Alef Logo
ضفـاف
              

يوميات الحرب على لبنان

سامح كعوش

خاص ألف

2006-08-10

اليوم السادس والعشرون للحرب ، و لا أعتقد أن لها عمراً زمنياً محدداً و قد لا تكون اندلعت أساسا ً كحرب، إذ يبدو أنها لم تكن حرباً بين طرفين يمتلك كلٌّ منهما قرار خوضها ووقفها ساعة يشاء ، بل يبدو أنها لم تكن إلا جريمةً منظمةً ضد أطفال ذنبهم أنهم كانوا يحلمون بالحياة. هي حرب قتل الأطفال بامتياز ، و ليس غريباً على ضمير هذا العالم .
المتحضر أن يتقبل مزيداً من القتل المبرمج والذبح و الاغتصاب، و امتهان الكرامة الإنسانية لأطفال و نساء ورجال شعوب العالم المستضعفة من قبل رب البيت الأبيض الأمريكي و حاشيته من القتلة المأجورين ومرتزقة المواقف السياسية و المبادئ المتاجر بها تبعاً لمنطق الربح و الخسارة
اليوم السادس و العشرون للحرب، و لا أعتقد أنها ستنتهي و لو تحقق وقف اطلاق النار فيها، بل إنني على يقين من أن العائلات اللبنانية الألف التي فقدت أبناءها في الحرب على لبنان ستفرّخ مخرّبين و إرهابيين بحسب التصنيف الأمريكي للشعوب، وستتوارث الحقد و الكراهية لكل ما هو اسرائيلي و أمريكي حتى آخر طفلٍ لبناني.
اليوم السادس و العشرون للحرب، و أعتقد أنها بدأت اليوم بالنسبة لي ، فقد كنت قبلها مشدوهاً تدهشني القدرة الفائقة على القتل و التدمير، إلى جانب القدرة الأكثر تفوقاً على الكذب ضد كل ما تعلمته البشرية من قيم ٍ و مبادئَ إلهية و إنسانية منذ حمورابي حتى ما شاء الله من فلسفة وعقائد لم تعلن نهاية التاريخ بعد .كنتُ قبلها أتحرّك خارجي دون إرادة منّي ، و دون أن أدرك شيئاً مما يجري حولي ، و كأنني رجلٌ آليٌّ كثير الحركةِ ، قليل الكلام.
اليوم ، و ربما لأنه اليوم الأول في أسبوع جديد، أو لأنه أطلّ حاملاً وعداً بوقفٍ قريبٍ لإطلاق النار، لم يكن يوماً عادياً، بل صار أكثر تفصيلاً أمام عيني، و بكثيرٍ من الوضوح صرتُ أقرأ اليومية الدموية لطقوس حربهم و أبجدياتِ حقدهم الدفين.
كنتُ أحلم. رأيتُ نفسي أركضُ بأمّي و الأطفال من مكانٍ إلى مكانٍ، تلاحقنا الطائرات من بيتٍ إلى آخر. و يكاد العمر يقع فريسة الثواني القاتلة التي تتقن طائرة المراقبة تركها ملاذاً أخيراً لأعمارنا.
في الحلم، و في بيتٍ اختبأنا فيه ، وجدتُ نفسي أراقب الطائرات و هي تحلق فوق رؤوسنا ثم تختفي، و تسقط السماء علينا، فأنحني فوق أمي و الأطفال. تسقط السماء كغيمةٍ ثقيلةٍ من تراب و دخان رماديٍّ، فأحملها قليلاً حتى أزيح الأطفال و أمي ثمّ أقع مستشعراً حرارةَ سائلٍ ينـزف منّي و لا أراه، ثمّ أسمعُ الدويّ الهائلَ في أذني كأنه نذير القيامة.
أستيقظ من الحلم، لأدركَ أن الدويّ كان لطائرةٍ قصفت قريباً ، لا أدري أين ، الغازية ربما، أو هي الغسانية . فمنذُ بدأت الحرب لم نعد نميز الوقت و الأيام و الأسماء. و منذ بدأت الحرب، لم أعد أدري شيئاً، و كأنها لم تقع، أو كأنني لم أكن أنا.
أجل، لا أبالغ إذا أؤكد أنني تنازلت عن إنسانيتي منذ بدأت الحرب. صرت مشاهداً محايداً لصور المجازر الجماعية و أشكال الإبادة لكل ما هو بشري ، بما يشبه ذبحاً لا يفوقه وحشية أفظع أشكال إبادة المستعمرين الأوربيين لسكان أمريكا الأصليين.
أجل، هي صورة صديقي "أحمد عاصي" على التلفزيون ، أراه يبكي أمام عدسة مصور إحدى الفضائيات و هو يتساءل عن مصير بناته و زوجته. ربما هو كرب الأسرة التي قتلوا جميع أفرادها في "النميرية" بينما كان الوالد خارجاً يبحث عن ربطة خبز لصغاره. رأيته هو أيضاً ينتحب أمام شاشة التلفزيون، و يتذكر ابنته الصغرى التي طلبت منه أن يصطحبها معه لكنه رفض معتقداً أن البيت آمنٌ أكثر.
البيوت قبور، و الصواريخ الذكية تحفر قبراً لكل جثة ، لكنها تنسى يداً هنا، أو رجلاً هناك، أو بعضاً مما يشبه رأساً، أو ربما كان كذلك، قبل أن تعيد تشكيله قذائف الحرب الإسرا-أمريكية.
اليوم السادس و العشرون للحرب وابني الصغير مازال يركض إلى آخر غرفة في أقصى المنـزل ليحتمي فيها كلما سمع صوت طائرة، ولا ينسى أن يقفل الباب و النوافذ جيداً ربما ليتأكد من أن الطائرة لن تمر. بينما تتعمّد ابنتي الصغرى، بنت الثلاث سنوات و الأكثر جرأةً و شجاعةً، الخروج إلى الحديقة لتنظر إلى السماء، ثمّ تعود إلى الداخل مردّدةً :" ما قوّصوني، ما متت".
أتعمّد تشغيل مكيّف غرفة الجلوس، و مراوح السقف والزاوية في كلّ الغرف، و أشكر الله كثيراً، و شركة "جنرال إلكتريك" على برادي الأمريكي الرائع، الذي يهدر كطائرة أف 16، أشكره كثيراً لأنه يشغل الأطفال عن صوت الطائرات التي تتناوب على التحليق في سماء مدينتنا.
" البلاي ستايشن" و الكمبيوتر، و الحاسوب المحمول الخاص بي، كلها لا تكفي أطفالي و أطفال الجيران الذين يرسلهم أهلهم إلى بيتي في الطابق الأرضي الذي يشبه ملجأ. أجد الأطفال يلعبون لعبة الحرب، و يتقنون التصويب ببنادق خشبية وأخرى بلاستيكية. و ينتظرون الطائرة ليكتمل بها لعبهم ، فينبطحون أرضاً كلّما سمعوا صوتها، و يرفعون البنادق عالياً ، يصوّبون نظراتهم إلى السماء، و يسقطون طائرةً.
يمرّ النهار عادياً ، لولا المجازر في "حولا"، و "أنصار"، و "الغازية"، و"حاروف" و غيرها. و لولا عشرات الضحايا والجثث التي يلملم رجال الإسعاف و الصليب الأحمر ما تبقى من أشلائها. و لولا الطائرات التي تهدر في السماء كبحر غاضب. و طائرة الـ"أم كا " التي تطنّ كنحلةٍ شريرة تلسع بإبرها أطفالاً يلعبون في حديقة، يطلقون الرصاص الذي لا يقتل ، و لكن يُسقطُ طائرةً.
أراقبهم بعيني أبٍ بائسٍ، ولا أدري لماذا أستشعر الراحة في مجرد تخيّل كوني طائراً محلّقاً فوقهم، أمسك بالقذيفة ساعة سقوطها عليهم فأعيدها إلى الفضاء الخارجي، كما يفعل "سوبرمان" في الأفلام.

******************************************************************************************
اليوم الثامن و العشرون للحرب يبدأ بمجزرة جديدة في "الشياح"، و أرقام الشهداء إلى ارتفاع، ما يزيد على الخمسين، منهم أكثر من ثلاثين طفلاً.
" الشياح " رسالةٌ سياسيةٌ ربّما، لكنها مقبرةٌ مفتوحةٌ، و مجزرةٌ ترتكبها غربان السماء بحق ملائكة الأرض، "وعد وهبي" بنت الأيام العشرة، حملت "وعدها الصادق" إلى الحياة الثانية، و امتشقت جسدها سلاحاً ضدّ الموت فحملتها الملائكةُ إلى حيثُ وجه الله جميلاً و أبيض كالثلج، و لا أحد آخر.
"وعد وهبي"، "حسين وهبي" ابن السنوات الست، "سارة علي عباس" ابنة السنوات الخمس، "محمد الدهيني" ابن السنتين، و "عبدالله طه" ابن السنة، و "زينب"، و "زهراء"، و "رهام"، و "دلال"، و "خديجة"، و كل " آل البيت " في عاشوراء هذا القرن على أرض كربلاء العاملية، و عطش الشهداء إلى قطرة ماء و ذرّةِ كرامة عربية.
اليوم الثامن و العشرون، تكتشف فيه إسرائيل عدوّها الفعليّ. أجل، هو مختبئٌ في صدور الأمهات، عيون الأطفال في الشياح، أدعية المؤمنين الخاشعين في المساجد و الحسينيات. أجل، هو مختبئٌ في النعش المحمول على الأكتاف في الغازية، الأكف تحمل الأكفان و لا تدري أنها تسير إلى المقبرة بمجزرة جديدة. الأكتاف التي تحمل نعوش شهداء يحملهم إلى مثواهم الأخير شهداء أحياء ينتظرون دورهم في الشهادة. هم آلاف البشر الذين مشوا خلف النعوش و تحتها ، و السماء السوداء التي تشبه الطائرات أمطرتهم بحممها، هم مشاريع شهادة تمشي إلى حتفها منتصبة القامة، مرفوعة الرؤوس أعلى من السماء، عيونها في عين الشمس، تتحدى الوحوش الطائرة بأسمائها، فهذا عليٌّ و ذا حسينٌ، و ذاك محمّدٌ ، و هذا العبّاس و ذاك جعفر ذو الجناحين، و كلهم على "المشرعة" يستجدون السماء ماءً و لا يروي أجسادهم الظمأى إلا دمهُم و غبارُ الغارات.
في اليوم الثامن و العشرين، تكتشف اسرائيل عدوّها الحقيقي. هو الحسين الجنوبي المقاوم بقاذف الأر بي جي و الصاروخ، لا بالسيف. هو كتاب الله الممزق في مساجد "بريتال" و "شمسطار".
"منال الحسيني" في الغازية ابنة الثالثة، و "هادي جعفر" ابن الثانية،و "سحر" عشتار الجنوب التي قامت من تحت الأنقاض بعد اثنتي عشرة ساعة لتقرأ شعراً على مرأى العالم أجمع، تمجد المقاومة و ترفض المذلة، فإما العزّة أو الشهادة.
غيرهم كثيرون، و جلهم من الأطفال. يتدارسون قواعد لعبة الحرب الإسرا-أمريكية و نحْوَ اللغة العبرية، و درسَ قانا و أخواتها. إسمها مقصوفٌ و خبرها معروفٌ، و هي حروفٌ ناسخةٌ تُحيلُ الأبنية ركاماً، و المنازل قبوراً، و الأجسادَ أشلاءَ ما كان شكلاً بشريًّا.
اليوم الثامن و العشرون للحرب، أقفُ في ساحة النجمة في صيدا، منتظراً ربَّ أسرةٍ جنوبيةٍ نازحةٍ من كفررمّان كي أضيفهُ في بيتي، أنا اللاجئُ في وطنهِ. و ألتقي مصادفةً صديقي "أحمد عاصي"، بلحمهِ و لا شحمَ إلا ما يشبهُ ورماً، بلحمهِ ولا ماء في عينيهِ اللتين جف دمعهما و انطفأ البريقُ فيهما. هو الذي التقيتهُ في نيجيريا قبل عامٍ، مشتعلاً حماسةً و طموحاً. أذكرُ كلماته جيداً، " سأبني بيتاً في الضيعة... أنصار أجمل بقاع الدنيا... أرض الجنوب مقدسةٌ، حررناها و سنبنيها من جديد... سنعملُ في المهاجرِ لنبني وطننا ثمّ نعود إليه فلا نتركه ثانيةً أبداً ". أجل، هو أحمد عاصي، الذي عاد بعائلته إلى أنصار ليدفنَ فيها أخاه وبناتهِ ، و أقرباءَ آخرين لا يذكرُ أسماءهم لأنه رآهم بلا أسماء، بلا رؤوس، ببقايا متفحمةٍ لأجسادٍ كانت تحمل بالأمس أسماءها.
في المساء، نشاهدُ التلفزيون، و نبحث عن سببٍ لشجار. ابني يريد أن يشاهد الرسوم المتحركة على قناة ديزني للأطفال، و ابنتي عاشقة نانسي عجرم، تريد شرب آخر زجاجة "كوكاكولا" في المنزل، والتي ندر وجودها بسبب انقطاع طرق الإمدادات الغذائية إلى عاصمة الجنوب و خطورة عبور هذه الطرق الجبلية الوعرة، أو البحرية المستهدفة من قبل طائرات اسرائيل، و بوارجها / أسماكها المفترسة.
أصرخُ:" بابا، أرجوكم، أريد أن أتابع الأخبار لخمس دقائق فقط". و أنتظر فترة الإعلان على قناة ديزني لأختلس النظر إلى قنوات أخرى تبث أخبار الحرب و حيثيات القتل المستمر منذ ثمانية و عشرين يوماً. حتى في بيتي يحاول "والت ديزني" أن يُشعل حرباً جديدة.
في المساء، مساء اليوم الثامن و العشرين للحرب، تنزل نسوةُ الجيران و أطفالن إلى بيتي في الطابق الأرضي، ملجأهم المتواضع أمام شدة هذا القصف. وأصعد أنا لأنام عند جاري في الطابق الرابع. القصفُ على "عين الحلوة" يتواصل، و البنايةُ أرجوحتنا نحن الكبار، "والت ديزني" الإسرائيلي لا ينسانا هو أيضاً.






























تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

افتتاح المؤتمر الدولي الثاني عن الآثار في الإمارات‏

03-آذار-2009

لا يشبهنا في الموت أحد

09-كانون الثاني-2009

الذاكرة تحفر في متخيّل شعراء الحداثة في دول الخليج

09-تموز-2008

لغتي ابتداءُ الكون

07-حزيران-2008

تحولات الرّمل: وعي الاستمرارية في التجربة الروائية في الإمارات

02-آذار-2008

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow