Alef Logo
ابداعات
              

فصل من رواية: شجرة الكستناء

د. خضر محجز

2007-12-10

الفصل الثاني
عندما غادر وجيه السوق, مع بداية المعركة, لم يعرف إلى أين هو متجه تماماً.. الذي كان يعرفه فقط, هو أن عليه أن يغادر.. شيء في داخله كان يطالبه بالبقاء والمواجهة، وعدم ترك حسين وحيداً؛ خصوصاً وأن تدخله كان إنقاذاً لكرامته هو. لكن جزءاً آخر داخله، كان هو الذي يحرك قدميه, ويقوده خارج السوق المركزي.
اتجه إلى البوابة, ثم عبر الشارع نحو الرصيف المقابل, حيث محطة الحافلات.. صعد إلى الحافلة المتجهة إلى يافا, واشترى تذكرة من السائق, ثم توجه نحو المقعد الخالي القريب, وجلس إلى جانب سيدة شقراء، تفوح من إبطها العاري رائحة العرق.. لملمت السيدة أعضاءها (رغم أنها مجرد غروزينية(1) متخلفة ـ كما يظهر من وجهها الناصح وعينيها البلهاوين ـ لكن من يستطيع من الغروزينيين الظهور بمظهر من هو واقع في غرام عربي!. ولو لم تكن الحافلة مملوءة باليهود الحقيقيين، فلربما كان لها معه شأن آخر) والتصقت
بالجانب الآخر من المقعد. ثم عند أول محطة نزلت. فتأكد وجيه الآن أنها غروزينية، وفكر جدياً في النزول وراءها ـ فهو يعرف أن هؤلاء الغروزينيات، يخفين في أنفسهن عشقاً غير محدود، لفحولة أولاد العرب ـ لكنه تذكر، في اللحظة الأخيرة، المشادة التي حصلت في حافلة مشابهة، قبل أكثر من شهر، بين عراقي وغروزينية (فشتمها، وقال لها بأن تذهب إلى عربي ليضاجعها، بدلاً من الادعاء بأنها يهودية. فصارت تبكي، وتشتد في شتمه، والتبرؤ من العار الذي نسبه العراقي، من أتباع عبد الكريم قاسم(2)، إلى بنات جلدتها الشريفات. ثم قالت له العبارة التالية بالضبط: أني يزيينتي عرڤي ملخلاخ كموخا(3)؟!.)، فخشي مغبة الأمر, وواصل الجلوس. وعند أول شارع القدس, مما يلي تل أبيب, نزل, وتوجه إلى دار السينما, التي تعرض صورة فتاة عارية الصدر, مستغرقة في قبلة ساخنة مع فتى ينسدل شعره على وجهه.. استنتج أنهما خارجان لتوهما من البحر.
حمله البحر إلى أجواء حميمة, لابد أن يكون الفيلم مليئاً بها: حدث نفسه بمرارة تائقة. وصار يتصور المشاهد التي سوف يراها في الداخل, بل ذهب به الأمر إلى تصور نفسه جالساً، إلى جانب واحدة من هاته البنات الجميلات, اللاتي يعج بهن باب السينما, ويعبث معها في الظلام, وتعبث معه.. حك إليته مرة أو مرتين، متحيراً في كيفية تحقيق ذلك.. كيف يمكن البدء!..هذه هي المسألة فقط.. دار حول نفسه عدة مرات, وهو يتأمل البنات.. كلهن بيضاوات كالجبن.. بحث بعينيه عن واحدة محددة يجعلها هدفه, دون أن يقرر كيف يتفاعل معها.. ازداد شعوره بالرغبة في احتضان واحدة, من بينهن, دون تحديد. لكنه لم يفعل شيئاً سوى الانتظار, ولم يلتفت إليه أحد, باستثناء جندي الهاجا(4) الواقف قرب الباب الزجاجي.. خشي أنه إذا اشترى تذكرة ودخل، فسوف يُقبض عليه؛ فهو العربي الوحيد هنا.. شكله يقول ذلك.. لو كانت معه فتاة، لشعر بشيء من الأمان.. رأى كوشية(5) ترتدي بنطلوناً متسخاً, وتضع يديها في جيوبه, وتتلفت في كل اتجاه, فقدر أنها تبحث لها عن رفيق, ثم قدر أن باستطاعته أن يكون ذاك الرفيق, على اعتبار أنه من عنصر قلما يتوفر للكوشيات. وقبل أن يفكر فيتردد, مضى باتجاهها مستجمعاً شجاعته.. تقدم منها. لكنه رأى كوشياً آخر يتوجه نحوها, فتتلقاه متهللة, ثم يدخلان السينما.. التفت جهة جندي الهاجا, وإذ رأى عينيه تضحكان, فقد شعر بعار كونه عربياً هنا, مدركاً في ذات الوقت أنه في مأزق.. لكنه صمد, ولم يكن يملك سوى ذلك: فكل البنات كن يتكئن على صدور عشاقهن ويهمسن, وهو واقف هكذا يتلفت وحيداً، مثل حرذون على الجدار.. تلفت طويلاً بحثاً عن شيء لا يعرفه, وفجأة رأى "أبو خربوش":
أبو خربوش؟!.
هتف مرتاعاً, كأنه واقع في بئر، ثم رأى الحبل يتدلى من فوق. لكن الشاب نظر إليه بازدراء, دون أن يكلف نفسه عناء الرد. ولم ير وجيه ما حل به من صغار, لأنه لم يصدق ما سمع, فهذا هو أبو خربوش, بلحمه ودمه!. صحيح أنه يرتدي بنطلوناً مزركشاً. وصحيح أن شعره الأجعد مسرح بطريقة مختلفة، تشبه تسريحة الشبان اليهود؛ لكنه أبو خربوش، ولا يمكن أن يخفى عليه.. أراد أن يتقدم نحوه, لكن أبو خربوش ضم إليه الفتاة اليهودية, التي تشبه قطعة المهلبية, من خصرها, بثقة متناهية, ثم قبلها, فساحت. وهنا سقط قلب وجيه في قدميه, وصار يشعر بالخزي أكثر من أي وقت مضى, خصوصاً بعد أن غمز له أبو خربوش بعينه من طرف خفي, وهو يخاطب فتاته, مثل يهودي أصيل:
ـ آت مكيراه إت هعرڤي هزي(6)؟!.
ـ ما پيتوم(7)!!!. لوت شفتيها بازدراء واضح.
ازداد به الإحباط, وصار الآن يقارن هيئته الزريّة بهيئة أبو خربوش: وكأن لم يكفه أن يكون أبو خربوش أبيض البشرة، أزرق العينين مثل الأشكيناز، ويتكلم العبرية بطلاقة, إلى جانب طوله الفارع، وذراعيه المفتولين، اللذين تكشف عنهما البلوزة البودي الضيقة التي يرتديها.. لم يكفه كل ذلك, حتى صار على وجيه أن يتذكر بشرته السمراء، ووجهه المصفرََّ، وملابسه المتسخة!.. وأين؟!. وسط شارع القدس, أمام السينما, في أرقى أحياء يافا الجديدة!!.
لملم بقايا نفسه, متوجهاً نحو بائع الفلافل. ووقف في الطابور. وبمجرد أن تناول الشطيرة الساخنة، المحشوة بالفلافل وقطعة الشيبس الحمراء ـ التي حاولت أمه أن تعمل له مثلها، ففشلت ـ بدأ في التهامها.. ومع أنه شعر بأن طعمها يشبه الخراء الجاف؛ إلا أنه واصل الأكل.. صار يأكل، ويبتلع مخاطه، ويمشي, متوجهاً نحو أول الشارع, من حيث نزل من الحافلة، قبل قليل.
تخطى الشارع, نحو الجهة المقابلة, ووقف في الوسط, حيث ملتقى الشارعين القادمين من أول يافا ـ شارع القدس الذي جاء منه الآن, والشارع القادم من جهة الساعة ـ قبل أن يفترقا مرة أخرى: واحد إلى اليمين باتجاه "بيت رومانو"، ثم التحناه مركزيت؛ والآخر إلى اليسار، جهة الغرب، بمحاذاة البحر تماماً، جهة يافا المنشية, حيث يواجه المار، بعد خطوات قليلة، دار سينما متخصصة في عرض الأفلام العربية.
تخطى المفترق باتجاه السينما.. كانت واجهة "قريباً" الزجاجية تعرض صوراً لعبد الحليم حافظ ،وهو يدور حول زبيدة ثروت, في الحديقة, ويغني لها: "ضحك ولعب وجد وحب", وفي المقابل وقفت بعض الفتيات العربيات، اللاتي يبحثن لهن عن عشاق.. دار عدة دورات، محاولاً أن يشبك مع إحداهن, لكن زرايته أحبطت مسعاه.. رأى واحدة تحتضن واحداً، كأنها تخاف أن يتفلت منها, وهي تتأمل عبد الحليم بنظرات شهوانية, ثم سمعها تقول بحسرة:
إيزي حتيخ(8)!!.
ومع ذلك فقد كانت عربية.. كان يعلم بأن يافا القديمة مليئة بمثل هذا النوع من الفتيات, اللاتي يتحدثن العبرية, مع أن لهفتهن تقول غير ذلك.. لو لم يكن معها هذا الفتى، فلربما أمكنه أن يصطادها.. توجه نحو واجهة: "يُعرض حالياً" فوق الشباك, وإذ لم يكن ثمة جندي هاجا, فقد أحس بالأمان.. اشترى تذكرة, ثم دخل, واندمج مع فريد الأطرش وفاتن حمامة في "لحن الخلود", ونسي السوق المركزي, ونسي حكيمي, وحسين, وأمنون بن موشي, والغروزينية الشقراء التي تبحث عن فحل, والكوشية التي خوزقته, والفتيات اللاتي يتكئن على صدور عشاقهن.. . لكن عندما قبَل فريد الأطرش فاتن حمامة، وارتمت على صدره, تذكر وجيه قطعة المهلبية التي كان يحتضنها أبو خربوش, على باب سينما اليهود, عند بياع الفلافل في شارع القدس, فبكى. وصار يجفف دموعه ومخاطه بكم القميص, الأمر الذي أساء إلى مناظر الفيلم, وجعل عينيه تغبشان. فنزل وهو يلعن أبا فريد الأطرش، وفاتن حمامة، وزوجها عمر الشريف, الذي تركها هكذا على حل شعرها, وصاع في هوليوود. ولعن السينما, ومديحة يسري، الغبية التي تركت زوجها هكذا لعشيقته، يقبلها وترتمي على صدره. ولعن اليهود الذين احتلوا فلسطين، وصاروا يعرضون فيها مثل هذه الأفلام.. وتمنى في هذه اللحظة لو يفجر نفسه في كل هؤلاء اليهود الملاعين, وفي كل هؤلاء العرب الذين يشبهونهم.
سار بمحاذاة الشارع الساحلي، المتجه إلى تل أبيب. كان البحر خالياً تماماً ـ رغم أن الفصل صيف ـ والشارع شبه مهجور. والبيوت, التي كانت في السابق منتجعات, صارت الآن خرابات، تطوف بها عصابات الحشاشين والقوادين ومدمني المخدرات, إلى جانب بنات الهوى اللاتي يصطدن أبناء العرب, من أمام السينما, لعمل اللازم..
قال للفتاة التي تمضغ قطعة اللبان وتطرقع بفمها:
إيفو(9)؟.
فأشارت بيدها نحو الخرابات التي تحيط بمسجد حسن بك:
كان(10).
كانت المسافة الفاصلة بينهما وبين المكان المشار إليه تتقاصر, وهي تسبقه مثل دليل الصحراء, وقد أتاحت له الأضواء الخافتة, المنبعثة من مصابيح الشارع, تأمل الفتاة التي اصطحبها من أمام سينما العرب: بيضاء البشرة, مستديرة الوجه, رقيقة الشفتين, فوقهما أنف ذو أرنبة بارزة محمرَة، انتفخت خياشيمه أمام البحر. تلبس تنورة واسعة تصل إلى منتصف ساقيها.. هذه التنورة هي ما شدَه إليها: فهي على العكس من تنورات بنات بن يهودا الجلدية القصيرة الضيقة، المعروفة مثل علامة مسجلة.. كانت التنورة هنا تهفهف بفعل نسيم البحر. وكان يتخيل نفسه يرفعها، فلا يجد تحتها ملابس داخلية.. اهتاج، وبدأت أدواته تتحرك.. تمنى لو كان باستطاعته أن يقترح عليها أن يفعلا ذلك على شاطئ البحر, كما فعله البطل مع البطلة، في الفيلم الذي رآه في السينما التي عند التحناه مركزيت.. لكنه كان قد وصل المكان الذي أشارت إليه الفتاة. وبدأت بتمهيد الأرض بيديها, ثم استلقت هناك بين الخرائب, تحت المصابيح الخافتة, ورفعت تنورتها..
هو وهي والخرائب وصوت البحر.. لا شيء آخر هنا.. كان قلبه الآن يدق في حلقه, موشكاً على الوقوع من فمه.. التفت جهة البحر، واستنشق هبة نسيم قادمة. ثم انحنى قليلاً ليتأمل, كأنه لم يكن مصدقاً ما يحدث, نظراً لأن بنات بن يهودا لا يفعلن ذلك.. نظر إلى الشيء الذي طالما تمنى امتلاكه، غير مصدق.. كان كل شيء عارياً كما خلقه الله, والأرنب يحدق فيه بانتظار, والفتاة كمثل الطبيعة تناديه:
نو(11).
عالج بنطلونه قليلاً, لكن اصطدام يده بالحقيقة أفزعه, وأشعره بمزيد من البرودة، التي بدأت الآن تتغشاه.. امتلأ قلبه بالخوف، خصوصأ وهو يتذكر أن أباه ينوي أن يزوجه، في الصيف القادم.. حاول بيده قليلاً، ولكنه يئس وشعر بالعار، والفتاة تقول متأففة:
ما كرى لخا!؟(12).
والحق أنه كان قد جرى لوجيه الآن، ما لم يجرِ لأحد من أولاد العرب.. ولو أن واحداً منهم الآن موجود مكانه، لقفز مثل أسد.. لكنه الآن لا يستطيع أن يقفز مثل فأر.. كانت أطرافه مرتخية تماماً, وقد غطى العرق وجهه, وتسارعت أنفاسه، أكثر من أي وقت مضى, وشعر برأسه يدور.. أخرج من جيبه عشرين ليرة، ناولها للفتاة, التي وقفت تحدق في وجهه بدهشة.. ثم مضى.. وبعد خطوات سمع ضحكتها تجلجل في أذنيه، وهي تقول لقوّادها:
لو هيا له كلوم(13).
ارتجفت ساقاه بفعل العبارة , لكنه واصل المسير..اقترب من المسجد.. كان الباب الكبير لا يزال واقفاً مكانه, وقد تساقط طلاؤه, وظهر خشب البلوط الأحمر عارياً. أما الشبابيك فقد كانت مخلعة، وليس ثمة إلا الفتحات.. قفز إلى الداخل, وبدأ يتجول في الباحة التي تخلَّع بلاطها، وظهرت هنا وهناك مكانها مواقد للنيران. والزجاجات الفارغة ـ البكبوك(14) ـ التي تم تحويلها إلى أدوات لتحضير المخدرات، تتناثر في أماكن متعددة.. أدرك أن المكان تحول إلى ملجأ للحشاشين، ومدمني المخدرات.. اتجه نحو المنبر، فوجده عارياً من الرخام, فقدر أنه تساقط بفعل الزمن ورطوبة البحر.. وهناك في المحراب، كان فراش إسفنجي لشخص واحد, تحوطه أقماع السجائر، وبعضٌ من قطع الملابس الداخلية النسائية القذرة.. أصابته القشعريرة, وبدأ يفكر في المغادرة, عندما أحس بأن شخصاً يقف وراءه:
من وين انت؟.
ارتاع بشدة وهو يلتفت، ليرى المتحدث شخصاً يرتدي زيَ الهاجا, وقد غطت القبعة العسكرية جزءاً كبيراً من وجهه، في هذا الليل. وإذ لم يكن محتاجاً إلى التأمل طويلاً، ليدرك أنه يحمل في يده مسدساً، فقد استجمع ما تبقى من شجاعته، ثم قال:
أنا من يافا.
طيب. وين هويتك؟.
أنا صغير.. لا أحمل هوية.
شو أسمك؟,
محمود أحمد سليم.
قدر أنه، باختياره هذا الاسم المحايد، يستطيع تمويه شخصيته الحقيقية؛ فلربما كان هذا الرجل من يافا، ويعرف عائلاتها. لكن قدوم الشخص الآخر فاجأه.. لقد رآه وعرفه بعد هذه السنوات.
تعرف هذا الشخص؟.
هذا من عندنا.
أدرك وجيه أنه قد انكشف تماماً, وأن "كمال أبو الدبس", الذي غاب عن الحارة فجأة، ولم يعرف له أحد طريقاً, هو عميل لليهود, مثله مثل هذا الرجل الهاجا, الذي يجره بقبضته الحديدية خارج المسجد:
اسمع.. وين هويتك وتصريحك؟.
أنا من يافا, وصغير.
لم يكن أمام وجيه إلا أن يقول هذا, فقد بات يعرف ما هو مطلوب منه.
طيب.. قدامي يا ابن الكلب على الشرطة.
ومين انت حتى تسلمني للشرطة؟ ـ رد بصوت مضطرب, وقد أدرك الآن ضعف موقفه، أمام هذين الرجلين القويين. لكن الصفعة القاسية، التي وقعت على وجهه، أقنعته بأن يسلك طريقاً أخرى ـ إيش بدك مني؟!.
امش قدامي..
وصار الآن يجره من يده, عائداً من نفس الطريق التي سلكها قبل قليل.. وبعد أن مرَا بدار السينما، ووصلا إلى المفترق, مال به جهة اليمين, في الطريق المؤدية إلى الساعة. فأدرك الآن أنه مقود إلى مركز الشرطة القريب.. لكن سجانه جلس به فجأة على مقعد موقف الحافلة, ثم بدأ يتأمل وجهه تحت الأضواء:
يظهر أنك ولد صغير بالفعل ـ قال الرجل الهاجا, ثم أشاح بوجهه نحو كمال الواقف كالمراقب ـ ما رأيك يا كمال؟.
كان وجيه يسمع أن يافا قد أصبحت ملجأ للجواسيس، الهاربين من غزة, بعد موجة القتل الذريع التي اجتاحت عدداً كبيراً منهم, على يد كل من "قوات التحرير الشعبية" و"الجبهة الشعبية". لكنه لم يسمع أبداً بأن أبو الدبس هذا كان جاسوساً؛ بل على العكس من ذلك؛ كان على علاقة صداقة مع المطاردين، من كلا التنظيمين, حتى ظُن أنه واحد منهم.. طويل أشقر, بشعر ناعم يسرحه إلى الخلف, فيكشف عن جبهة ناصعة، وعينين خضراوين كعيني القطط, تحتهما أنف دقيق, يعلو شاربين أشقرين شعيراتهما تشبه الزغب, وفكاً قوياً, وذراعين مفتولين يكادان أن يمزقا كمي القميص القصيرين. وعندما يكشف عن صدره في الساحة, في بعض ساعات العصر الحافلة, يظهر صدره العريض وثدياه الضخمان متناسقين كثديي ستيڤ ريڤز.. باختصار: لقد كان بطلاً إلى جانب محمد البيك, فلماذا تحول إلى جاسوس, وترك محمد البيك يقبع في السجن؟!. وهل هو الذي سلمه؟:
هذا ولد مسكين، ومستعد يتفاهم.
الآن بدأت المسرحية.. والآن يدرك وجيه أن وقت المساومة قد حان.. لكنه استحمق قائلاً:
حاضر.
طيب. تعال معنا تسجل اسمك، عند الضابط. لا تخاف. لن تبلغ عن فدائيين ولا مخربين.. وين بتشتغل؟.
صمم وجيه على التحامق التام, وقرر أن لا يعترف بمكان عمله, وقد بدأ في إعداد خطته.. لذا فقد قال:
كل يوم الصبح باقف عند موقف أبو رجب, وباشتغل مع أي واحد.
يا ابن الكلب! ـ صرخ فيه الرجل الهاجا بغيظ ـ بتكذب عليَ؟!.. طيب وين بتنام؟.
مستأجر عند ست عجوز في يافا, تعال آخذك عليها.
كان يخطط لإقناعهما بمرافقته إلى يافا القديمة.. وهناك سوف يحلها ألف حلال. لكن الرجل الهاجا تنبه إلى خطورة هذا العرض الملغوم، وصمم على ضرورة أن يرافقهما إلى الضابط "ابن الحلال"، مما دعا وجيه إلى الحلف بشرفه، أن يأتيهما في الغد، ويضع نفسه تحت إمرتهما، فيما لو سمحا له بالمغادرة الآن، خصوصاً بعد كل هذا التأخير المقلق لأصحابه المنتظرين.
لكن الرجل الهاجا صفعه مرة أخرى وهو يصرخ بغضب فادح:
اخرس. أو تمشي معي الآن, أو باسلمك للشرطة ـ ثم التفت جهة كمال كأنه يستنجد به ـ يللا تعال ناخذه على أبو كبير(15).
اصبر ـ قال أبو الدبس بعقلانية واضحة. ثم توجه بالخطاب نحو وجيه، وقد بدت عليه علامات الإشفاق ـ يا ولد، شايف حالنا؟.. بنات وفلوس مثل ما انت عايز. عليك فقط التبيلغ عن تجار المخدرات والحشيش والأفيون في غزة.. انت إيش بتفكرنا؟.. جواسيس!.
طبعاً لا. قال وجيه بلهفة رسمها على وجهه.
طيب. بدكش تكون مواطن صالح, وتنفتح لك كل الأبواب؟! ـ عاد الرجل الهاجا إلى التدخل، قبل أن يقوده نحو زقاق جانبي, بين العمارات الواقعة بين شارعي الساعة والقدس ـ اهدأ، وتعال نتحاور.
ودخلا في الزقاق. ووقف أبو الدبس غير بعيد. وكان وجيه يعرف أن هذا الزقاق ينتهي, بعد بعض التواءات, إلى شارع القدس, في الجهة المقابلة لسينما اليهود, عند محمص المكسرات.. رسم الخطة في رأسه بسرعة, مقدراً أن رواد السينما الآن في طريقهم للخروج.. على العموم, حتى لو لم يكونوا كذلك, فهذه هي ساعة الذروة في شارع القدس, حيث يمتلئ بالمارين، الذين يمكن له أن يتوارى بينهم. لذا فقد قال بلهجة شديدة الاستكانة:
لا تأخذوني إلى السجن.. أنا ماشي معكم.
كان يقول ذلك، ويلاحظ أن قبضة الرجل الهاجا على يده تتراخى، قليلاً قليلاً, بحيث بدأ يطمع في التفلت، عندما تحين اللحظة. لكنه فجأة رأى سوادات متعددة تخرج من زقاق مجاور. فأدرك فوراً ما عليه أن يفعل.. وعندما اقتربت السوادات, ورأى زجاجات "البكبوك" التي في أيديهم, تأكد ظنه, فبدأ يولول ويبكي، مثل امرأة مات زوجها الساعة:
يا ابن الكلب.. بدي أروح على الدار..
الآن اختلطت الأوراق. وبدأ الرجل الهاجا يحاول استرضاءه, لكي يصمت. وصار كمال أبو الدبس يتلفت حوله, باحثاً عن مخرج. لكن الزقاق كان قد امتلأ بالوافدين الجدد, الذين بدأوا يتقدمون, ويفركون أعقاب سجائرهم بالأرض, ويبصقون. وإذ أدرك وجيه حجم الرعب المسيطر على كل من بطل كمال الأجسام والرجل الهاجا, فقد قرر أن يستثمر المستجدات بالطريقة المثلى. فقال موجهاً كلامه لجماعة العالم السفلي, التي وقفت تراقب بشيء من الفضول:
حڤري تعزرولي.. همنيكيم هإيللى روتسيم لكاحت أوتي لمشتراه(16).
ولقد كانت كلمة "مشتراه" هي مفتاح السر، الذي تسبب بعد ذلك في كل ما جرى, إذ بدأت الضربات تتوالى على رأسي الواشيين الملخلاخَين, بالأيدي وبالزجاجات الفارغة, وهما يصرخان:
أل تأمينو لو. زي عرڤي, ڤإينلو ريشيون؟(17).
لكن ذلك لم يكن ليساعد في شيء. ووجيه واقف يراقب بذهول. حتى إذا انتهى الموضوع على خير, مدّ الطويل ـ الذي يبدو أنه زعيمهم ـ يديه إلى رأسه, وبدأت أصابعه تتخلل شعره الناعم, وترفعه من الأمام إلى الخلف, مثل مشط كبير. ثم وضع يديه على خاصرتيه متأملاً في وجيه. وبعد لحظة من الملل، دار حول نفسه, وشوّح بذراعيه في كل الاتجاهات, كأنه يتساءل عما فعل في التو واللحظة. ثم مدّ يده إلى جيب بنطلونه الخلفي, واستخرج علبة سجائر خنتريش, تناول منها سيجارة بدت منتفخة. وبعد أن أشعلها، وسحب منها نفساً طويلاً, زفر زفرة صعداء, وتقدم من وجيه, وأمسك بيده، برفق واضح، وهو يقول:
وين مكان الخدمة ديالك(18)؟.
في سوق الحشمونائيم.
تحب نوصلك, والا بتعرف الطريق؟.
لا, شكراً. باعرف الطريق كويس ـ ثم موجهاً كلامه للباقين ـ أني روتسي لچيد لخيم ماشي هو: أني مودي لخيم حڤري.. هإم أني يخول لعسوت لخيم ماشي هو(19)؟.
ليخ عخشاڤ, لفني شي تڤو همشتراه هپعم بريتسينوت(20).
توڤ حڤري.. أني بشوك هحشمونائيم, برمبة2, بحانوت7.. فبإيزي زمان شي ترتسو لڤو، أني يهيي تسميح لعزور.. راك تحپسو إت وجيه(21).
لهيتراؤوت وجيه(22).
وبعد لحظات كان يتوارى في زحام الشارع, ثم يركب الحافلة المتجهة إلى التحناه مركزيت. ومن هناك توجه نحو الشيطح.

ــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1ـ نسبة إلى غروزينيا: أي جورجيا. وهي إحدى جمهوريات الاتحاد السوڤيتي الآسيوية.
2ـ أغلب اليهود العراقيين كانوا من المصوتين للحزب الشيوعي الإسرائيلي. لهذا كانوا يوصفون بأنهم أتباع قاسم.
3ـ أنا يضاجعني عربي قذر مثلك؟!.
4ـ الحرس المدني, ومهمته القبض على أي مشتبه به.
5ـ زنجية.
6ـ هل تعرفين هذا العربي؟!.
7ـ كيف ذلك. وهي صيغة عبرية تفيد الاستنكار النافي.
8ـ يا لجماله!!.
9ـ أين؟.
10ـ هنا.
11ـ هيا.
12ـ ما الذي جرى لك!؟
13ـ لا شيء لديه.
14ـ رغم أن كلمة بكبوك تعني مطلق زجاجة، إلا أنها في العالم السفلي لا تعني إلا استخدماتها كنارجيلة لاستنشاق المخدرات.
15ـ سجن مدني في ضواحي يافا منذ عهد الانتداب.
16ـ ساعدوني أيها الأصدقاء.. هذان الشاذان يريدان أخذي إلى الشرطة.
17ـ لا تصدقوه. هذا عربي, وليس لديه تصريح.
18ـ لهجة مغربية, حيث أن أغلب أهل العالم السفلي هم من اليهود المغاربة, وتعني: أين مكان عملك؟.
19ـ أريد أن أقول لكم شيئاً: أنا مدين لكم أيها الأصدقاء. هل أستطيع أن أقدم لكم معروفاً, أو أي شيء بالمقابل؟.
20ـ اذهب الآن قبل أن تأتي الشرطة هذه المرة حقاً.
21ـ حسناً أيها الأصدقاء.. أنا موجود في سوق الحشمونائيم, في الرصيف2, في الحانوت7. وفي أي وقت تودون الحضور, فسوف أكون مسروراً بتقديم المساعدة.. فقط,ابحثوا عن وجيه.
22ـ إلى اللقاء يا وجيه.




تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الفكرة والدخان لمعين شلولة(*) محتوى الشكل وشكل المحتوى

06-آب-2016

نصوص المرأة في غزة / الجسد يتكلم

25-أيار-2015

عابرون في ثياب خفيفة ناصر رباح وكلاب النثر السوداء

28-أيار-2014

قراءة في قصيدة الشاعر سائد السويركي

01-آذار-2013

نظرات في كتاب حاج حمد (إبستمولوجيا المعرفة الكونية)

25-تموز-2011

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow