Alef Logo
ابداعات
              

قراءات في كتب صادرة حديثا

سامح كعوش

2007-10-06



قراءة في نصوص 'أرملة قاطع طريق' لميسون صقر
خطاب الآخر من آخرهِ، من لحظة موته
قراءة في مجموعة "أرض معزولة بالنوم" لناظم السيد
يسمي البحر بالبحر ويعطيه زمانه الأزرق
قراءة في مجموعة "الطرف الآخر من العتمة" لهويدا عطا
شاعرة العتمة كي تضيء، وتشرق كشمسٍ في قصيدتها الخائفة

قراءة في نصوص 'أرملة قاطع طريق' لميسون صقر
خطاب الآخر من آخرهِ، من لحظة موته

هل صحيح أن كتابة السيدة سيدة الكتابة؟، أم هو وهم الشعر الباحث عن جوهر تحققه في مفردات لا تتضح صحة دلالتها على المخفي من الشعور إلا بمدى ارتباطها بالأنا الأنثوية الشفافة التي
تلامس الروح بشغبها وشغفها، وألوان تشكلها اللغوي الرقيق الحالم؟.
هي كتابة أنثى تقطع الطريق على الشعر، لتوقفه في المساحة بين الأنا والهو، وتكون هي أرملته البيضاء، التي تقيم في خيمة القصيدة في امتدادها قيدَ أنملة الشعر الذي يشير إلى عالم آخر يسكنه الهم الشعري، ويفنى فيه الكائن البشري بانصهاره الشعري مع مفردات لغوية غريبة قريبة، كأنها تشكّل حالات موته في المكان والزمان ليبقى في مساحة التوازي معهما. وهي كتابة ميسون صقر في "أرملة قاطع طريق" تخاطب آخرها من آخرهِ، من موته ليستعيد في مشهد حوارهما حياته اللغوية ككائن هلامي حروفي، تعجن ضلوعه بيديها لترسمه كما تريد، فهي الرائية في مقلة العين السارحة في الموت، تطلب ممن يريد أن يرى صورته في المقلة ذاتها أن يغمض عينه لينفتح قلبه على الرؤى المشهدية الدامية في البطين المتخثر بالدماء، وهو الغريب.
وهي في خطابها هذا الآخر، تتحد به، قائلةً:
"أيها الوجه البريُّ في المرآة
أيها الساخر من ظنوني
أنتَ الحقيقةُ في الخيال
وأنا خيالك في الواقع
والمرآة بيننا".
لأنها لم تكن ذاتها يوماً، ترسم خيطاً بيانياً يصل بين عالمها وعالم هذا الآخر لأنه لا يلتقيها ولا تلتقي به، لأنها هرعت إلى جسدها فأسمته، وسمّمته بالسؤال المستحيل، ولأنها هرعت إليه فلم تجده إلا مؤقتاً وثقيلاً بعدد تفتّح الوردة وإعلان الرضا. وهما في الخيال يلتقيان، في لحظة ما بعد الموت، لأن الموت خاتمة الأحزان في عالم شاعرة لا تقرب الشعر إلا للتوجع أو التفجّع.
يلتقيان في لحظة العمى، حين أيقن هو أنها حبيبته الصغيرة، فرماها في حضن الحقل ليرسم شفتيها على عيدان الذرة حولهما، أو حين سلّمها إلى أمها عند باب البيت، وقال "وجدتها في الضوء". ثم هما لا يلتقيان إلا في الانطفاء، والإغفاء، والعمى الذي يسلّم وردة ضوئها إلى عيون الآخرين، ويبقى هو في القلب حائراً فيما يمكن فعله لطفلةٍ شقيةٍ تقبض بأسنانها على غير الممكن، وترمي حبيبها بالمستحيل، ليقع في لعبة الممكنات.
وهي لا تكتب هذا الآخر حبيباً فحسب، فهو في مرثية الأب الذي كان، صيادَ سمكٍ ثمّ لؤلؤ، أو شيخ دين، أو جمّالاً، أو حكيماً قديماً، أو نوبياً أو حاكماً. وكان أباً يكتب حكايته للحياة كي تقرأها هي، في شخصه العاديّ الجميل، الذي يأكل في بيته، وينام فيه، يقبّل أطفاله وينام، يقول قولته، وينام نومه الأخير في الموت.
وتقيم ميسون صقر شبكة متوترة من السرد حين تقول في الحياة، كأنها حكيمة اللحظات الأخيرة ما قبل الموت، فنصها يقيم علاقة يومية مع الموت والحزن في افتراض الفرح ما بعدهما، حين نهاية الحياة بالموت، وقمة الحزن بالدمع، تقول:
"الشعرُ
يناولنا صوتنا فننام فيه
عائدين إلى زمجرة الريح، والعواصف في الدماء
واضعين أيدينا، أكفّنا التي ارتشح فيها البكاء على زجاج نافذة غائصةٍ
نطلّ منها علينا
ونصيب بعض أحزاننا بسهام اللغة".
ترى ميسون الشعر صمت الصوت عن صوته، وزمجرة الريح في الدم والدمع بالأنين الخافت، والنزف الأزلي، عند زجاج نافذة تطل على ما خفي في الروح، حين الشعر يصير قمراً لليل العاشقين، و مؤنساً وحدة الأرامل الثكالى في لياليهن الطويلة، لأن عمر الأحبة منقصف في حكاية لا يرويها حكواتي "الشارقة" أو "القاهرة" عند خارطة الأماكن الحميمة وتفاصيل عبورها ، والراحلين في الصحراء حتى نهايات المدى والعمر، في ترحال الروح المفترض نحو ما لا يقوله الشعر، ولا ينكتب إلا بالحكمة الهاجسة بالمستحيلات، كلما كانت المسافة إلى داخل النفس أبعد، أو كلما كان تحقق المعنى في المبنى اللغوي أصعب.
هي لعبة الدلالة والدال في نص ميسون، مفردة الأمل مرادف الألم، القيمة مرادف الضياع والهزيمة، الحياة مرادف الموت، الأحمر مرادف الشفتين، الوردة مرادف اللمعان والضوء. وتبقى جدلية الشعر الموت قائمةً عند محورية العلاقات في النص لتقيم توازناً بين ما كان من ماضٍ للشعر، وما سيكون من مستقبل للحكاية خارجه، فكأن الشعر جرح ميسون المفتوح على أوجاع المكان والمساحة والمتخيّل معاً، وكأنها ترتقي بالأسئلة إلى قمة الفلسفة والبحث الوجودي عن ذنب ورموز كمريم، وبوذا، وورقة التوت، وإن غلب على الفكر سبق الفكرة، ووضوحها في العقيدة الدينية التي تستقي مصادرها من نبع الروح، فهي في الإيمان بالبرزخ، وصعود الروح إلى بارئها، والريح، وشجر الزيتون في الوادي، في حقول الكنيسة هناك، وأثواب القساوسة والرهبان، وعرس عليّ بالأخضر والأسود، في شريط ذكريات عقيدي ديني يحيل الشعر مساحة مفترضة للإيمان الأول، قبل أن تتحقق معانيه، في تحولاته الدلالية نحو المعنى، كما يحيل الشاعرة ذات شخصيةٍ ذات أبعاد إنسانية كونية، توحّد معتقدات البشر في بوتقةٍ واحدة من المضامين الأخلاقية القريبة إلى الله، في "أيقونة" كما تراها ميسون صقر، دلالة ضد دالّها الاعتيادي في العرف والتقليد، في طقوس لا تقيم وزناً لفردية الشاعرة حين تتمنى أن تكون ثمرة تين مباركة، أو نسمة هواء من أنفاس الوجود النقي قبل اللوثة، أو غصناً من أغصان شجرات مباركات لا تعترف بالسقوط حتميةً كحتمية خلعها أوراقها الصفراء لأنها ضدّها في مساقات التجدد والتغيّر، تقول:
"يا وجه أمي في صدري
أبكي لتحلل جسدك لأن تذهب روحك عند الله
ولا تظلّ قلقةً في البرزخ
يا شجر الزيتون في الوادي
في حقول الكنيسة الوحيدة هناك
في أثواب القساوسة والرهبان
يا الأخضر في عرس عليٍّ
يا الأسود مثل لباسٍّ دينيٍّ... ".
قراءة في مجموعة "الطرف الآخر من العتمة" لهويدا عطا
شاعرة العتمة كي تضيء، وتشرق كشمسٍ في قصيدتها الخائفة
تقف الشاعرة هويدا عطا في "الطرف الآخر من العتمة" لا كعنوانٍ لمجموعتها الشعرية فحسب، بل كحقيقة واقع لا يقبل إلا بالصدمة، وبلغةٍ لا تهادن ولا تصالح، فطرفها الآخر لا يتحقق كرجلٍ يكمل نصفها الآخر في السرد الشاعري الدافئ، إلا بمقدار ما يسعفه به المتخيل الافتراضي في خلفياتٍ لونيةٍ معتمةٍ قابلةٍ للاحتمال ونقيضه معاً، كما لاحتمالات العتمة والضوء، الحياة والموت، الفرح والحزن.
هويدا عطا تكتب جدلية العلاقة بين الرجل العتمة، والأنثى الضوء، بينها وبين الرجل، على شكل ثنائية ضدية لا تتنازل عن مفرداتها الحادة في التعبير عن جرحها المفتوح، وألمها الأزلي منذ كانت ضلعه الضعيف، إلى أن صارت جثةً في القبر يشيّعها ناظراً في الساعة خوف التأخر عن صديقٍ ينتظره، وهي تستفزه على الحضور، لا كما تعوّدت تصويره إناث الكتابة العربية منذ تعلّمن فنّ القول، حتى آخر الدهر من استحضار أنثوي لصورة رجلٍ حلمٍ يأتي ممتطياً حصانه الأبيض، شاهراً حبّه بسطوة جنرالٍ أو دهاء مرابٍ. بل هي تسترق النظر إليه في خصوصياته المحرجة التي لا يريد لها أن تراها، فتكشفه بها. كأن تسمّيه عفريتاً للحظات خلوتها، ولا ثالث لهما، أو رجلاً مجنوناً يستلذ عذابها فيرفعها من دليله العاطفي حين تخونه المواعيد، وهو الرجل الترابي الذي يحفر قبرها، مستعجلاً كتابة الخاتمة لقصتهما معاً، وهي تلعن ساعة حضوره في حياتها دمعاً وقمعاً، فهو الحديد في قدميها تارةً، وهو الذي تقول في خطابها له:
" يا من أسميتني الحبيبة
وأسكنتني قصور الأميرات
يا من قطفتَ ثماري الأولى
وخبّأتها في أرضٍ نائيةٍ
ها أنتَ
أيها البعيد
تبدل كلّ هذا الهواء بالدموع".
ولأنّ مساحة الكتابة الشعرية عند هويدا عطا هي الهواء، واتساع الفضاء للتحليق بالمخيلة إلى أعلى ما يصله القلب من فرح، تقف على الطرف الآخر من العتمة مضيئةً كمنارة انتظار، تستسقي السماء مطر القوافل، وتنشد لتموز حكاية إنانا، عروس الحصاد، وهما في القصيدة شكلان كتابيان لا تتشابه حروفهما ولا يلتقيان، كأنها تحتال عليه بالمفردة المرّة لتشير إليه بالذنب، فهي "القبر (كم وردةً تشاركني قبري؟)، التابوت (كم زهرةً على تابوتي؟)، الكفن، الحزن، الميتة، العتمة (زهرةٌ، تابوتٌ، كفنٌ/ أنا الميتة الوحيدة/ ملقاة بحزنٍ على الطرف الآخر من العتمة)، النهاية (غداً ينتهي لقائي بكم)، الموت (ترى لماذا اكتفت قارئة الفنجان/ بالنظر إلى الجدار/ وأعطت تفاصيلي إلى الموت؟)، أو كأنها تراه في خط الرمل أو اليد، بعين عرّافةٍ ترى الغيب فتنكره، وتغيب مع خط النهاية حتى نهاياته، تقول:
"قالت العرّافة :"افتحي كفّكِ"
وقرأتْ دونَ صوتٍ
ذهبتْ في صمتها ولم تعدْ
كأنما سقطتْ في بئرٍ قديمةٍ
هكذا ...
خطّ الموت في كفّي نبوءةٌ واضحةٌ".
ولأنها تراه بهذا الوضوح، وهذه السوداوية، تقيم مأتم الحزن قبل لقائها به، وتخاف ضرب المواعيد هكذا، "فالحياة تتآكل"، والعمر قطار يتردد في النص كثيراً، في ارتحال مقصود نحو الخاتمة المطلقة، التي تتحقق بعدها أمنية أن تعود الشاعرة مراهقةً تصدّق الوعود الكبيرة، وتجري حافيةً وراء وردةٍ، أو بطاقةٍ، كطائر هدهد ملوّنٍ بغبطة الصبية عروس النيل، قاتلة الوقت بانتظارات الأمنية، واقتراح الفرح للحزانى الذين تمرّ قلوبهم باكيةً، أمام شرفة البيت.
تقيم هويدا عطا عالماً شعرياً وعاطفياً موازياً للوردة، في ربيع اللغة المفعم بعطر لحظة تتسلل من بين يديها كذكرى، ولا تعود ثانيةً، لأنها وقعت في التاريخ. واللحظة ذاتها تكتب لحظة الشعر عندها، حين تهرع في قلبها إلى قريةٍ بعيدةٍ على النهر، هاربةً من ضجيج المدينة، وصخب الشوارع التي تتبع خطاها إلى اللا جدوى، والعبثية السوداء، كأنها جبلٌ من الرمل، يملأ فمها بالغبار، في استعادةٍ أنثوية خائفة لمشهد الوأد المتأصل في ذاكرة بنات الشرق العربيات، أو هي استحضار لمشهد وأد يوميٍّ ومستقبليٍّ لحلم أنثى لها ذنوبها الصغيرة التي اقترفتها بلا حذر، ولها حسّ الشاعر الرؤيوي الذي يرى في الجسر شكل عمادة دينية، وعلامةً أسطوريةً وسحريةً تقيم فاصلةً بين عالمين، والعبور مطهر العابرين، تقول:
"أفكّر في ذنوبي الصغيرة
تلك التي اقترفتها بلا حذرٍ
وأنا أعبر الجسر الترابي".
وهويدا عطا، لا تبكي كما تبكي النساء فراق حبيبٍ مضى، بل هي تبكي كالنهر، وتهدر كالبحر، لتتسع فتفيض بالنعاس الثقيل بين المد والجزر، كأغنية البحارة في البعيد الشاسع، ساعة يقتنص لحظتها الرجل، صياد الحكايات البائس، الذي يخاف سرده المتردد بين "أحبكِ" و"أخاف"، وبينهما اشتداد حالات نفسية شتى تدفع بالشاعرة إلى الهرب من فكرة عودتها إليه، ولو عابرةً في مخيلةٍ ترسم كذبة السندريللا والفارس في الحفلة الراقصة، تقول:
"انتظرني
أكتب أحلامكَ على ورقٍ باهتٍ
إستسلمْ للقلق والسؤال
لن أعودَ".
شاعرة العتمة كي تضيء، وتشرق كشمسٍ في قصيدتها الخائفة المرتجفة، وشاعرة الموت، كي تحيا قلوب النسوة المتخمةِ بالجراح، والمثقلة بالهم، وشاعرة النعش كي تستريح الجثة، من التواريخ القديمة المفتوحة على البكاء، التواريخ المغطاة بالتراب، تقتفي أثر خطى الموت في الرمل، ووجهه يطل مبتهجاً في وجوه زائريه.
قراءة في مجموعة "أرض معزولة بالنوم" لناظم السيد
يسمي البحر بالبحر ويعطيه زمانه الأزرق
أرض معزولة بعزلتها شهية بالنوم، هي عالم غرائبي مخيف لكنه حميم، يبنيه ناظم السيد شاعراً مرغماً على الحياة، يعيش بالأغنية وتكرار الفصول ليصير لاسمه فمٌ وأسنان وقلب يلمع كالضرس، ويختتم الحياة نفسها متقناً الموت متنكراً لعادةِ أبيه وأجداده قبلاً في الخوف من الموت والتشبث بالحياة.
أرض معزولة بالنوم يحشرها ناظم السيد في زاوية بيته الصغير إلى جانب أشياء أخرى يتقن ترتيبها كحكيم عجوز لم يبلغ الخامسة والثلاثين بعد، لكنه اختزل مشهدية التفاصيل الصغيرة في بنية نص سردي بامتياز، لكن السرد فيه يتخذ شكل الذاكرة الجماعية لا الفردية كون الشاعر ابن مدينة لا تريد له أن يبني في أرضها أرضه ولا تسمح له بالاحتفاظ بأكثر من فرشاة أسنان ومنفضة لبقايا رماد روحه المحترقة بزخم هذا الوجود الثقيل للأسماء التي ليس لها أصحاب، يقول:" منفضة مثلاً، قميص في الخزانة، صابونة في البانيو، ملقط غسيل، أسماء ليس لها أصحاب".
يسمي ناظم السيد البحر بالبحر ويعطيه زمانه الأزرق، يرسمه بريشة شاعرٍ ترقص المفردات بين شدقيه فيضحك ناثراً معانيها على أرض الكلام، يتحدث باسم الصامت، ويعلن الصاخب ضد الليل والمدينة العماء. ثم هو اللاعب بالحالات النفسية الحادة حين تصيب مريضها بالسكتة الدماغية أو الذهول يليه الهذيان متخيلاً البحر كائناً ذا شعر أبيض متمسكاً بالهواء ليحلق، مخترقاً عتمة الليل تلمع نظراته في السماء، يسمي النجوم أدعيته الصامتة، ويحكي على مسمع الشاعر وحده قصة ضجره، يقول:" منذ زمن قديمٍ كنت ضجراً فاخترعت الشمس، كنت ضجراً فصنعت ألعاباً سميتها السمك"، كأن ناظم السيد في عزلته الفلسفية شبيه الفلاسفة اليونان في علاقتهم بالنهر والبحر والصخر، يقرأون فيها ما خفي على العقل البشري العادي من هيروغليفية الكتابة عن الخلق والكون والإنسان.
هي أرض معزولة بالنوم تشبه الأرض نفسها مختزلة بمساحة قدميّ شاعر لا يتسع لهما الكورنيش حين يضيق بذكرياته عن الحرب والحب وأمور أخرى، أقلها كرتا حديد ربطتا بساقي رجل رمي في البحر، أو رصاصة اخترقت رأس امرأة من الوراء، يدها ما زالت تقبض على كمشة تراب، أو قذيفة أصابت الحائط المقابل، أو رجلٌ ذبح ورمي في بستان المدينة الوحيد، وكلها تداعيات ذاكرة شاعر أو شارع ، وبينهما الصبية يطردون الكرة بالأرجل، كما يتمنى الشاعر أن يفعل.
ذاكرة أرض معزولة بالنوم لأنها تشتهيه هرباً من ضجر الوقت والصخب في البنايات الصفراء التي تساقطت أسنانها، في المدينة التي ترسم ابتسامة الشاعر وهلعه معاً، فهو حيناً ربان سفينةٍ في البحر، يؤاخي الموجة والرملة والأزرق وهو أحياناً شكلٌ مستعار لإنسانٍ سقط في الفراغ، مستعاراً وبلا وجه، يقول:" إذا كنتم تريدون الحقيقة، كل ما أملكه استعرته من قبل، المشية من الرجلين، اللمس من الهواء، والنكتة من الموج".
ناظم السيد لا يفاخر بذاتية متعجرفة، ولا يدعي امتلاك القدرة على رسم حدود العالم المستقل لتلك الذاتية الشاعرية فهو يتسرب كالماء إلى وجع المكان، يحضنه ويحنُّ عليه كأم، ويربت على ظهره كصديق يشاركه ما يعانيه من قلق، مصوباً رصاصة رحمته على رأس هذا المكان الجماعة، ليفجر دماغه أو يوقظه من وهم ألاّ يتكرر ثانية، فالمكان سجن للروح، والشاعر شاهد الجدار، السجين الذي يحفر في الإسمنت العاري أيامه، منتصراً على رتابة الموجودات وبلاهتها، فالشباك الرمادي ليس رمادياً وإن كان كذلك والستارة سؤال الجسم البحري الرخو، والشجرة استقامة الأبله، والنافذة لا تفتح يديها وتقفز إلى الشارع، إلاّ بمشيئة الشاعر الذي يمثل الأنا الكلية، متحدثاً بلسان بشر المدن المرمية على شاطىء المتوسط صدفة، المدن القرى التي لا تشبه مدناً ولا قرىً بل تقع فيما بين بين، وتسقط في التكرار منتظرة هذا الصبي الذي كان عليه أن يقنع الآخرين بما حصل له، ككائن شعري لا بشري، يطرح الأفكار نكاياتِ الوقت ويحفظ عن الجدات الأمثال، ويقفز من المدرسة إلى الحقل، راكضاً حتى يبتلع الليل قدميه، فيرى جسمه أليفاً كالعشب.
الشاعر ابن المكان، يروي السيرة الذاتية لشعب لا لفرد، ويحكي عن البحر الممتد ما بين بيروت والصرفند، برمله وملحه، ومائه وفضائه، وموجه وهديره في أذن الشاطئ بالضحك الفارغ كالقهقهةِ.
وهو في ذلك يتسلح بالكم الهائل من الأساطير التي تحيل المكان كائناً يتنفس ويحس، وتشع بالدلالات الرمزية لمكان أسطوري تدل عليه تلك الطريق الوعرة التي كانت العصافير فيها تأكل آثار قدمي الشاعر حتى ضاع.
والشعر شراع يغادر بحر الشاعر إلى مجهوله، ويشير إليه بأصابع العزلة كاشفاً ومتآمراً، يحيله أحدب نوتردام حامل عقدة الظهر في ظهره حد البلاء الأزلي، يقول ناظم السيد في مجموعته:" الطريق مغمضة العينين تقود كل ما يمشي عليها، الظهر يدفعك، الظهر يصم أذنيه عن أنفاسك المتكررة كاليورانيوم".
ناظم السيد يقسم مساحة القول الشعري في مجموعته ارض معزولة بالنوم على آخر لا يشبهه، يتمظهر حيناً كمكان ثابت، في البحر، الكورنيش، البنايات الصفراء، الطريق الوعرة، البيت والشرفة ليصغر حتى يسكن علاقة المفاتيح في الإصبع، المفردة النقيض للدواليب على الزفت، دلالة المكان المتحرك يرتسم في النص على شكل قطار بنوافذ مكررة ومحكمة الإغلاق، أو مطارات حارة تنادي للرحيل.
وهذا الآخر هو الأنا الجمعية التي يستسلم ناظم السيد لسطوتها في المجموعة، فيقع في خوفه منها وشعوره بالهامشية المتصعلكة في مدن العزلة، يقول:" عندما تمدد على ظهره ونظر إلى السماء شعر بوجهه فارغاً، وتذكر كائنات الأم التي لاحقته حتى باب البيت، وأحس بعينيه عميقتين كالإهانة". فكأن هذا الآخر يلاحقه بالاتهام، محاولاً محو ذاكرة الولد الذي نسي رجليه في الغابة، فمضى في المدينة مردداً أغنيات النهر وأمنيات البحارة، مستعيداً أشكال الزواريب والرسم بالطبشور على جدران القرى:" الكلسات رأس حصان، الشجرة صرخة، البيت جندياً، الكلمات ماءً في مزراب".
يكتب ناظم السيد ذاكرة المكان لينتمي إلى فئة الشعراء الفلاسفة، الناظرين في الليل بعين الليل، وفي البحر بالأزرق، معلناً براءته من ذاته الطفلة، وانتماءه إلى الفعل الشعري المحرض على الكشف الصوفي لما في ذاكرة إنسان المدن من ارتباك وجودي لا يتيح له إلاّ الدهشة المريضة بالقدرة الفائقة على استحضار الذكريات، وتصوير حيثيات الحركة المكانية والزمانية لأسماء ووجوه تحت سماء تهدر لونها.
وكما كل شاعر كاتب بالشفافية ألوان وجود الآخر، جماعة كان أم أنثى، يعطي ناظم السيد مساحة الأداء الشعري الممسرح لأنثاه في النص، تاركاً لها حرية الحضور والغياب، بدلالة وقوفها في الوقت كله بارزة دمعها وعظامها، تكتب الشتائم والذنب الذي ينتظرها خلف الباب، كأن القصيدة لا تبدأ إلاّ بها، وهي القصيدة والقول الشعري الذي يستفزه شكل امرأة تحمل كتاباً لتقرأ فيه، والعبارة الشعرية "الجمال بلا إرادة" قول الشاعر في التداعي، كأن عنوان مجموعته" أرض معزولة بالنوم" منكتبٌ بترتيب لا واعٍ يشبهه في العبارة "حياة كاملة تعيش معزولة تحت المبالغة".
ناظم السيد يكتب بحدة الشفافية، رائياً في الموت كأنه الميت بالأمس، كاتباً لحظة الاحتضار وسرعة السقوط في الموت كالنوم، مبشراً الأشياء بقيامتها الآخروية، في ما يشبه الموت الاستعراضي للحيتان كأنها غيلان المدينة أو بشرها متمثلين بالشاعر وحده، ساقطاً من الشرفة إلى القبر المجاور، يقول:" هذه المرة أيضاً لم يمت بكابوس يستيقظ حاراً كالمطارات".
والشاعر بعد هذا الموت ينصع بالفرح لأنه يرتاح به من الحياة نفسها، يسقط في العزلة كأنها الملاذ الأخير لجثته التي تريد أن تستريح في الحلم، لصوته الذي كان يدندن أغاني الحقول والزقزقات صانعاً منها أغنية واحدة كأنها الحكاية من أولها، يقول:" يحلم بحياة عادية: زوجة وأولاد وكلب يمد رأسه من السيارة في النزهات الطويلة ... ينظر إلى الطرقات التي تطول خلفه، وبشيء من الارتباك يهتف: المستقبل وراء ظهري".









تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

افتتاح المؤتمر الدولي الثاني عن الآثار في الإمارات‏

03-آذار-2009

لا يشبهنا في الموت أحد

09-كانون الثاني-2009

الذاكرة تحفر في متخيّل شعراء الحداثة في دول الخليج

09-تموز-2008

لغتي ابتداءُ الكون

07-حزيران-2008

تحولات الرّمل: وعي الاستمرارية في التجربة الروائية في الإمارات

02-آذار-2008

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow