البابَ لا يُفتحُ بعدَ ان يُغلقَ إلا للقادمينَ الجُددْ ..و هذه تعليماتٌ امنيةٌ مشددةٌ .. فقلتُ له : يا اخي .. انا متاكدةٌ انني اخطأتُ في العنوانِ ..فربما اختلط الأمر على الملاكُ بما ان الابوابُ كلها وردية .. فقال الحارسُ بنبرةِ الفاقدِ صبرَهُ : ايه فوتي خلصينا احسن من هيك محل ما في !
فاعدتُ توسلي و قلتُ : ارجوكَ ..افتحْ لي فقط شقاً قليلاً ..و سأنادي أنا على الملاكْ ..
فقالَ ضاحكا : أيُّ ملاك ...؟!!
قلتُ : ذلكَ الذي ادخلني إلى هنا و ملفي معهُ وهو الذي قررَ ان اكونَ في الجنة ..
فغرقَ الحارسُ بضحكةٍ طويلةٍ مجلجلةٍ و قال : اي فوتي فوتي ...هاد لا ملاك و لا شي ..!
فقلتُ و انا اكاد افقد عقلي : من هو اذا ...من هو اذا !!
فقال بهدوءٍ بعد ان جلسَ على كرسي الكولبةِ الخيزرانِ و غلاية الشاي امامهُ : هذا هو وزيرُ الاحلامِ و منسقُها على المدى الطويلِ و واضعُ خططِها الخمسيةِ و العشريةِ كمان..انهُ مبرمجُها و مُدوزنُها و ملحنِّها و هو كاتبُ كلماتِها و الاشعارِ .. انه الحلمُ بذاتهِ .. حلمُكِ و حلمي و احلامُ كل من ستعثرينَ عليهم في هذه الجنةِ ...
و تطلعتُ حولي و رأيتُ كل شيء مستنسخاً بدقةٍ مذهلةٍ مع فارقِ ان هذهِ الجنةُ المصنَّعةِ و المركبَةِ ليس فيها من منفذٍ يطل لا على الشرقِ و لا على الغربِ ..و ان كلَّ هذه الحدائقِ المتراميةِ و تلكَ الانهارِ التي يهدرُ ماؤها هنا و هناكَ ليست سوى لوحاتٍ جداريةٍ هائلةٍ و ان الناسَ تعيدُ كلماتِها كما يفعلُ الممثلونَ السيئونَ في مسلسلاتنا المحلية ...
وأسقط من يدي ..و شعرتُ بالحصارِ التامِ و الاختناقِ و بدا وجهُ الحارسِ ذو الشواربِ الكثةِ و سترةِ الجلدِ السوداءِ كسدٍ منيعٍ لا قدرةَ لي على تسلقهِ ..و البابُ الورديُ الكبيرُ كسورِ الصينِ الاسطوريِّ ..و حركةُ هذه الجنةِ الافتراضيةِ المفتعلةِ حولي كمن أُجبِرَ على سماعِ اغنيةٍ شعبيةٍ هابطةٍ في سوقِ الجمعةِ ..و استدرتُ بقوةٍ استثنائيةٍ يائسةٍ واخذتُ اضربُ الهواءَ حولي بيدينِ كانهما صنعتا من قشٍّ هشٍّ ...
وفتحتُ عينيَّ وأنا الهثُ بينما والدتي بالقربِ مني تقولُ : هذه الكوابيسُ ستقضي عليكِ! ..انهضي و اغسلي وجهَكِ و ابحثي عن طبيبٍ ليريحكِ منها .


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الشاعر محمد مظلوم وما لم يدون عن شعراء الثمانينات العراقيين

07-كانون الأول-2007

رسالة طالب لاهوت عراقي إلى حبيبته المسلمة

04-أيلول-2007

نص / ألأني سورية ..!!

13-أيار-2007

قصة / ملاك برتبة رجل امن

01-نيسان-2007

رسالة اعتذار

13-شباط-2007

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow