Alef Logo
كشاف الوراقين
              

"بنات نعش" للروائية السورية لينا هويان الحسن

راسم المدهون

2008-10-26


توغل الأدب في شعاب حياة البدو وعوالمهم
توقفت طويلا أمام رواية الكاتبة السورية الشابة لينا هويان الحسن "بنات نعش" ( منشورات دار ممدوح عدوان – دمشق – 2008) لأسباب متعددة وجديرة بالانتباه ، فهي أولا رواية ناضجة بالمعنيين الجمالي البنائي والفكري الذي تحمله كحكاية ومضامين0 ثم أن موضوع الرواية بالذات حمل خصوصيته وندرته ، فهذه الكاتبة التي تنحدر من أصول بدوية غامرت بكتابة رواية عن عالم البدو السوريين في صحرائهم المفتوحة والتي كانت تتسع لخطواتهم ولعدو خيولهم فتشمل الأراضي العراقية وفي مرحلة تاريخية عاصفة تتجاور مع مقدمات الحرب العالمية الأولى0
اللافت في "بنات نعش" أنها تصدر اليوم بطبعتها الثالثة وفي مدى زمني لا يتجاوز العامين0
هي كلها عوامل تأخذنا نحو الانتباه لهذه الرواية ومحاولة رؤيتها كعمل أدبي فني أولا وقبل أي شيء آخر0
منذ السطور الأولى تدلّنا لينا هويان الحسن على "نواياها" الروائية حين تعلن في المقدمة أو ما يشابهها أنها بصدد كتابة رواية عن أهلها البدو ، عن حياتهم ، تاريخهم ، وبالذات عن تلك العوالم شديدة الخصوصية التي تميزهم وتطبع حياتهم وطرائق عيشهم0
تقول لينا : "لا بد أن أؤكد أنني اخترعت القليل في هذه الرواية00 رغم أكثر من سبعين سنة مرّت على أحداثها00 لكن الزمن يطرح نفسه منذ الصفحات المبكرة الأولى من حياتنا00هذه الحقيقة تفرضها لعب الماضي لكل منا0 قلت هذا حتى لا يفاجئكم ما غزله قلم فتاة تعيش في دمشق ، وتشرب قهوتها في مقاهي حي القيمرية0 خطر لي أنه من الممتع أن أذكر لكم أنني أحمل دم أحد أبطال هذه الرواية بحكم القدر وحده00إنني حفيدة أحدهم"0
مع ذلك نسجل للرواية وكاتبتها أنها جاءت بعد كل هذا التقديم وما حمله من إشارات بعيدة تماما عن "التأريخ" بمعناه المتداول والمألوف ، فنحن لسنا إزاء رواية تاريخية توثيقية أو تسجيلية ، بل إن تاريخيتها تنحصر تماما في تقديمها عوالم أبطالها أولئك الذين كانوا هنا ذات يوم ، وتذهب معهم إلى مطالعة مراياهم الشخصية وما فيها من أهواء ونزوات ورغبات جامحة ، بل وعنف مفتوح على حياة سمتها الأبرز المغامرة الفردية0
في "بنات نعش" ثمة عدد كبير من الأبطال والشخصيات الروائية ، ولكن شخصا واحدا بالذات سنجده في بؤرة الأحداث يقف كنقطة ضوء ساطعة تكشف كل الشخصيات الأخرى ، وتبرز في ضوئها الحكايات الكثيرة ، الصغيرة ، الجانبية والمكملة التي تقدمها الكاتبة على هامش الحكاية المركزية ، ولكنها تحرص أن تظل ممسكة بخيوطها تلجم استرسالها وتوقفها عند حد معين لنظل دائما مشدودين نحن والكاتبة بحكاية ذلك الرجل المجبول من تناقضات الدنيا "الأبهر سعدون" في صعوده وفي سقوطه التراجيدي كما يليق ببطل فردي يرسم خطوطه على رمال الصحراء بالدم مرة ، وحكايات العشق مرة أخرى ، فيما هو في الأحوال كلها أقرب ما يكون إلى شخصية تراجيدية تحمل في كيانها أسباب موتها بطريقة فاجعة خصوصا وأن أحداث حياة تلك الشخصية تتوازى تماما مع مرحلة تاريخية كانت أقرب إلى مرحلة المغامرين إذ شهدت العديد من الجواسيس ورجالات الاستخبارات الغربيين الذين جالوا الصحراء للتحالف مع العشائر وهم يهيئون المسرح لتقسيمات ما بعد الحرب العالمية الأولى0
في الرواية نحن أمام رجال ونساء من البدو يختلفون بقسوة تصل حد القتل ، ويعشقون بجنون يجعلهم مفتونين بعشقهم يذهبون وراءه إلى حدود المغامرة واجتياز مخاطر الموت0 إنهم شخصيات "بنات نعش" رجالها ونساؤها وما يحملونه في صدورهم من نزعات فردية تجعلهم ينحازون بكليتهم إلى الحدود القصوى من الرّغبات والأهواء0
العشق هنا أقرب إلى بدائية العلاقة بين الرجل والمرأة إذ هو مزيج من الحب ومن الشهوات الدموية التي تدفع أصحابها إلى التمرّد على التقاليد0 يحدث ذلك في مجتمع كان "الغزو" أحد أركان حياة ناسه الذين تنحصر ثرواتهم بينه وبين الصيد البرّي0 هنا يلفت الانتباه نوع الصيد الذي كان منتشرا في الصحراء السورية – العراقية في العشرينات ونعني صيد الوحوش الكاسرة وبالذات السباع من أجل الحصول على جلدها وبيعه بأثمان باهظة في أسواق دمشق وبيروت ، وبالذات للشخصيات الأوروبية من النساء والرّجال0
"الأبهر سعدون" في رواية لينا هويان الحسن رجل العشق والدم الذي يجوب الصحراء ولا يكاد يستقر نراه في علاقاته النسائية جامحا في رغباته الجنسية ومع ذلك هو يظل مشدودا بكليته نحو تلك الحبيبة التي لا يتقدم في اتجاهها في صورة جدية إلا متأخرا وفي مشهد تقدمه لنا الكاتبة كأجمل فصول الرواية حين يخطوا الأبهر بحصانه أمام حبيبته التي يلاحقها زوجها فيعبر الفرات كي تعبر خلفه بحصانها ولكن رصاصات الزوج تسبقه0
لا عشق في "بنات نعش" ينتهي بنهايات سعيدة : إنها قصص عشق تذهب نحو نهايات مأساوية بالغة القسوة وكأن قدر البدوي والبدوية أن يدفعا دائما ضريبة "العشق الخالد" الذي تصنعه وتشكّل ملامحه القفار الممتدة على مساحات بالغة الإتساع0لعلنا هنا سنظل نتذكر حكاية الزواج الذي يقدم عليه عاشق جريح يعيش ساعاته الأخيرة وهي في تقديري إحدى المشاهد التي لا تنسى في الرواية كلها0هو مشهد يحمل أيضا دلالاته الرمزية عن انبثاق الحياة والولادة من لحظة الموت ولكن لعله الموت حبا0
مع رواية "بنات نعش" تذكرت "تراس بولبا" ليس بسبب حوادث متشابهة ، بل بسبب البنائية الذاتية للبطلين فالأبهر سعدون هو تشكيل إنساني من تناقضات البراءة مرة والقسوة البالغة مرّات ، رجل يقتل بأعصاب باردة ولكنه بنفس القدر يحن إلى قصيدة شعرية كتبها ذات يوم غابر أمير من أمراء البدو عن حبيبته0
أهم ما في رواية لينا هويان الحسن هو اتكاؤها على بنية حكائية قوية ومشوّقة ، فالشخصيات الرئيسة اللافتة والمميزة تعيش أيضا حيوات مفعمة بالأحداث الكبرى ، الحادة والتي تجعلنا مشدودين لمتابعة القراءة بشغف واهتمام رغم امتداد الحوادث على رقعة جغرافية كبرى من الرّقة السورية وصحرائها إلى بغداد ودمشق وبيروت، ومن مضارب البدو ومغاورهم المنحوتة في سفوح الجبال ، إلى أضواء المدن وبيوتها المرفهة0
هي رواية تذهب في اتجاه مغاير للروايات السورية الجديدة سواء بخياراتها الإنسانية ، أو حتى بفنياتها التي تجعلنا ننظر بجدية وترحيب إلى موهبة كاتبتها الشابة خصوصا وأن "بنات نعش" هي تجربتها الروائية الرّابعة0
في الرواية اهتمام بالغ بالشخصيات وملامح رسمها ، ونحن مع تلك الشخصيات نلحظ جماليات فنية سمتها الأهم حضور العلاقة الوطيدة بين الشخصيات ووعيها وطرائق تصرّفها وردود أفعالها0 كما نشير هنا إلى دقة وجماليات تصوير الحياة البدوية وما تخلقه من عادات يومية والأهم ما تشكّله من ذهنيات و"ثقافات" نراها تطبع الرجال والنساء وتحدد هواتهم0
"بنات نعش" رواية العوالم البدائية في زمن العولمة0
إنها قراءة جمالية لروح الصحراء وأهلها ، قراءة تحمل الكثير من أسباب المتعة وتؤكد حضور كاتبتها بقوة0

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

سعد الله ونوس.. نجم حياتنا المتوهج أبدًا

06-حزيران-2020

عن الثقافة والفن في ميدان التحرير

16-شباط-2011

"كثيرة أنت" للشاعرة السورية سوزان ابراهيم وحيدة ولي ما لـيس لهنّ

27-تموز-2010

حتى أنت يا فرنسا / ماذا عن الحرية والإخاء والمساواة

23-تموز-2010

«الضّباب بحذافيره»الهامشي في تجلّياته وحضوره الشعري

09-أيار-2010

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow