Alef Logo
ابداعات
              

حكاية بدرة

سجيع قرقماز

2008-07-20


إنه أحد أيام الجمعة الكانونية الباردة، مع بعض الشمس، وأمطار (البعل) التي كانت وفيرةً هذا العام ، أتمشى في تل رأس الشمرة (أوغاريت ) ، سعيداً برائحة الأرض وعبق (عناة) في كل مكان .
صبيةٌ جميلةٌ بعينين سوداوين ، وجهٌ قمحي ، شلال ليلي يحيط بالوجه ، منديلٌ يغطي الشعر بشكل جزئي ، فستانٌ أرجوانيٌ مشدودٌ من وسطه بشالٍ أبيض َ عليه أزهار النعمان . اقتربت مني بهدوءٍ وثقةٍ . تكلمت بلهجةٍ فيها بعض الغرابة مع أنها تشبه لهجة بنات اللاذقية القديمة ، قالت :

ـ كيفك ؟
ـ مليح ./ أجبت .
ـ أنا بعرف عشو عم بتدوّر .

تأملتها ، لا تبدو من بنات هذه الأيام ، هل هي جنية ، أم حورية خرجت من المينا البيضا ؟

ـ هل أنت حورية ؟
- لا أنا بدرية ، بنتي حورية .

صَمَتَتْ . صمتّ .

ـ كأنك ناوي تعرف شي ؟
ـ بدي أعرف شو قصتك .

خود هالكيس ، اقراه بتعرف قصتي ، وإذا بدك تعرف قصة (أوغاريت ) بتعرفها كمان .

ـ وشو علاقة قصتك بأوغاريت ؟
ـ اقراه وبتشوف .

ناولتني الكيس المليء بالألواح الطينية ، أدارت ظهرها مغادرةً .

ـ إلى أين ؟ أمسكت بها . كيف لي أن أفسر كل هذه الألواح ؟
ـ إذاً بإمكانك قراءة هذه الأوراق .

ناولتني رزمة من الأوراق :

ـ تسليت بنقلها إلى لغتكم ، مشان سهّل عليك المهمة .

اختفت ، لكن انسحابها ترك صدىً في كل الأرجاء :
- اقرأ باسم أوغاريت ... تردد الصدى اختلط مع صوتي :

ـ بدرية.. بدرية ...

لا جواب ، نظرت إلى الألواح لم أجدها ، لكن الأوراق كانت حقيقيةً بين يدي . والعنوان في أعلى الصفحة :
" حكاية بدرية "

" عندما أتيت برفقة زوجي ( ملكو ) وابنتي ( حورية ) وابني (عبدو) أثار هذا المكان إعجابنا ودهشتنا ، توقفنا عند المرج الأخضر ، وكان نهران يحيطان بالمكان بهدوء متجهين إلى البحر : على يميننا ( الدلبة ) وعلى يسارنا ( الشّبَيِب ) ، وصارت الجبال والكهوف الموزعة فيها وراءنا ، ويبدو أننا غادرناها إلى الأبد .

أنا (بدرية ) والبعض يلقبني ( بدرة ) ، حدثت بعض المشاكل مع الجيران في الكهف فقررنا أن نهرب من المشاكل ونبحث عن مكان آخر . وكان زوجي عاقلاً وافـقـني الرأي ، نهضنا ليلاً ، أيقظنا الولدين ، واتجهنا جميعاً نحو الغرب ، حيث وصلنا هذا المكان مع شروق الشمس .

كان المكان جميلاً ، الشمس تملأ المكان ، والمياه من حولنا ، وبعض الحشائش والنباتات والشجيرات . إذاً ... قال لي :

ـ دعينا نبحث عن كهف ٍ نعيش فيه . ولم يكن من السهل إيجاد كهف ، فالمنطقة لا تشبه مناطق الكهوف الجبلية التي خرجنا منها . اتجهنا إلى موقع يرتفع قليلاً عن سطح الأرض ، وضعنا بعض الشجيرات في الأعلى ، حيث ثبتناها على بضعة أحجار ، ونمنا هانئين بعيداً عن الوحوش ، وعن الأشرار الذين كانوا في مناطق الكهوف .

في اليوم التالي وجدنا مكاناً بدا آمناً ، حيث يحمينا مرتفعٌ من الأرض شمالاً وشرقاً ، وضعنا بعض الأغصان الكبيرة في الأعلى ، وبعض الأحجار في الجنوب والغرب ، فصار المكان أشبه بالشرفات التي كنا نبنيها أمام الكهوف ، وبدأنا نُرمم الفراغات بين الأحجار ، ونُكثر من الأغصان والجذوع والشجيرات لتحمينا من أشعة الشمس ، وبدأنا نضع تراباً بين الأحجار مما جعلها تتماسك أكثر مع بعضها ، فصار المكان قوياً ، ويمكن البقاء فيه ، ولا بأس به كبداية .

في اليوم التالي ذهبت (بدرة ) لالتقاط بعض الحبوب "...

اسمحوا لي أن أروي لكم قصتها من الآن بدلاً عنها ، فهي تبالغ قليلاً :

" إذاً ... ذهبت ( بدرة ) لالتقاط الحبوب ، وكان (ملكو ) زوجها يحاول بمقلاعه اصطياد بعض العصافير ، ويتلهى الأولاد بالتفرج ومحاولة تقـليد والديهما ، ومساعدتهما أحياناً . وتمر الأيام بطيئة على هذه العائلة ، ولا بد أن تحدث بعض الاختراقات بين فترة وأخرى . فكانت المفاجأة في أحد الأيام وجود كلبٍ أبيض مرقط بالأسود ، يتردد إلى البيت ، ويقترب من الأولاد ، ويبدو أن الأولاد أحبوه ، فصاروا يلعبون سوية ، وكان ( ملكو ) يلقي إليه بعضاً من صيده ، وصار الكلب واحداً من العائلة . أما (بدرة ) فقد وجدت أثناء تجوالها عنزة صغيرة لا تقوى على المشي ، احتضنتها ، دفأتها ، أخذتها معها إلى البيت ، وصارت تعتني بها ، فصارت من أهل البيت أيضاً . كبرت العنزة ، ويبدو أنها في غفلة عن العائلة كانت تلاقي حبيب القلب في البرية ، حملت .. وولدت ... وصار لها صغارٌ ، وصارت تقدم الحليب للعائلة ....


كانت (ناج ) ، هكذا كانت ( بدرة ) تسميها ، رفيقة العائلة وخاصة مرافقة ( بدرة ) في ذهابها إلى الالتقاط ، كما كان الكلب ( كو ) رفيق (ملكو ) والأولاد في ذهابهم إلى الصيد ، ويبدو أنه الآخر كان يلاقي صديقته في البرية ، حيث عاد الجميع إلى مأواهم في يوم ٍ من الأيام بصحبة بضعة جراء وأمهم . كان الجميع يعود إلى ( الكهف ) مع غياب الشمس ، يدعمونه يومياً حتى صار قوياً متماسكاً يستطيع حمايتهم ، ويبدو أنهم ارتاحوا للعمل في تدعيمه ، فصاروا كلما أضـافوا لُبنة يقولون ( بَنى ) ، ولُبنة فوق لُبنة انتهى البناء ، وارتـأت ( بدرة ) أن يسموا الكهف الجديد (بيت ) : هكذا كتبت ، وأعتقد أنها تبالغ ، حيث صاروا يبيتون فيه دون خوفٍ . فصار لهم (بيت ٌ ) بدل (الكهف ) .

في يومٍ من الأيام كان الجميع قرب النهر ، وكانت الشمس دافئةً ، والجو ربيعياً نظر (ملكو ) إلى سيقان الحبوب اليافعة متسائلاً : كيف تحيى ؟

ـ يبدو من المطر ، ويبدو أن الأرض مثل بطنك يا (بعلتي ) تهبنا المواليد الجدد .

كانت ( بدرة ) وقتها على وشك أن تضع مولودها الثالث . بحث (ملكو) تحت الساق فوجد حبة ً من تلك التي يأكلونها من السنبلة عندما تنضج .

ـ ألا تعتقدين أنها الحبة ذاتها ؟

ـ نعم ، ترى لو حاولنا جمع بعض الحبوب في الحر ، ووضعناها تحت الأرض ، وتركناها تشرب أيام المطر ، هل سيكون عندنا سنابل جديدة في الصيف ؟

ترى هل تبالغ (بدرة ) ؟

حاولوا ، وفي الربيع التالي صارت الحبوب سنابل يافعة ، واخضرت الأرض .

في هذه الأثناء جاء شقيق (ملكو) الذي كان معهما في الكهف ، وقد تزوج صبيةً حسناء ، وهي الآن على وشك أن تضع مولودها الأول ، طلب منهما (ملكو ) أن يبقيا معهم ، إذ يتسع المكان ، وافق شقيقه دون تردد ، فقد أراد أن يبقى إلى جانب زوجته عندما تضع مولودها الأول .

سعدت (بدرة ) بمجيء العائلة الثانية والثالثة ، والرابعة ، وصار في المكان : سبع عائلات . بدأ الجميع بناء البيوت ، وتحسين حياتهم ، وفي يومٍ من الأيام قالت لهم ( بدرة ) :

ـ إننا نحن النساء نتعب من الذهاب الدائم إلى النهر لإحضار الماء ، فطالما أن الماء موجودٌ تحت الأرض قرب النهر ، لماذا لا نحاول الحفر قريباً من البيوت ، ربما نجد الماء ؟ وهكذا كان .. ماء

إذاً : بيت .... بناء.... سنبلة .... ماء.... وفي بضع سنوات ... بقرة .. دجاجات ... ومرت السنوات ، وكبر الأولاد ، وأحبوا بعضهم ، وتزوج بعضهم من بعضهن ، وكثرت الحاجة إلى الأرض ، فبدؤوا حراثة الأرض قرب بيوتهم ووضع الحبوب فيها ليأكلوا القمح والشعير في الصيف القادم ، وسموا المكان الذي يعيشون فيه (أجرت ) ويعني الحقل المحروث ، ولما تعبت أيديهم من قطف السنابل ، صاروا يستخدمون الحجارة الحادة ، ثم اخترعوا (صمد) من هذه الحجارة ليحرثوا أرضهم ، ويفصلوا بالحجارة الحادة الحب عن القشر ....

وهكذا ... صاروا يأكلون ، ويشربون ، وتساعدهم الحيوانات ، ويبنون البيوت ، يصنعون وسائل الحراثة والحصاد ، يطورون طرق الصيد ، وتجرءوا على البحر فأخرجوا الطعام منه ( كان السمك رخيصاً يومها ) .

أثناء تجوالهم ، لاحظت (بدرة ) - يبدو أنها تنسب إلى نفسها الكثير من الأمور - بأن الطين جانب النهر يصبح قوياً في الصيف ، وكأن الشمس تقويه ، فطلبت من زوجها ، وكان قد شاخ قليلاً ، أن يحضر الطين ويخلطه ببعض النباتات الجافة لوضعه بين أحجار البيت ، فتم لها ذلك ، وصار البيت أفضل ، وأحضروا بعد ذلك حجارة أكبر ، وتماسك الطين بفضل الماء والشمس ، وصار الفخار مهمٌ في حياتهم ، وصاروا يقطعون الأخشاب لاسـتعمالها كمقاعد ومناضد ، ويستفيدون من عصير الزيتون والكرمة ، وينوعون أطعمتهم ، ويقتربون من البحر أكثر ، وبنوا الطوف وطوروه ، تنزهوا قريباً من الشاطئ ، وابتعدوا في البحر شيئاً فشيئاً .
بدأت كلمات جديدة تدخل حياتهم ، ومعتقدات غير معروفة من قبل ، وصاروا يروون الحكايا عن هذا المكان ، وكيف بدؤوا بالاستقرار فيه ، و....و... هكذا كانت البداية ، وابتدا الشعب الحكاية . حكاية حبة وتراب وحرف .
عاشت (بدرة ) كما كتبت في أوراقها التي تركتها لي عشـرة آلاف عام ، وهي ماتزال تعيش .... في أوغاريت ."
قلت لكم : إنها تبالغ قليلاً ، لكن يبدو أنها محقة .
18 حزيران 2002

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نسب تنفيذ ٍ جبارة في الإعلام السوري اللاذقية مثالا ً

31-أيار-2011

ثالثة الأثافي في ثقافة اللاذقية

25-أيار-2011

هل يستفيق العرب

26-شباط-2011

يحدث في قرية ابن هاني

02-كانون الثاني-2011

ردا ً على محاولة حرق القرآن

13-أيلول-2010

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow