Alef Logo
كشاف الوراقين
              

الجنس ميتافيزيقي كالموت والتبّدل تجربة في العدم

ناظم السيد

2007-07-10

"الغابة النروجية" لهاروكي موراكامي

عندما نشر هاروكي موراكامي روايته "الغابة النروجية" (صدرت بترجمة سعيد الغانمي عن "المركز الثقافي العربي") عام 1987 في اليابان بيع أربعة ملايين نسخة منها. لم يكن هذا الروائي الثلاثيني آنذاك معروفاً في بلده. شهرته حدثت في الولايات المتحدة الأميركية أولاً حيث يدرّس الأدب الياباني. هو نفسه بدأ الكتابة بالإنكليزية في روايته الأولى "أسمع الريح تغني"، إذ كان يكتب الجملة بالإنكليزية ثم يترجمها إلى اليابانية. هذا الأثر الغربي سيبدو واضحاً في كل كتاباته سواء على المستوى الثقافي أم على مستوى اللغة.
تتحدث "الغابة النروجية" عن شاب في السابعة عشرة يدعى تورو واتانابي ينتحر صديقه الوحيد كيزوكي في السن نفسها.
يقع البطل في حب صديقة صديقه ناوكو بعد انتحاره ويرتبطان في علاقة غريبة وقاسية. تعاني ناوكو أمراضاً نفسية وتقرر ترك طوكيو والعيش في مكان ريفي معزول أقرب إلى المصح. يستمر واتانابي في مراسلتها دائماً وزيارتها بشكل متقطع. لكنه من جهة أخرى ينصرف إلى ممارسة الجنس بكثرة بعد وصوله إلى الجامعة ولا سيما برفقة صديقه الدون جوان ناغاساوا. يقيم علاقة غير واضحة مع فتاة تدعى ميدوري. شيئاً فشيئاً نكتشف أن أقدار شخصيات الرواية تتشابه: عم ناوكي يموت انتحاراً كذلك أختها الجذابة والناجحة اجتماعياً. هاتسومي صديقة ناغاساوا تنتحر أيضاً. الموظفة كينوشيتا في مكتب الأشغال في المصح حيث تعيش ناوكو تحاول الانتحار. بقية الأحداث الأساسية أتركها للقارئ للانصراف إلى الكلام على هذه الرواية المؤثرة بالفعل.
تقوم الرواية- إذاً- بين حدّين يكملان أحدهما الآخر: الانتحار والانهماك بالجنس. فكرة ليس مفاجئة إذا فكرنا فيها بالمعنى الفرويدي. لكن موراكامي لا يجعل الجنس مقابلاً للموت على الأرجح. إنه يجعله شكلاً من أشكال الموت. يحضر الجنس في الرواية بوصفه استنزافاً وقتلاً للمشاعر ولا سيما أن انتحاراً كبيراً (لن أسميه) في هذا العمل يحدث بسبب ممارسة جنسية وحيدة. هذا تفكير. التفكير الآخر أن الجنس يتشابه مع الموت في كونهما من أعمال الميتافيزيق. كلاهما حاضر بفعله المادي الواضح والصريح وكلاهما يحدث بلا سبب مقنع وبلا تفسير. يأتي الموت بلا سبب. يأتي فجأة بكل غموضه. المرض ليس عاملاً. الانتحار لا يحتاج إلى أمراض ولا سيما أن المقدمين عليه في معظمهم أناس أصحاء وناجحون. الانتحار قدر في الرواية وربما في الحياة. كذلك الجنس. الانهماك بالأفعال الجنسية ليس رغبة في الإشباع بل في القضاء على هذه الرغبة. ليس فعلاً للإمتاع بل للتغلب على هذه المتعة. ليس غريزة بل ارتجال. ناغاساوا يخرج كل ليلة بحثاً عن امرأة من غير الشعور بالمتعة. مجرد تمرين على إبادة هذه المشاعر الميتافيزيقية. مجرد تحويل للنزوات البديهية إلى مسألة غيبية. هذه إحدى علامات الروح اليابانية حيث يتجاور الانتحار مع النمو الاقتصادي. هل يمكن اعتبار الكاميكاز أو منتحرو الخرافات الفلكية في اليابان مسألة أنطولوجية؟ هل يمكن النظر إلى العقل الياباني الاقتصادي كنوع من الإفراط في الجنس؟ ألا يشبه الاقتصادُ المحموم الجنسَ المحموم في الانخطاف والسرعة والاستنزاف وإرهاق الجسد بمتعة واهمة ومكسب فائض على الحاجة؟ تخطر لي هذه الأسئلة بجدية تفوق قدرتي على الشرح، معتقداً في الوقت نفسه أن هذه الأسئلة تقع في الطبقة السفلى والأعمق لأدب موراكامي. هذه نقطة في أعماله
جديرة بالانتباه. الروائي الذي يبدو مفرطاً في واقعيته ولغته اليومية يخفي تحت هذه القشرة الكثير من العمق. بمعنى آخر، إنه يحوّل الواقع إلى عالم غير مرئي من خلال المرض المفاجئ، الحب القدري، العُصاب بلا تفسيرات، الانتحار كنضج نهائي، الجنس كرغبة في العدم. وكما يتبادل الجنس والموت الأدوار، أو كما يحضر الجنس كانتحار آخر، يجعل الروائي الفاصل بين الصحة والمرض واهناً. في المصح النائي حيث تعيش ناوكو يتبادل المرضى والأطباء والممرضون الأدوار. الطبيب مياتا يتحدث باستمرار عن العلاقة بين حجم الذكاء والدماغ وأسباب اختلاف أصابع اليد في الطول، الرجل البوّاب المسن يبدو مجنوناً، الممرض توكوشيما يعاني من مشكلة الشرب المرعبة. عالم يختلط فيه كل شيء. كل شيء تقريباً.
هذا الاختلاط جزء من بنية الرواية أيضاً. ليس هناك من فاصل بين الحقيقة والوهم، الواقع والمتخيل، العقل والجنون، الحياة والموت، الانهمام بالجنس والرهاب من الجسد، الوعي واللاوعي. ثمة إضاعة للحدود بين العوالم والحالات. الرواية نفسها تحدث بطريقة التذكر. يتذكر واتانابي بعد 18 سنة ربيع 1969 حين قام مع ناوكو في رحلة إلى بئر الحقل حيث يختفي الناس. أشياء كثيرة مرت في تلك السنوات الطويلة. أشياء كثيرة اختفت وتفاصيل لا تُحصى ضاعت وأحداث تراكمت بعضها حصل بالفعل وبعضها اخترعته المخيلة و"كل ما بقي هو خلفية، مشهد خالص، ليس في واجهته أحد". هنا تطرح الرواية إشكالية أخرى تبدو من إشكاليات الرواية دائماً: الذاكرة والسرد. إن الزمن يعيد ترتيب الذاكرة بطريقته الاعتباطية، يحذف ويضيف، يحوّر ويصحح، يشوّه وينبّه، يوقظ أحداثاً ويدفع بأخرى إلى النوم. على هذه الأسس يمكن قراءة أعمال موراكامي بطريقتين: الطريقة المباشرة التي تطفو على السطح حيث الأحداث السردية العادية أو شبه العادية والطريقة الطبقية (من مراكمة الطبقات) حيث تتحول الأحداث العادية إلى تأويلات متعددة بحسب مستوى القارئ ومتطلباته.
إذاً، ثمة طبقات في "الغابة النروجية". في حين يبني الروائي معماره على العلاقة بين الجنس والانتحار بطريقة ما، فإنه لا تفوته تلك النظرة البانورامية. تجري أحداث الرواية بين أواخر الستينات وأوائل السبعينات. لهذا هي ترصد حركة المجتمع الياباني في تلك الفترة. السياسة حاضرة بالكم المناسب لعمل كهذا. ثمة نقد لليسار الياباني المتمثل بتظاهرات الطلاب في الجامعات وتحديداً جامعة طوكيو. هناك نقد لليمين أيضاً. باختصار تحضر السياسة كابتذال لا يقلُّ عن الجنس الخالص، هذا إذا اعتبرنا الجنس ابتذالاً. ثمَّ هناك ذلك التتبع الحاذق للمرحلة التي ينتقل فيها البشر من المراهقة إلى الشباب، ولا سيما أن غالبية شخصيات الرواية من الجيل الشاب. كذلك لا تغفل الرواية العمران في طوكيو والاقتصاد الياباني المحموم الذي لم يترك فسحة للطبيعة الخارجية وربما للطبيعة البشرية إذا ما أردنا تجنب كلمة الروح. وربما من الجيد الإشارة إلى امتلاء الرواية بعبارات تضيق ذرعاً بالأماكن الضيقة والعمران الذي لم يترك حديقة ورغبة ميدوري الدائمة في تسلق الأشجار أثناء سيرها في الطرقات رغم عدم وجود الأشجار واختراع المصح الريفي النائي حيث يتساوى الأصحاء والمرضى في الصحة والجنون. وأخيراً، هناك رصد التغريب الذي بدأ يغزو اليابان بعد الحرب العالمية الثانية. وهنا لا بدَّ من عود على بدء، أي علاقة موراكامي بالغرب ثقافة ولغة كما ورد في البداية.
يعبّر موراكامي عبر شخصياته عن ذائقة (ثقافة) فردية- ومن خلفه معظم الجيل الجديد في اليابان- شديدة التغريب. في "الغابة النروجية" كما في روايته التي صدرت عن الدار نفسها في الوقت نفسه "جنوب الحدود غرب الشمس"، ثمة حضور قوي للموسيقى الغربية (الكاتب نفسه سبق أن افتتح نادياً ليلياً ويكتب في النقد الموسيقي) سواء كانت كلاسيكية مثل بيتهوفن وموزارت وغيرهما أم معاصرة. المغنون المحببون لواتانابي وناوكو وصديقتها في المصح رايكو إشيدا وغيرهم هم جون لينون، بول مكارتني، جورج هاريسون، بوب ديلان، كارول كنغ، ستيفن وندر وآخرون. حتى عنوانا الروايتين "الغابة النروجية" و"جنوب الحدود" هما اسما أغنيتين غربيتين. الكتّاب المحببون لدى واتانابي وناغاساوا هم الروائيون الأميركيون على وجه التحديد والأوروبيون عموماً: ترومان كابوتي، جون أبدايك، سكوت فيتزجرالد، ريمون تشاندلر وجون شتاينبك وصولاً إلى توماس مان. الطعام في الرواية يختلط ما بين ياباني وغربي (سندويشات سريعة، بيتزا...). الشراب الغربي وأنواع الكوكتيل من ويسكي وبيرة وغيرهما يحضر أكثر من الساكي. الثياب هي الجينز والتنانير القصيرة والبلوزات الأجنبية لا الثياب التقليدية. لهذا تبدو لغة موراكامي أقرب إلى لغة الكتّاب الأميركيين: بسيطة، عملية، مقتصدة، واقعية، ذات تأملات حياتية وجمل قصيرة. إنها اليابان الخارجة مهزومة من حرب عالمية والذاهبة طوعاً إلى الغرب لغة وملبساً ومأكلاً وثقافة. والحال، يبدو العدم الذي يسيطر على الشخصيات هو عدم الانتقال من ثقافة إلى أخرى مثلما هو عدم الانتقال من مرحلة عمرية إلى مرحلة عمرية أخرى. إنه عدم الفترات الانتقالية وقلق التبدل والتغيّر. إنها آلام الانسلاخ وإن كان الرضا هو ما يبديه الكاتب في هذا التعبير المقصود عن نسيان الذات الأمبراطورية.


(جريدة "السفير")

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

حازم صاغية في ’مذكرات رندا الترانس’: سيرة ذاتية تتجاوز الذات ولغة ملتبسة تعكس الالتباس الجنسي

06-نيسان-2010

محمد علي شمس الدين يرى أن الشعر يمرُّ في اختناقات يخلصه منها النثر

12-كانون الأول-2009

الجنس ميتافيزيقي كالموت والتبّدل تجربة في العدم

10-تموز-2007

'برهان العسل' الرواية الأولى للشاعرة سلوى النعيمي

28-حزيران-2007

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow