Alef Logo
ابداعات
              

مسرحية من فصل واحد / أنا وهو والكلب

نبيل الصالح

2009-02-09



"إلى ذئبة استكلبوها .. مع ذلك انها ذئبة "

ما قبل الخشبة

ليس بوسعنا أن نقول إن هذا لم يحدث ..
كل مافي الأمر أن ما حدث كان قد حدث ، حين مارست البشرية بهجة أن لاترى ولاتسمع، ولأنه حدث، جئنا للمسرح، ففي هذا الحيّز المعتم من الكرة الأرضية، بوسعنا أن نرى مالا نراه حين تكون أضواء المنازل مبهرة، أو حين تكون الأرصفة مبهرة، أو حين تأخذ القمامة شكلاً مبهراً .
- ما الذي يختلف إذن ؟
إن الاختلاف يبقى في الممكن والمحتمل، فمن المحتمل جدا أن نستطيع التقاط الصراخ الذي تطلقه مراوح السقف، لكن الممكن مازال أن نستبدل اللعبة، أو نحدث شيئا جديدا فيها، ولكن إذا ما فعلنا ذلك فإننا سندخل لعبة ممتعة خاصة وأننا كثيرا ما واجهنا ممانعة هائلة في اللعب، وهذا ما سيدفعنا لكي نسأل :
- لماذا نحرم من اللعب ؟
لأن اللعب يعني إعادة توزيع أثاث حياتنا.. توزيعه على نحو آخر .. على نحو مختلف 00
وحين نفعل ذلك فإننا سنعيد توزيع الأفكار المتصلة بها ، فبين المقعد اللعبة ، والمقعد الممنوع من اللعب، مسافة شاسعة قد تكون كفيلة بكم صراخنا لنقبل مالا نقبله، وهنا يتدخل المسرح .
- من كان بوسعه أن يتحرك على حافة مقعد كاليغولا مثلا ؟
- من كان يدرك بأصابعه نوع الخشب الذي يحمل يوليوس قيصر ؟
- من كان يستطيع أن يلامس الملابس الداخلية للملك لير ، ذاك المخدوع بالملك والمملكة والنسل والعزلة باعتبارها الضجيج الإلهي الذي يرفع شأن المملكة والملك ؟
لقد كان على ممثل يتحمل إذلالات الصباح، أن يرتدي في ليل المسرح رداء الملك، وكان عليه أن يصدق بأنه ملك، ولو لم يكن الأمر كذلك لأسدلت الستارة ووقف قاطع التذاكر عن العمل، وخرج مشاهدو المسرحية من مقاعدهم ليهتفوا بسقوط المملكة والملك .
إن هذا لو حصل فان الملك الممثل سيعود ثانية إلى رصيف الصباح، حتى ولو الليل انتصف .
لذا نلجأ لنمسرح ما حدث .
ومن الضرورة في حال كهذه ( لا بل من الفضيلة ) أن نعطي للأحداث أسماء أخرى، وللأشخاص أسماء أخرى، ونكثف بعد ذلك أعمارا طويلة في جملة أو إشارة، أو حدث لم يحدث فعلا، وهنا تأخذ البشرية طريقا آخر نحو الحلم، لتعيد توزيع القلب، والعين، والأذن أيضا ، وعند هذا قد تسمع مالم تكن قد سمعته , وترى مالا يمكن فيما مضى أن يرى، وأن مارس الرغبة بقلب آخر، ليس ذاك القلب الذي كان يتجول ما قبل دخول المسرح
- ثمة مغامرة أولى هنا، ومغامرة ثانية أيضا .
في الأولى نعيد رسم الدم والأحذية وهدهدات الموت على شكل لغة
وفي الثانية نخلع أنفسنا لندخلها فيما ندخل اللعبة
وكلما أمعنا في اللعب أكثر، فمتوالية المغامرة تأخذ طريقها إلينا، لتصبح المغامرة خصيبة وشهوانية وتأخذ ما ليس من حقها، ليكون حقا لنا :
- وهذا على ما يبدو هو المبرر الفعلي لظهور الكتابة أو الأدب ، منذ سقوط آدم عن الشجرة ( أو صعوده فوقها) وصولا إلى أن بتنا نتكلم لغة سكان هذا الكوكب الذين لا يعرفون كيف يتدبرون أمورهم .
- لماذا نعقّد المسألة ؟
في المسرحية حكاية قتل، هل من واجبنا أن نضع تعليمات صارمة لكمية الجرعات التي على المخرج أن يبتلعها ليقنعنا بأن القتل قد تحقق، فيما الرصاص ينهمر على بوابة فمنا ؟
جنرال هذه المسرحية لن يتدخل في مصيره ، ولن أتدخل أنا أيضا .. كل مافي الأمر أن الأوراق البيضاء التي اضطجعت على الطاولة ووجها للحائط والمصباح مطفأ،قد رسمت مصير رجل رسم مصائر بشر آخرين، بينما كانت زوجته نائمة، ووقع الأحذية العسكرية وقعقعة السلاح تملأ رأسه، وفي لحظة كما لو ليس هو ، دخل الأرجوحة ونثر الحكاية كلها بينما الزوجة تبكي بصمت وهي تهز أرجوحته .
- هل كان عليه أن يتحدث بصوت ناعس مثلا ؟ا
- لقد قال لها أشياء كثيرة، أشياء عن الموت والولادة، وعن المصادفة الفظيعة التي جعلته قطعة نقدية بطل تداولها، ثم عن تلك اللاجدوى في أن يثبت لله بأنه رجل طيب .
لأول مرة كنت أسير مع رجل يأخذني لأتطهر به، وكان ككائن يتقن ترويض معترفي كنيسته :
- وهنا أتساءل :
- أين المسافة بيني وبينه ؟ وهو سؤال قد يطرح على قارئ المسرحية أو مشاهدها ولو بصيغة أخرى :
- أهو أنت ؟ أهي أنت ؟
ولكي نشفق على أنفسنا غالبا ما نستنكر أن في الرجل ما يشبهنا، ثم نجلس ونشرع في البحث عما لا يشبهنا، بعد أن نتصفح سجلانا بأيدينا المرتعدة .
هكذا نبدأ الكذب، بعد أن نعجز عن القفز فوق أسوار حديدنا، وكلما فعلنا ذلك فالأكيد أننا نطوق بأسوار الحديد حقائقنا، وهكذا تكون اللعبة :

نقفز هناك، لنطوق هنا .

وما أعتقده هو أن اللعبة لابد أن تكون معكوسة كي نلتقط المعنى، وما أعتقده أيضا أنه كان علينا استخدام : يجب، ينبغي،يتحتم .. وغيرها من رموز القسر عوضا عن لابد كي نصل إلى ما يسوقنا لممارسة اللعبة .
بعد هذا، ماذا لو تدخلنا في عمل الممثل والمخرج كي نمارس الادعاء، بأننا ذوو شأن في إعادة هيكلة الكلام الذي لن يكون ذا نفع إن لم يتحرك فوق الخشبة ؟
ستكون السيدة في هذه المسرحية، بعيدة عن نظرات الرجال المشتهية، وسيكون فوق احتمالها أن لاتكون عيناها عينا امرأة مستطلعة، وحين يصل التوتر فيها إلى الذروة، لابد وأن تكون سيدة مترجية .
السيدة هنا، لا تفتقر بأي حال لأن تكون حاضنة السؤال الأنثوي الذي طالما يتسلل من تحت شحوب وجهها ولذا فمن الطبيعي أن تخلع عن الأنوثة كل ما علق بها من ماكياجات فاقعة، أو إكسسوارات تفقد بمعناها الصغير كل ذلك المعنى الذي يمكن أن تحمله امرأة .

لنقل أن المرأة هنا هي الأمومة الثاكلة، والرغبة في التنقل بين لامعنى اللحظة، والمعنى الجارح السابق عليها، وسيكون خطأ فادحا إن أفقدناها حس العزلة بواسطة تلك الأردية التي تتكون فوق حياة المرأة، والتي تسحبها من قوة الغريزة إلى قوة القانون، ومنظومات الأفكار، وما يبتغيه الوقت الذي سطا على وقت الرغبة .
غير أنه كان علينا أن نلاحظ أنه لم يتبقى من المرأة هنا سوى الذاكرة :

- ذاكرة الحدث
- ذاكرة الرجل
- ذاكرة الجسد

في ذاكرة الحدث، ستكون مجرد آلة طابعة ليوم مضى، قد تتذكر تفاصيله، وألوانه، وأصواته، غير أن التداخل لايمكن فضه، سوى في اللحظة التي يتداخل فيها بذاكرة الجسد،والطبيعي أن ذاكرة الرجل، وذاكرة الجسد، هما ذاكرتان في ذاكرة واحدة، يفصلهما التداخل بين الرجل الممكن ، والرجل الذي يلقي أوامره .

أما عن ذاكرة الجسد، فمن الصعب أن نستطيع تكثيف مخاضاتها بالكتابة المسرحية، وهنا يأتي عمل المخرج أو الممثلة، ولنقل، إن روائح المرأة، قد نسمعها كما نشمها، فما الذي يمنع أن نلقي بمفردات الرغبة فوق الخشبة ؟

هذا ما أعجز عن ترتيبه، ولكن لو تسنى لي أن أضع عيني فوق ثقب الباب المؤدي إلى سرير هذه المرأة، لاستطعت أن أرى، وأسمع وأشم الرائحة .

تعالوا إلى الجنرال إذن :

هنا الملامح واضحة، ولكي نختزلها قد نذهب إلى عكسها :
"ليس هنالك بشر شاهقين" .. هكذا يرى ستندال، والحياة التي دربتنا، علمتنا أن نرى الأمور هكذا، باستثناء ملايين البشر، بل لنقل مليار اتهم، أولئك الذين توهموا عكس ذلك ( أو أوهمونا) ، وهؤلاء هم الذين صنعوا القديسين، والطغاة، وقبلوا معلمي المدارس باعتبارهم، حاملي دروس الماضي التي تخيم بكلكلها على دروس الغد الذي لا يأتي .
في المسرحية لعبة، بل لعبة فوق اللعبة، وبتأكيد أعلى هنالك لعبة أوسع، تجمع جميع هذه اللعب، ففوق الورق ليس ثمة ما هو مقدس إن شئنا، ذلك أن الحرية التي يمنحها البياض الأكثر اتساعا، هي الحرية التي تمنح فوق الورق :
فوق الورق بمستطاعك أن تجعل ما شئت كما شئت :
أن تميت شخصية، أن تحييها
أن تحكم لها، أن تحكم عليها
وللأصابع هنا دور استثنائي، مع أن الأصابع التي تحمل القلم، هي الأصابع التي تنحني وتقول :
- بكل الطاعة يا سيدي .
- هل بمستطاع الخشبة أن تكون صفحة من الورق ؟

قد يكون ذلك، وان لم يكن فليس طامة كبرى، ذلك أننا ننزلق من الحفرة لنتدحرج نحو الحفرة الأخرى، ولابأس إن قطعنا المسافة ونحن نحمل الغصة الصعبة، وللعلم فان جنرال هذه المسرحية هو ابن لمرقع أحذية، وهذا الأب هو أب بالصدفة .. مع ذلك فان سياق النص لن يسمح له،سوى أن يكون ابنا لمرقع أحذية، وهذا ما تفرضه المسامير التي ستختصر الكثير من شخصية، يأخذها الصمت، لتكون إلى الداخل في ضجيج الخارج، وللسندان دلالته، وبفعل الصدفة كان علي أن أذكّر بأن جو زيف ستالين، هو ابن لمرقع أحذية، فكيف حال الولد الذي صار جنرالا ، متسللا من الفم المحشو بالمسامير، والذي إن نطق فقد تتدحرج المسامير إلى جوفه ؟

سيختلف الوضع هنا، ففي مثال ستالين ،صعد الولد إلى الأعلى فالأعلى، ولو نظرنا إليه من الأمام ومن الجانب، لوجدنا أنه اكتشف أشياء أكثر أهمية بكثير من مجرد ابن حذّاء درس اللاهوت، وكثيرا ما ارتمى في أحضان أمه، ثم صعد على حواف الأحداث الكبرى ليصبح فيما بعد حلقة وصل بين مركز ومركز، ريثما يصبح هو المركز بمفرده .

جنرالنا يتيم، ولا يذكر من أمه سوى صورة تذكارية وهو يقف إلى جانبها صبياً أشعث، أما الأحداث الكبرى فلم يكن يتجول على حوافها، بل كان حافة لآخرين يتنقلون فوقها، ولذلك كان على الحافة أن تنهض لتفكر في الكيفية، التي يمكن أن تكون شيئا شاهقا، والذي حدث أنه اكتشف متأخرا أن لعبة السلطة، أكثر تعقيدا من مجرد ( بكل الطاعة) التي مارسها .

إن أمرا كهذا يمكن فهمه، إذا علمنا أن جنرالنا هو جندي، عمل بإخلاص كبير كي يكون ذا عقل وروح من الدرجة الثانية، ليكون حصان السلطة، وليتسلل من جوفها إلى الأعلى دون أن يصل أبدا، ودون أن يستطيع العودة أيضا ، في غمرة هزيمة وضياع رهيبين، وخدعة نكتشف لاحقا بأنها أكثر رهبة، ولهذا فان الإمعان في وصف حال جنرالنا لن يقود إلى ما هو خارج الحلبة :
الساحة إذن محصورة في الحلبة، وجميع المفردات لابد وأن تكون فوقها، وليس أمرا مهما تلك الآليات الصغيرة، التي تتناثر على حوافها، كأن نرفع جماجمنا تحية لها، أو نلتصق بالدماء التي تتصاعد من وجوهنا، بعد أن نفقد زمامنا .
جنرالنا هو المسافة مابين الحلبة والانهيار تحتها، وفي هذه المنطقة الضائعة سيبدو الضياع ماثلا، والمنهارون في لحظة انهيارهم، يذهبون بعيدا في التطهر، في الاعتراف، أو في اندفاعة عميقة نحو حماقة تخولهم بأن يشعروا بالأسف على كل مامضى، حتى ليخيل إليهم أن المقبرة أقل غبارا من أن يندفعوا إلى التسرب خارجها، وعندما ينطقون بالعبارة الأخيرة، لابد أن ينسوا غرف النوم التي تصدر أوامرها للجسد بأن يتمطى أو يمارس أفعالا تأخذه للوحشة .

- ( لشد ما أشعر بالأسف)

كان هذا ما قاله بمنتهى البساطة، رجل كنا نظن وهو يسير فوق جحافل الارتياب والحرس الشخصي، أنه بلا قلب، لنكتشف فجأة أن فيه ما يتحطم :
- وكان علينا أن نتساءل عن الذي تحطم فيه، ولم يكن بمقدورنا أن نظن أن ما تكسر هو مجرد عبوة مزروعة في صدره ..
- الخلاصة :
- إن ما تكسر لابد وأن يكون قلبا .. قلبا شبيها بالبرتقالة المنهكة من شدة الظنون، والحيرة، والخوف من الآخر المختبئ خلف ظنونه .

لقد ابتعدنا كثيرا عن جنرالنا، ومع ذلك لقد اقتربنا كثيرا منه، حتى كاد الاقتراب والابتعاد أن يتعانقا وكأنهما ثديان لمنهكة عانت الكثير من وطأة رجال يعبرونها دون الانشغال بالتحقق من اسمها، هذا بعد أن يأخذوا وقتا أطول في صفقة اللذة .

يا الله كم يبدو جنرالي مستو حدا

وها أنذا، وهو فوق الورق، لا أدري كيف تسنى لأصابعي أن تمضي نحو حتفه، وكأنني بذلك آخذ بعضي إلى العدم، وبمنتهى الحزن كنت مرغما على فعل ذلك، لأنه أرغمني للانقياد لمصيره، ولذا فما تبقى لي من نصف آخر، كانت المرأة التي هي أنا، وها أنذا أعترف بأنني نصف رجل ونصف امرأة، مع أن الذكورة قد استبدت بي، حتى كدت أن ارتعد من التحول نحو الردهة السفلى، التي أمعنتُ في ربط القبعة تحت ذقنها، دون أستطيع النجاح في فك العقدة .

يلزمنا الكثير من الوحشة كي تخفق قلوبنا، بل يلزمنا قلوب كثيرة كي نلتقط المعنى الغامض للوحشة، ودعوني أقول لمن سيشاهد هذه المسرحية :
- إن أصابعي قد تلوثت بدم رجل، كان بوسعه أن يعيش أكثر لولا ذلك الوقت الضاغط الذي لم يسمح لي بأن أحمله أكثر، والأكيد أن أصابعي سترتجف كثيرا فيما لو قلت :
- وعنقي أيضا سيتساوى مع عنقه، مع أنني طالما زينته بسلاسل الفضة التي تعطي للعنق نشوة الخشخشة التي ستقود رجلا إلى المرعى كما عنزة .

الآن حان وقت الصلاة، صلاة على غائبين :
- الأول هو جنرال المسرحية
- والثاني هو أنا
- من بوسعه أن يجنز نفسه ؟
يلزمنا الكثير من بسالة الأصابع كي لا نرتجف
أيها الجمهور أو أيتها الخشبة، كان علينا الانسحاب مبكرا من فوق هذا المقعد .


دمشق / شتاء 1997



أنا وهو والكلب

غرفة، الغبار يعشش في زواياها وتفاصيلها، زجاج نوافذها محطم، صوت عاصفة يدخل من الخارج، فانوس يضئ الغرفة، الفانوس المعلّق يتأرجح مكانه .
في الغرفة قاطّعة ورق ، الورق يملأ المكان .
الجنرال يبدو شخصا في الستين من العمر، يرتدي ملابس عسكرية رثّة، كمية كبيرة من الأوسمة تملأ صدر الجنرال .
زوجة الجنرال، صبية في العشرينيات، ترتدي ملابس رثّة، كتلة من الملابس السوداء يكسر إيقاعها جوارب صفراء .
الجنرال يقوم بتقطيع الورق، فيما الزوجة تقوم بتلزيمه .

(الجنرال يحاكي نفسه .. الزوجة تختلس السمع)
الجنرال : لم ير سيادته ما هو أكثر شفقة ورحمة من أن أكون مصابا بداء الكلب .. ومع أن جرحي سريع
الالتئام، غير أن فكرة الموت بهذا الداء، كانت أمرا مرعبا
(بعد صمت)

لنتصور كيف يمكن للمرء أن يموت ميتة كهذه ؟ الشيء الوحيد المتاح، الخيار الوحيد الممكن هو أن
تغادر الحياة بطلقة

( الزوجة تلتفت إليه باستخفاف، تمد يدها لتسحب رزمة ورق)
الجنرال : (وهو يتابع تقطيع الورق فيما الزوجة تقوم بتلزيم الورق)
كنت أهرع نحو هذه الفكرة، وأذناي تمتلئان بأزيز الرصاص، حتى خلت بأنهما مخزن للذخيرة الحية،
فجأة قال لي :
- توقف عن إطلاق النار
ولا أدري بعدها، ماذا أفعل بأذني هاتين، بعد هذا كان علي أن أقول له : بكل الطاعة يا سيدي
وأسحب هذا الكم الهائل من الذخائر منهما

(المرأة تتابع تلزيم الورق، تبدو وكأنه تصغي باستخفاف أقل، كلام الجنرال يبدأ بطيئا
هادئا )
الجنرال : لا / لا ، لقد قال لي : يكفيك أيها الجندي، لقد لعبنا الدامة ما يكفي ( يتوقف عن الكلام
متأملا) وها أنذا أصبحت كقطعة الضامة، أو كقطعة من الخشب الضائع
(لزوجته) لقد أحالني إلى المعاش لأكون إلى جانبك ،(يشير إلى صحيفة يحملها بيده) انظري هنا،
هنا، هذا هو سيد الجبهة، قال لنا أننا لسنا سيئين إلى تلك الدرجة، ولكن العدو سئ أكثر مما
نتوقع، كان كلما سئم، يرسل إلينا قطعا صغيرة من أغان كان يكتبها، قطعا كما الحلوى،
وفي أحيان أخرى كان يرسل فواتير من النصائح عن نوع الوجبات التي على المقاتل أن يلتهمها :
-كلوا الخشب أيها السادة ، كان يقول لنا ، وان لم تجدوه كلوا الهواء مثلا 0
فجأة اكتشفنا أن الهواء لا يؤكل، ففضلنا أكل الحطب إلى أن صرنا نمشي مثل قطارات الفحم
الحجري، كان ذلك قبل اكتشاف النفط ولكن بعد اكتشافه اختلف الأمر حتما .. هو كان يقول
ذلك، كان يقول :
منذ أن وجد النفط وجد الانحناء، ومنذ أن وجد صار الناس يشربونه بدلا من الشاي ويضعونه
تحت ثياب نسائهم، بعد أن اكتشف صار علينا أن نتدرب على الانحناء، ونتناول قليلا من النفط
مع قليل من الخشب في وجبات إفطارنا أما ، نساءنا فقد ازددن برودة، إلى درجة أن الواحدة منهن
صارت وكأنها قد ابتلعت جبلا من الثلج، صرنا ننحني هكذا ( ينحني) ونرتفع قليلا ( يرتفع) ثم
نعاود الانحناء والارتفاع حتى يدخل المازوت فينا ( ينحني ويرتفع كما الرجل الآلي) ، صرنا نأخذ
شكل القطارات بعد أن تشتعل ملابسنا

( يمشي بإيقاعات القطارات ويصفر وهو يخلع معطفه)

الجنرال : تعالي أيتها السيدة، تعالي يا زوجتي العزيزة، هيا أنا الرأس و أنا القاطرة التالية، تعالي هيا

(يمسك بيدها يشدها إليه ويضعها خلفه، تركض وراءه مرغمة وقد أخذا شكل القطار، يتوقف،ينفصل عنها، ينعطف باتجاه زاوية المسرح، الزوجة تتوقف آخذة شكل العلامة الدالة على القطار
الجنرال يتوقف مكانه، الزوجة تعود حيث آلة تلزيم الورق، الجنرال ينزع كتابا من معطفه )

الجنرال : هووووه ، كم معشر الأطباء مهمون، انهم يرون برؤوس أصابع أيديهم ولا حاجة لهم لاستخدام
أعينهم ( يصمت قليلا) سيكون هذا المكان أكثر أمانا، هنا سيكون لنا مزرعة هائلة، مكان واسع
للإسطبلات وحظائر الماعز .. لبساتين الفواكه والخضراوات ولخلايا النحل أيضا

( الزوجة تنظر إليه باندهاش فيما هو يتابع غارقا في حلمه)

الجنرال : وراء كل مكان قصي يد الله، يد الله تتدخل فينا، والمطلوب الآن .. كل ما هو مطلوب، أن تقيس
وتزن وتدون الملاحظات وأن تركز انتباهك كله، وإذا لم يحصل ذلك فكل شئ سيبدو فاسدا

( تتساقط أوراق من يد الزوجة)

الجنرال : ( بعصبية) لاتقاطيني يا امرأة ، كم أنت طويلة اللسان حقا، للمرة الثانية في حياتي تقاطعينني، للمرة
الألف أقول لك انك لم تدرسي الفلسفة، ولا علوم النبات والكيمياء، ولم تمتلئ أذناك بأزيز رصاص
الجبهة .

( الزوجة تتوقف عن متابعة تلزيم الورق، تنظر إلى الجنرال )

الجنرال : لقد قلت لك اصعدي فوق كتفي واقرأي شيئا من الفلسفة لتتأكدي أن للأسماك جفونا تغطي أعينها
عندما تنام، لقد كنت مستعدا أن أقسم انك امرأة ملحدة، ولولا ذلك لقرعت الطبول، لطرد
الرواح الشريرة عني

( يتقدم الجنرال نحو الزوجة، يمسك كفيها وهو يقرع إيقاعات فوق منضدة قطع الورق
بين كفيها و كفيه )

الجنرال : (ومازال يقرع) ارقصي يا امرأة ، ارقصي قليلا، لا، بل كثيرا، ولم لا نطلب الاّ القليل ؟
ما أتعس النساء اللواتي لا يرقصن، إن امرأة لاترقص ستأخذ ذات يوم شكل البئر المهجورة
(متوسلا ) ارقصي ، بالله عليك ارقصي، إن طنينا حادا ينبعث من أذني في هذه الساعة المتأخرة من
الليل .
( الزوجة ترقص خائفة )

الجنرال : ( متابعا) أخشى أن أموت قبل أن يموت الطنين في رأسي

(الزوجة مازالت ترقص بينما الجنرال يحاول الغناء بكلمات غير مفهومة)

الجنرال : (يصرخ) لماذا لا يكون داء الكلب هو إمبراطورية الشر التي لابد من القضاء عليها ؟ ولكن لا / لا/
يلزمنا الكثير من الكلبنة، لأن أمام الكائن البشري خيارين، فإما أن يتطور إلى الأمام ويصبح رأسه
أكبر من جسده وينقرض، واما أن يتطور إلى الخلف ويعود قردا، والكلب ألطف من القرد وأوفى ..
أليس هذا صحيحا يا سيدتي ؟
(الجنرال يتقدم نحو الزوجة التي مازالت ترقص، يمسكها من كتفيها، يوقفها عن
الرقص )

الجنرال : قلت ذلك للسيد، لسيدي

( الجنرال يلعب دورين معا، دوره ودور سيده)

الجنرال السيد : ماذا تقول أيها الجنرال ؟

الجنرال : أقول يا سيدي انه لو كان بوسع المرء أن يكون كلبا، فهذا الخيار أرحم بكثير من أن يكون قردا
الجنرال السيد : إن رجلا يقول كلاما كهذا لا يصلح لأن يكون قائدا يحرر البلاد في اثنتي عشرة ساعة أي
بنصف يوم فقط
الجنرال : بكل الطاعة يا سيدي، أنت على حق يا سيدي
الجنرال السيد : ومادمت على حق، لماذ1 تقول كلاما لا يليق سوى ببائع ألبسة نسائية، وداخلية حصرا
الجنرال : لأنك على حق يا سيدي
الجنرال السيد : إذن كيف تتحدث كبائع أردية نسائية وتنسى أنك ترتدي خوذة من الفولاذ فوق رأسك
الجنرال : لأن حاملات الأثداء، تأخذ شكل حاملات الصواريخ يا سيدي
الجنرال السيد : وأنت تأخذ شكل السروال الداخلي أيها الجنرال الأشعث
الجنرال : كما ترى سيادتكم يا سيدي
الجنرال السيد : يلزمك الارتفاع قليلا كي تغطي مؤخرتي في هذا الصقيع القارص
الجنرال : وهو كذلك يا سيدي

( الجنرال يهرع باتجاه معطفه ويرتديه )

الجنرال : ( متمتما) صقيع، صقيع، صقيع، صقيع ( لزوجته) ألم نكن في الصيف عما قريب ؟ عندما بكت
أمك وهي تودعك وتقول لك إن زوجك سيحظى بشهرة عالية ومقام فريد ؟ كانت تقول إن اسمي
سيكون اسما لامعا مجلجلا وستلفظه الشفاه بتبجيل
الزوجة : ( وقد خرجت عن صمتها) كان ذلك قبل أن تصاب بداء الكلب يا زوجي، وتحرم من أن تكون
قردا إذا ما تقدمت ملايين السنين إلى الوراء
الجنرال : (باحتفالية) هيه إنها تنطق، إنها تنطق ،إن للمرأة شفاها تحركها عندما تشاء
( الجنرال يرقص حول الزوجة، يتجه نحو الزاوية، تقعي كما الكلب)
الجنرال : (متمتما) وأخيرا يا زوجتي بدأت تنطقين، أخشى عندما تموتين أن يموت صوتك وتأخذينه معك إلى
المقبرة
الزوجة : ( لنفسها) لقد سبقني صوتي إلى هناك
الجنرال : لقد سمعت صوتا جاء من ذاك المكان ( مشيرا إلى مكان زوجته) لابد أن يكون هذا الصوت هو
صوتها، إن صوت المرأة مصنوع من الفلفل أما صوتي فمصنوع من الطحين ( الجنرال يتفحص المكان
وكأنه يبحث عن شئ ضائع)
آمر أصواتكم أن تعود الى حلوقكم، آمركم بعدم ملامسة صوت زوجتي

( يستدير للجنرال السيد )

الجنرال : سيدي، هل يحق لي أن أصغي إلى صوت زوجتي ثم أعود ؟

(يعود خطوتين إلى الوراء ثم ينحني )

الجنرال : أمرا وطاعة يا سيدي
( الجنرال يتجه إلى زاوية من الخشبة، يبدو وكأنه سيبكي)

الجنرال : قلت له ذلك وجلست القرفصاء بانتظار إطلاق الأوامر .. شئ واحد كان لا يتوقف عن الإطلاق
كان صوتا يخرج من الأسرّة ومن الجدران، وكان سيدي يأتي هكذا

( يمشي بتثاقل وكأنه طاووس)

الجنرال : وكنت أقف هكذا
( يأخذ وضعية القرفصاء)

الجنرال : ومنذ أن تعلمت الرماية، والوقوف بوضعية الاستعداد .. لم أر وجهه .. كنت اسمع صوته .. حتى
خيل اليّ أن سيادته صوت نبتت له أكتاف وأضلع وأرجل وحذاء ..
يقال أنه كان أحول ولهذا صرخ بي :
استدر إلى اليسار أيها الخنزير .. آمرك بأن لا تستدير إلى اليمين ، وحين قال ذلك كنت استدير فعلا
إلى اليسار .. غير أنني اقتنعت حالما تلقيت أوامره أنني كنت أستدير إلى اليمين

( الجنرال يتجه إلى مواجهة زوجته )

الجنرال : آمرك أن القمر تحتنا يا امرأة
الزوجة : القمر فوقنا يا رجل
الجنرال : تقولين يا رجل ؟ قولي يا سيدي أيتها الجندي

( أصوات انفجارات مدوية في المكان .. إضاءات قوية .. الجنرال يقع أرضا .. الزوجة تقترب من
الجنرال المرمي خائفة متوسلة )

الزوجة : انهض يا سيدي .. مر جنودك بالقبض عليهم .. إن أعداءنا دجاج من زجاج .. إن ذراعك الرائع
بوسعه أن يحمل ناقلة دبابات .. أن يرشف الصاروخ ويجعله يتمايل كما راقصة في فنجان .. مر
جنودك بألا يلتقطوا صوتي المصنوع من الفلفل لا الطحين .. هيا أيها الجنرال .. أنهض فحولتك
فوق فستاني المتوتر .. انهض أيها الرجل .. انهض كي أضع شفتي فوق القرون العشرين .. ألست
أنت القرون العشرين

( المرأة تنهار بعيدا عن زوجها .. أصوات القصف تبتعد تدريجيا .. الجنرال ينهض .. الزوجة تتقدم
منه برجاء )
الزوجة : نعم .. نعم .. القمر تحتنا يا سيدي

( الزوجة تستدير .. ظهرها لزوجها .. همسها يرتفع تدريجيا وكأنها اكتشفت أمرا آخر لم تكن تعرفه)

الزوجة : الآن لم أعد كذلك .. أنا الآن امرأة حقيقية .. امرأة باستمتاع .. امرأة بإعجاب .. أنتشي وأنا أنظر
إلى القمر الذي يمشي تحتي وأشعر بأنني رائعة .. رائعة بلا أوسمة ولا نيا شين السيد الجنرال .. منذ أن
ولدت أهدتني أمي إلى رجل لم أعرف عنه سوى أن التاريخ سوف يحمل اسمه .. والتاريخ كان بالنسبة
إلى أمي هو أن تنهض صباحا وتلعن .. تلعن أي أحد .. التاريخ بالنسبة إليها هو موت الجسد ..
طالما سمعت منها : صمود .. تحد .. عار ، لم أسمعها مرة واحدة تتحدث عن خفقات القلب ولا عن










































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

مسرحية من فصل واحد / أنا وهو والكلب

09-شباط-2009

مسرحية من فصل واحد / أنا وهو والكلب

09-شباط-2009

الذاهل بن عبد الله

03-حزيران-2006

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow