Alef Logo
الآن هنا
              

"قطارات بولاق الدكرور" مجموعة سيف الرّحبي الشعرية الجديدة

راسم المدهون

2009-03-06


رؤية العالم من النوافذ السود والحدقة القلقة
تحيل تجربة سيف الرّحبي الشعرية إلى مرجعيات واقعية، تغتني بأدوات تعريف ذات وشائج حسّية عميقة بالمكان وظلاله في الروح، وأيضا ذات وشائج لا تقل عنها عمقاً برؤى المخيلة ومغامراتها وانفتاحها اللامحدود على الأسئلة.
سيف الرّحبي يكتب من أقاصي تجواله بين الزمن والفكرة والواقع، ومن هذه الأقانيم الثلاثة ننتبه إلى حضور جملته الشعرية وقد ارتدت شيئاً من السّردية وإن تكن سردية تلمع في سطورها بروق المخيلة وإضاءاتها إلى الحد الذي يجعلنا نقف كل مرة كي نقرأ قصائده بحواسنا ـ وبالذات عيوننا ـ ونستعيدها في مخيلتنا فيما يشبه إصغاء عميقاً للصورة، ورؤية عميقة للصوت.
في مجموعته الأحدث "قطارات بولاق الدكرور"، يواصل سيف الرّحبي استحضار صور الحياة الواقعية كما تتبدّى من المخيلة لا من الواقع. هو يفعل ذلك بانتباه رهيف إلى كل ما هو "حدثي" فيقدمه بجملة شعرية "مراوغة"، أو فلنقل جملة عصيّة على التفسير الأحادي، المفرد، والمعزول، ذلك أن كتابته الشعرية إذ تناوش الواقع إنما تراه في بعده الأبلغ في مأساويته كما في سطوعه الأليم وتجلياته الحادّة، الجارحة والمثقلة بغيوم سوداء تجعل القصيدة وفيّة لعالمها وما فيه من صخب.
"قطارات بولاق الدكرور" (منشورات الجمل ـ ألمانيا ـ العراق) قصائد من وحشة ومن رؤى مثقلة بمفردات حياة طافحة بألمها الخاص في توحّده مع الآلام العامة وتفاصيلها وعناوينها الكبرى، التي يعرف الرّحبي كيف يضعها في خلفيات مشاهده الشعرية ليكتب من هناك بالذات أصداءها في روحه وتردّداتها العميقة كما ترتسم على مراياه الداخلية:
"تلزمنا طيور كثيرة
طيور أسطورية
تعمل كجرافات
كي تكنس السماء من روث الطائرات الحربية".
هي جملة شعرية تحمل الكثير من رغبة في التوحّد مع هواجسها الفكرية، ولكن دون سقوط في إسار اللغة المباشرة وسكونياتها، فالرجبي إذ يكتب من ذلك الحيز الواقعي يفعل انطلاقا من زوايا رؤية مغايرة تعرف كيف تقيم علاقة من نوع خاص مع كل ما هو واقعي فتعيد تفكيكه كما تعيد ترتيبه من جديد على هواها وعلى هوى المخيلة، خصوصا وأن الشاعر لا يقارب المكان باعتباره شواهد جغرافية محدّدة قدر ما هو شاشة عرض كبرى للألم نرى في أعماقها ومساحاتها خرائط الخيبات وشقوق الرّوح الملتاعة والمكلومة بشرور الواقع وتفاصيل أحزانه.
في المجموعة الجديدة "قطارات بولاق الدكرور" يحيلنا العنوان مباشرة إلى ذلك الحي الشعبي القاهري الذي يعج بكثافة سكانية عالية، وكأن سيف الرّحبي يرغب منذ البداية في إحالتنا إلى صخب إنساني يمكن للشعر فيه أن يكون شاهدا من نوع خاص، أو إذا شئنا الدقة "راوية" لا يهتم كثيرا أو قليلا بتفاصيل الوقائع وجزئياتها، ولا يوردها بانضباطية لترتيب وقوعها، ولكن برغبة كبرى في رسم الحياة كما تسطع في روحه، وكما ترسمها "الحالة" والتي هي قصده الأهم.
"الحالة" أو "المناخ الشعري" هو في قصائد المجموعة جموح نحو اللامرئي، الصامت، المنسوج من ألوان وظلال، والنازف بالصور الحادّة. هنا بالذات يمكن الوقوف على أهم ما في شعرية " قطارات بولاق الدكرور " ونعني الاتكاء على الصورة الشعرية ذات العلاقة الحسّية والواقعية بما قبلها وما بعدها. إنها صورة في حركيتها وفي جدلها نراها وقد امتلكت قوّة التحوّل إلى "مشهد":
"الكلب يقعي على برازه
الغمام يحوم
والسنونو يتماوج في الفضاء الجهم
حاملا في مناقيره ربيع القارّات".
في خلفية قصائد "قطارات بولاق الدكرور" ثمة شبح يتجول بسواده وظلال رعبه، إنه الحرب.
الحرب قد لا تحضر في صورة مباشرة في سطور سيف الشعرية، ولكننا نلمحها تخطر بين الكلمات كمرجع لا يغيب بل هو يظل يطل من هناك بثقله وجموحه وفوضاه المدمّرة. هي حرب لا نراها من خلال المعارك ولكن من خلال التأثيرات "الصغيرة" و"الجانبية" التي تحفرها في النفوس والأرواح.
بين كثر يكتبون قصيدة النثر الجديدة يقف سيف الرّحبي وحيدا بحضور عوالمه وما فيها من احتفال عميق بالحياة اليومية حتى لنكاد نبحث معه عن "أبطال" قصائده فنتعرّف عليهم كلما نظرنا في المرآة:
"يستعيدون الأيام واللحظات
كما لو أن الزمان غارت كواكبه
ونزف آخر قطرة في أحشائه الدموية
يقفون على الأطلال والحطام
يستجدون الذكريات،
كما يقف البخيل
على أرض أضاع فيها خاتمه".
هي تجربة شعرية تغامر بولوج المساحة الصعبة تلك المساحة "البيضاء" أي التي تنفتح على مجهول الخيال الشعري المسكون بالواقع والمهموم به إلى الحدود القصوى، وسيف في ذلك يزج جمله ومفرداته في أتون الكلام محتفظا لنفسه بخيط سرّي يربطه بتلك العوالم التي يعرف كيف يراها في غرائبياتها وفي حضورها الملتبس باللاواقعي بل الفانتازي في أحايين كثيرة. هي بهذا المعنى "قصائد الوحشة"، لا وحشة المكان وحسب ولكن ـ وهذا هو الأهم وحشة الزمان ووحشة الرّوح.
"قطارات بولاق الدكرور" خطوة أخرى، جديدة وعاصفة في تجربة الشاعر العماني سيف الرّحبي الذي اعتدنا رؤيته مسكوناً بالرّغبة في التعبير عن الحياة في تجلّياتها الأشد قسوة وبرغبة مماثلة في الصعود بقصيدة النثر نحو ذرى أعلى، حيث يمكنها من هناك بالذات أن تصرخ بأعلى الصوت

المستقبل - الثلاثاء 3 آذار 2009 - العدد 3236 - ثقافة و فنون - صفحة 18

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

سعد الله ونوس.. نجم حياتنا المتوهج أبدًا

06-حزيران-2020

عن الثقافة والفن في ميدان التحرير

16-شباط-2011

"كثيرة أنت" للشاعرة السورية سوزان ابراهيم وحيدة ولي ما لـيس لهنّ

27-تموز-2010

حتى أنت يا فرنسا / ماذا عن الحرية والإخاء والمساواة

23-تموز-2010

«الضّباب بحذافيره»الهامشي في تجلّياته وحضوره الشعري

09-أيار-2010

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow