Alef Logo
ضفـاف
              

ثقافتنـا وثقافتـهم .. أيهما أقـوى ؟

محمود الباتع

خاص ألف

2007-05-12

ما الثقافات الاجتماعية إلا كائنات حية ينطبق عليها ما ينطبق على البشر من الصفات والمقومات وتحمل منهم ما يحملون من مظاهر حيوية كالميلاد والنمو والتغذية والتكاثر، كما يعتريها ما يعتريهم من خطايا وسقطات ووهن وأمراض بل وحتى الموت الذي كما هو دائما تتعدد أسبابه وهو واحدٌ في كل الأحوال. ومثلما يختلف الناس في طباعهم ومشاربهم وشخصياتهم فإن الثقافات تتباين كذلك في ما بينها في الطباع والشخصية والحضور وكذلك في العمق والتأثير، وبدون شك أن لكل ثقافة على حدة ما للشخصية الآدمية من سمات القوة والضعف وكذلك الحكمة والتهور والاندفاع وبمقدار ما تزيد أو تنقص هذه الصفات تكون أية ثقافة مؤهلة لأن تكون نواة حضارة تحمل نفس ملامح تلك الثقافة التي أفرزتها. وقد عايشنا ما طرح في الحقبة الأخيرة من التاريخ المعاصر .

ولا يزال قيد الطرح وبإلحاح مريب موضوع صراع الحضارات الذي هو أصلاً صراع بين الثقافات والذي يحب البعض أن يجملوه إما بغرض الترويج له أو بهدف إنكاره ونفيه تماماً من خلال استخدام التعبير الأكثر لطفاً وهو "حوار الثقافات" أو في أسوأ الأحوال "التنافس الحضاري" الأمر الذي لا ينفي بتاتاً وجود نزاع حضاري وثقافي حقيقي يتوارى تارة ويكشر عن أنيابه تارات أخرى ويتجلى في هيئات متعددة لعل أسوأها ذلك الذي يتخذ شكلاً سياسياً يترجم إلى عمل حربي وحملات غزو واحتلال وما إلى ذلك، وعموماً فإن كل أمةٍ تتولى خوض غمار هذا الصراع بطريقتها الخاصة النابعة أصلاً من المكون الثقافي الذي تعتنقه وتعمل بناءً على فرضياته لتطرحه على الآخرين بهدف أن تثبت لنفسها أولاً ولغيرها بعد ذلك تفرد رؤيتها وصحة منظورها الفلسفي لنواحي الحياة المختلفة وكذلك للبرهنة على تفوق هذا المنظور على ما عداه من فلسفات طمعاً في تكريس تفوق تلك الأمة على غيرها من الأمم.
لقد شاءت المقادير أن يقع عالمنا العربي في قلب هذا العالم كما شاءت كذلك أن تنطلق من منطقتنا هذه معظم الأديان والعقائد التي شكلت بدورها غالبية الثقافات والتقاليد السائدة والمؤثرة بين البشر والتي تناثرت بيننا وحولنا شرقاً وغرباً منذ بدء التاريخ وحتى الآن لتضعنا في لب زهرة هذه الثقافات المتنوعة وفي صميم هذا الموزاييك الحضاري الذي نراه يحيط بنا من كل جانب نجد أنفسنا مضطرين للتعايش والتفاعل معه والاحتكاك به طالما استمرت بنا الحياة. وكما يعرف الجميع أننا كأمة عربية قد تأثرنا عبر الأجيال بهذه التوليفة الثقافية التي بقدر ما كانت مصدراً لإثراء حضارتنا العربية بقدر ما نراها الآن وقد أريد لها أن تكون سبباً وعاملاً من عوامل تمزقها، وهذا مبحث آخر يختلف عما نحن بصدده في هذه العجالة.
منذ ظهور الإسلام ودخول العرب جميعا ومعه الأقاليم الغير عربية المحيطة بهم تحت لوائه فقد أصبحت الثقافة الإسلامية تشكل أرضية مشتركة جامعة بين شعوب العرب وغيرهم من المسلمين رغم تمايز المحتويات الثقافية لكل منها نظراً للموروثات الاجتماعية الفريدة لكل قوم من هذه الأقوام ولكن ظل الإسلام ملجأ مشتركاً ومحبس أمان يحتوي جميع الاختلافات والخلافات في حال نشوئها، ولكن الحال لم يكن كذلك مع أولئك الذين لم يلتحقوا بالركب الإسلامي والذين ضاقت على ما يبدو في ما بيننا وبينهم الأرضية الثقافية المشتركة وتحديداً جيراننا على الضفة الشمالية للبحر المتوسط، بل ربما كان ظهور الشخصية الثقافية الإسلامية الجديدة مبعثاً لغيظ هؤلاء خصوصاً بعد انضواء أقاليم كانت تعتبر امتداداً طبيعياً لنفوذ حضارتهم العتيقة وأعني بها بلاد مصر والشام تحديداً تحت لواء الدولة الإسلامية وكانت القاصمة لديهم هي سقوط بلاد الأناضول ومدينة القسطنطينية عاصمة إمبراطورية بيزنطة تحت سنابك الخيل العثماني لتؤجج مشاعر العداء لهؤلاء المسلمين والتي ترجموها إلى ما بدأ بالحروب الصليبية ولم ينته بالحملات الاستعمارية كان ظاهرها دوافع سياسية واقتصادية ولكن جوهرها كان الرغبة المكبوتة في استعادة تلك البلاد التي سرقها منهم المسلمون الهمج !
نعم، لقد دأب القوم على اتهامنا بالهمجية ومعايرتنا بالبدائية التي ورغم كل ما حققه العرب والمسلمون من مظاهر حضارية حقيقية لا يزال هؤلاء ومن أمامهم لفيف من مثقفينا وبدأب وإلحاح شديدين يجهدون في النيل منها والإقلال من شأنها ومحاولة إثبات التفوق الأوروبي وامتداده القابع خلف المحيط اجتماعياً وثقافياً قبل أن يكون سياسياً واقتصادياً، ويبدو مشروعاً للباحث ضمن تلك المساحة أن يتأمل ويقارن بين الشخصيتين الاجتماعيتين لثقافتنا وثقافتهم ليجد أيا منهما كانت أوقع أثراً وأعمق تأثيراً في الأخرى، ولن أورد في هذا الصدد ما درجنا على ترديده من إنجازات وابتكارات المسلمين وبصماتهم المحفورة في لوحة الشرف التاريخي بتوقيع الرازي وابن سينا وابن رشد وغيرهم، ولن آتي على ذكر اختراعاتهم واكتشافاتهم في الطب والفلك والكيمياء وسواها، ولكن وليأذن لي القارئ الكريم أن نذهب سوياً إلى بعدٍ آخر مختلف وإن كان غير بعيد.
من أكثر النواقص والعورات التي يعيبها علينا أبناء الثقافة الغربية ويدمغوننا بعارها هي اضطهاد المرأة، فبينما تجدهم يقرون على مضض بالتفوق الثقافي الإسلامي والعربي عليهم إبان الخلافة العباسية والعثمانية لا يلبثون أن يشيروا بملء الازدراء والتهكم إلى ما كانت تحتويه قصور الخلفاء والسلاطين من جواري وقيان بالمئات ويعرجون منها على تشريع تعدد الزوجات الذي لم يخترعه الإسلام وإنما قام بتقنينه، ولسنا هنا في وارد تبرير أو الدفاع عن ما يمكن أن يكون من مواطن ضعف في ثقافتنا وإنما لنتساءل، هل هم حقاً يعنون ما يقولون؟
لقد كان الشرق وما يزال موطن السحر والجمال بالنسبة لأبناء الثقافة الغربية وكان سحر الشرق وجماله كامنا في غموضه الذي استعصى على الفاتحين والشعراء والفنانين من بينهم على حد سواء وكانت تلك الجارية التي تختبئ خلف مشربيتها في الحرملك هي أشد ما يلهب أخيلتهم ويثري أدبياتهم، وهاهم وإبان بدايات عصر التنوير والفتوحات الأوروبية في الفترة من القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر يختلسون من ثقافتنا نظام الجواري حيث كان أثرياؤهم دون غيرهم يقومون باقتناء المحظيات اللواتي أطقوا عليهن تسمية (أودا ليسك) وتعني (التي في الغرفة) والكلمة مشتقة من كلمة (أودا) أو (الغرفة) باللغة التركية، بينما كان فقراؤهم يكتفون وبشغف بشراء لوحات تصور الحريم. ولم غريباً في ظل هذه الأجواء أن يحلم فيكتور هوغو الشاعر الفرنسي الأكثر رهافة ومبتكر شخصية جان فالجان بطل روايته (البؤساء) أن يحلم بسلطانة من الشرق في قصيدته (السلطانة المحظية) حيث يثير فينا هذا الحلم الأثيم تساؤلاً عن دوافع هذا الشاعر الفرنسي المتحرر في أن يتسلل إلى بلاط السلطان ولو في أحلامه ليجلس على عرشه ويحظى بامرأته وكيف ولماذا أبت عليه حريته أن يطلق عنانها في مكانٍ آخر؟ إنه سحر الشرق ولا شيء غيره الذي بسط سيادته على عقل هوغو وألهب خيال وعقل ووجدان الغرب الأوروبي برمته ولا شك.
وفي مرحلة لاحقة كان الشرق العربي الخاضع للاحتلال من قبل قوى الاستعمار وعلى الرغم من ذل الاحتلال كان الشرق يجعل من المحتلين الأجانب مهووسين بغموضه ودعونا نتأمل هذا الفنان الإنجليزي الباذخ جون فريدريك لويس الذي عاش في القاهرة بين عام 1841 وعام 1851 وهو يرتدي زياً شرقياً كملابس الأعيان العثمانيين وأقام في بيت مملوكي بحي الأزبكية وقضى لويس فترة إقامته التي كرسها ليرسم من الخيال لوحات لحريم السرايات الذي كان سر إبداعه فيها هو أنه لم يطأ قط عتبة أي منها!
افتتن أهل الغرب بنا وبنظامنا الاجتماعي ولا يزالون به مفتونين وبعد أن انهار هذا الحرملك البغيض لدينا وبدأت نساؤنا في تلمس طريقهن خارج أسواره نرى أن الحرملك قد تطور ضمن بيئتهم لتتحول المرأة بفعله إلى سلعة رائجة في مجتمعاتهم وعلى رؤوس الأشهاد وعلى عين كل ما يزعمون من حرية ومساواة، فها نرى بأعيننا كيف تستعبد دور الأزياء وباشاواتها الجدد وكذلك شركات الإنتاج السينمائي في مجاهل هوليوود هؤلاء الفتيات العارضات منهن والممثلات وتفرض عليهن نظاماً صارماً من العلاقات والسلوكيات المليئة بالاستبداد وما يشبه الاستعباد فضلاً عن أنظمة التغذية والصيام القسري والتضور جوعاً حفاظاً على رشاقتهن التي يريدون لها أن تكون عنواناً للجمال، وفي الوقت الذي يقرن فيه العالم المال بالسلطة نجد أن جاريات العصر الحديث وبينما تتدفق الملايين من بين أيديهن لا يملكن من أمرهن شيئاً على الإطلاق، وإذا لم تكن هذه هي العبودية فماذا تكون إذن ؟
من المفيد أن نتذكر في هذا السياق كيف أن جحافل هولاكو وبعد أن عاثت في بلادنا قتلاً وتدميراً عاد أبناؤهم إلى بلادهم مسلمين، وليس مفارقة أن مغول العصر الحديث وبعد أن استولوا على حاضرة العراق وفي غضون أقل من ثلاث سنوات قد أصيبوا بالعدوى ذاتها التي زعموا أنهم ما جاؤوا إلا لاستئصالها وهي عدوى الاستبداد ورأينا كيف أن دولتهم قد قامت سنت تشريعات لاستخدام العنف والتعذيب في عمليات التحقيق مع المشتبه بهم في أميركا نفسها وكيف أنها قد أجازت لأجهزتها ومخابراتها التصنت على مواطنيها دون إذن قضائي مسبق وكيف أنهم قد أباحوا الاعتقال دون محاكمة أو تهمة لمجرد الاشتباه. وبينما نحن نجهد ونجاهد للخلاص من جراثيمنا الاجتماعية والسياسية والثقافية نجدهم يصابون بها بكل جدارة واقتدار وأيضاً بكل شغف.
ليس صعباً أن نستنتج من الذي تأثر بمن ؟ ومن الذي يحمل ثقافة أقوى وأكثر تأثيراً من الآخر ؟ ومن منا يملك كاريزما ثقافية أقوى من الآخر وأي من الثقافتين يملك مقومات البقاء وأي الشخصيتين تملك نفوذاً على التاريخ والجغرافيا أشد من الأخرى. وبينما نحن نجهد في إصلاح عيوب ميراثنا الثقافي ندعو الغرب العتيد لأن يضع أسلحته الفتاكة جانباً وأن يتفضل لنتحاور معاً كما يتحاور المتحضرين ونتنافس بروح إنسانية خالصة ودعونا بعد ذلك نرى من الذي سيطغى أخيراً ولمن ستكون الغلبة في النهاية . ولكم مودتي !

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مطلوب شهادات وفاة ..!

23-نيسان-2008

ملف فيروز في دمشق / صح النوم . . من بيروت إلى الشام

15-كانون الثاني-2008

هـل كان يجـب أن تمـوت بـدور؟

03-تموز-2007

ثقافتنـا وثقافتـهم .. أيهما أقـوى ؟

12-أيار-2007

التطرف ومنهجية التقديس

31-آذار-2007

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow