Alef Logo
ضفـاف
              

حلب / الوجه الآخر للقمر

علي محمـّد شريف

خاص ألف

2007-03-31

حلب باب الجنان ، قاعة العرش ..، و باب الفرج ،رحم الله صديقي بدر الدين، كان العالم عنده حلب، قال لي إنّ هذه الآبدة التاريخيّة العظيمة كانت في زمن مضى تعبد القمر، رأى صورته منحوتة في جوف مغارة في حيٍّ منها يدعى دوّار القمر. كان متألّماً لالتفات المسؤولين عن طلباته المتكررة في حفظ هذا الأثر و التحرّز عليه . لم تنجح مساعيه بالرغم من صعوده أدراج البيروقراطيّة جميعها و استحصاله على كتابٍ بهذا الشأن من رئيس مجلس الوزراء في حينه.
و كيف يستجيب معنيٌٌّ ما ، لنداء المحبّ، و هو كارهٌ أو غافلٌ أو متجاهل ..؟
في اجتماع المنظمة الإسلاميّة للتربية و العلوم و الثقافة في الجزائر عام 2004 تمّ اختيار حلب عاصمة للثقافة الإسلاميّة عن المنطقة العربيّة للعام 2006 استجابة للطلب المقدّم لها في اجتماع منظمة المؤتمر الإسلامي عام 2002 الذي انعقد في الدوحة .
و كان لتقديم حلب على غيرها من المدن الإسلاميّة كدمشق أو بغداد اعتبارات محقّة تنفرد بها ، فقد حافظت على الكثير من كنوزها الفنية و المعماريّة و أبقت لنفسها طابعها التراثيّ العريق و المتفرّد ..
و لعلّ في تكريمها كرامة لمكرّمها ، و هي تأخذ بعض حقها في زمن ليس لها ، لكنّ الحديث عن احتفاء بعض أبنائها بها شأن شائك يبعث على المزيد من الألم ، بل هو تجسيدٌ حقيقيّ لواقعٍ مريضٍ و مرّ، بعضُ مفرداته الألم ..
استئثار و احتكار ، فقر و إفقار ، جهل و تجاهل ، وصاية و إقصاء .. ، عناوين أكثر بروزاً لاحتفاليّة " حلب عاصمة الثقافة الإسلاميّة " و النتيجة هزليّةٌ باهتة تضيف ألواناً جديدةً من الإساءة لصورة هذه المدينة ، و تبدع فعلاً في تشويه حلم الانبعاث من رقدة طال أمدها ..
كان يمكن لحلب أن تكون عروساً بكامل فتنتها و زينتها ، توزّع دفء روحها على القلوب الضارعة ، و تنتزع من الصدور الثملة بالعشق آهات النشوة و الفرح ، كان ليدها المزركشة بالحنّاء أن تغرف العطر من كمائن سحرها و تنثره على الحجيج التائقين لمعانقة مآذنها و قبابها و مشربيّاتها ..
خمس سنوات قبل موعد البدء فترة كافية لعملٍ محبّ و دؤوب ، كان يمكن خلال هذا الوقت أن يتمّ التخطيط و إعداد البرامج، و دعوة أصحاب الكفاءات، و تشكيل اللجان المنظمة، و إعداد الكوادر، و إنجاز جميع ما تتطلبه الاحتفاليّة لتكون لائقة بمستوى المناسبة التي ليس بالإمكان استعادتها ..
كان يمكن للحملة الإعلاميّة أن تبدأ من مجرّد تقديم الطلب ، و أعتقد أنّ لإعلامنا القدرة على الحشد و التهيئة و خلق الدوافع لمواكبة الاحتفاليّة باهتمام و شغف ،و لعلّ ما حصل في "الكسوف" دليلٌ جيّد على ما نقول.
لقد بدت حلب في "عرسها" عجوزاً متصابية "يشرشر" من أخاديد وجهها "ماكياج" رخيص ، و يتكسّر الضوء على عوراتها المتشققة من الإهمال و العسف ، بدت مسرحاً متهالكاً و خاوياً سوى من مهرّج وحيد ، و بعض الراقصين المتعثرين ممن يفتقدون مهارة الرقص .. و كانت المسرحيّة مجرّد إنشاءٍ مدرسيّ بليد و بلاغة قروسطيّة ، و قل " سيركاً بائخاً " يعوزه الجمهور ، و لعباً على الحبال التالفة ، مشهدٌ يثير السخط و يبعث على الغثيان ..
ليست حلب هذي المظاهر و الشكليّات المفرّغة من محتواها ، ليست كرةً معدنيّة جوفاء تطنّ على صفيحها ضحكات هستيريّة لعشّاقٍ صغار ، أنانيّين و مخمورين ..
حلب أبعد من أن تكون مجرّد وهمٍ أو إطاراً لوهم . إنها عاصمةٌ للجمال و التصوّف و الصلوات ، لم تمت رغم كلّ الجنازات التي أعدّت لها ، مرّ على جسدها غزاة كثيرون ، أوهنت أطرافها جنازير العربات الصاخبة ، تناهب زينتها العابرون ، امتصّ لبنها الطفيليّون ، و نمت في تكاياها طحالب سوداء ..لكنها جاهدت لتبقي على جوّانيّتها المضاءة بالحبّ ، و على فلسفةٍ تؤمن ببقاء الجذر الصالح و بتجدّد الينابيع.
هل يمكن تحديد المطلق ، أو اختزال الأنوثة في عضوٍ مبتورٍ من جسد ..؟
ذلك ما حاولته بعض العقليّات فهمّشت و أبعدت و احتكرت ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً فكان لانتصارها فيما سعت إليه طعمٌ حامض ، و بالرغم من وجود بعض الأوراق القيّمة على أجندة الاحتفالية ، و من اكتظاظ لافت بالمحاضرات و الأمسيّات و المهرجانات.. إلاّ أنّ الافتقار لحسن الأداء، و غياب الإعلام الحقيقي، و وجود عقليّة الهيمنة و الإقصاء ، وتداول و تسلّط أسماء بعينها تريد تمرير كلّ شيء من تحت إبطها و دمغه بحبر عبقريتها و بركتها .. جعل الفشل حصادها المرّ ، و غابت صورة حلب الحقيقية بما تحمله من تعدّد وعمقٍ و غنى .
كبرت في عين الصغير صغارها و لم تكن هناك خيلٌ و لا بيداء ، ما خلا القليل من النشاطات التي تسللت إليها بعض الروح الطارئة لم نرَ إلاّ السخّام الدبق للعوادم المهترئة ، كان الصدأ ملتصقاً برئة الأمكنة ، و الابتذال و النفاق يصدح في الصالات الخاوية ..، هل حقاً هذه حلب " عاصمة الثقافة الإسلاميّة " أم هكذا أراد لها البعض أن تكون وجهاً آخر للقمر، شاحباً و بارداً و موحشاً..!!؟؟
لا أحد يمكنه تصوّر إرادةٍ سوداء من هذا النوع ، ربما كانت النوايا طيبة ، لكن – كما يقال – جهنّم مليئة بأصحاب النوايا الحسنة .
ثمّ إنّ قراءةً بسيطةً لتاريخ حلب تؤكد أنّ هذه المدينة لم تكن خليلة كائنٍ مفرد قطّ ، لم تستمدّ اسمها من عابرٍ على ظلال سندسها ، وحدها تمنح الاسم و الهوّية و الانتماء ، هي ذاتها و نسيج وحدتها ، يشبهها من توسّد عمره في رحمها ، و يمثّل صورتها من ابتعثته سفيراً لحزنها و فرحها ، و نقشت على جبهته صلواتها و بركاتها ..
و بعد، و قد شارفت على نهايتها فترة تتويج حلب عاصمة للثقافة الإسلاميّة، ما الذي أضافته هذه الاحتفاليّة إلى سجلّ المدينة الذهبيّ ؟.
أيّ معنى بل أيّة قيمة لارتجالٍ يفتقر للإبداع ، ثمّ هل يصحّ الارتجال في مناسبةٍ تتطلب عملاً مؤسسيّاً يتوخّى حسن التخطيط والإعداد و التنفيذ .
لا يمكن للديكور وحده " حتى لو كان جيّداً " صناعة مسرح حقيقيّ ، و ليست القضيّة في تسجيل عددٍ أكبر من النقاط ، و نكرّر القول مع من يقول هل حقاً هذه حلب عاصمة الثقافة الإسلاميّة.
حلب ذاكرة الحياة ، حقائب التعب المخبّأ في جرار الزيت و العنب ، حكايات منقوشة على البلاط و الأعمدة و الأقواس و التيجان ..، و سِفرٌ مفتوح للعابرين و الغابرين ، تنسّمت عبير الحضارات المتعاقبة ، و كسّرت نصال الغزاة على أحجار تلالها ، كأنّها سيزيف في إصرارها على بلوغ الحلم ، أو الفينيق إذ تنهض من رماد احتراقها،هي أنوثة الشمس و ذكورة القمر، و ربّما كانت كلّ الأساطير و الملاحم حين تتزاوج الرغبة في البقاء بإرادة الخلود .
نعم يا صديقي الطيّب "بدر الدين" لم يستجيبوا لرجاءاتك في صون القمر ، و لا في التحرّز على ما تبقى من مستحاثّات جبل العظام ، كانت الروح بعيدة حتى عن المظاهر القشريّة التي كان جلّ همّهم أن تكون إطاراً لصورتهم المبتسمة أبداً .

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

قيل اهبطا

07-تشرين الأول-2007

رغبات يابسة

08-أيلول-2007

شعر / يواقيت مطفأة

29-حزيران-2007

حطّاب الكلمات

22-أيار-2007

حلب / الوجه الآخر للقمر

31-آذار-2007

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow