طوفان البراندي
2009-04-19
تلك المكسوة بأوراق الخريف كانت أيامي الذهبية
في الأيام الغائمة و المشمسة على السواء، كنا نهرب من الجامعة ننهب الدرب حتى نبلغ السبع، دكان المشروبات الروحية في الشيخ سعد، العنزة الجربانة ما بتشرب إلا من راس السبع كنا نقول، نشتري بكل ما معنا من نقود نصيّات براندي و نمضي إلى المكتب. لم نكن نحمل أجهزة إم بي ثري و لا مسجلات لكن البلوز كان يصدح في رؤوسنا اليائسة بصولوياته الطويلة المرتجفة، ما أن تظهر الشمس من بين الغيوم، ما أن تحتجب.
بعدعمليات خلط الكولا بالبراندي في المكتب نشرب مطلين على النيربين و تقاطعات فروع بردى، على ما تبقى من بساتين كيوان، على بضع مناحل لا أدري لمن، على الميريديان و الخرائب في جواره، على قطعان حيرتنا و اليأس و الضياع التي نتركها ترعى على سجيتها كالماعز بين أبخرة الكحول و الجبل الذي ينوء بثقل شعارات تبشرنا بأبد لا يختلف عن حاضر نهرب منه.
لم يكن المكتب غير خرابة، قيل لي فيما بعد أنه بقايا البيت الصيفي لأبي خليل القباني المنبوذ الآخر في دمشق، هو أيضاً كان ينتبذ هذ المكان إذاً ليهرب من هذه المدينة التي تتقن الخضوع و الإخضاع، تحب الجميع و لا تحبهم، تعترف بهم و تسخر منهم في ظهورهم، هذه الأم التي تعلّمنا أغاني حبها دون أن تحبنا حقاً، فنكبر لنتغنى بها و يمضّنا الألم.
فادي الشلق صديقي، كنا نهرب معاً من صديقتينا، نخلع قمصاننا و نعلقها على شجرة تمتد أغصانها فوق المكتب لنمارس بالقميص الشيال اليأس و الصمت المحببين، فإذا بباسل بدوي الملقب بكرستا آتياً بسيارة تاكسي بالفتاتين العاتبتين لهذا التمرّد العلني، فيشاركوننا خلوتنا و البراندي و تأمّل أمواج البلوز الخيالية تحوم بين خرائب المكان.
أبو سعيد، عبد الرحمن مكتشف المكتب كان يحول الجلسة إلى مناظرة عن الحزب السوري القومي الاجتماعي و الحزب الشيوعي السوري غالباً ما تنتهي بالخراء على الإتنين و التأكيد على تفوق البراندي: براندي اللذيذ، نصية مختلفة، على الإيديولوجيات المختلفة. و إلا فإن جلساتنا كانت إستعراضاً لآخر مشاعر المرارة و قراءة لمحضر جلسة اليأس السابقة، ثم مذاكرة تفصيلية لمسرحيات زياد الرحباني و برامجه الإذاعية المسجلة، الأمر الذي لا يبزنا في تفاصيله إلا فادي سعادة.
فادي لم يكن يشرب كثيراً، كان يقول لا يلزمني! فادي ذو الصليب المفرّغ في سواد الوشم و العصبة السوداء الأبدية أعلى ذراعه . ذو الجسد الرياضي و العمر القصير. كان متشائماً ضحوكاً فكاهياً لا تصمد واحدة أمامه فتنطوي البنات إلى جواره نصفين ثم يعاودن الإعتدال، لديه القدرة على جر الفتيات للكلام عن الدورة الشهرية أو نتف الشعر ببديهة حاضرة وخفة روح لا أقارنها إلا بالتي للمعلم الرحباني. أوقد مرة ناراً تدفئنا كانت في مكانها ووقتها الطبيعيين من برد شباط على ما أذكر، فجأة رأينا فادي يحمل جذعاً ضخماً و يضربه بجدار المكتب فيرتد إليه فيعاود ضربه، فادي ماذا تفعل؟ أجاب: أضرب بالشجرة عرض الحائط.
مرة سكرت صديقتي و تقيأت و لم يعد بإستطاعتها الحركة، أخذناها إلى بيت فادي، و أنا لخوفي الدائم من كل البشر آنذاك قلت لسائق التاكسي أنها أخت فادي متعبة و يجب أن نوصلها للبيت، مع أن السائق لم يطلب أي تبرير. أم فادي استقبلتنا و أحضرت لنا شيئاً نأكله، و الفتاة قبلتني لأني كنت حنوناً و رقيقاً معها، مع أنها كانت يومها تنوي أن تنهي علاقتها معي كماأخبرتني فيما بعد. قبلتني عميقاً من فمي و لا أنسى تلك القبل رغم بقايا القيء.
في اليوم التالي قال لي فادي: أختي يا إبن الحرام؟ ليش ما تقول أختك أنت؟
هو الذي علمني أن أعري المرأة من ملابسها بنظري رحمه الله، احتجت كثيراً فيما بعد للتخفيف من هذه العادة. كان يصف جسد العابرات بالتفصيل كأن في عينيه أشعة إكس.
كنا بعد فراغ القناني نضرب بها عارضة حديدية ممتدة فوق الهاوية أمامنا و يمتعنا صوت تحطم الزجاج و سقوط الشظايا لخضراء تارة و البنية أخرى في المجرى الجاف. مرة ظن الشلق أنني أسخر من حزنه على المرحوم أبيه و نحن نغني: يا ظلام السجن خيم إننا نهوى الظلام، لأنني نوهت بقلة حس منقطعة النظير كيف أن أباه كان يغنيها له، قلت: هلأ فادي يمكن يبكي! فرماني بقنينة مرت جوار رأسي، كنت يائساً من أن يشعر بي الآخرون أو أشعر بهم، و هو أيضاً. لم نكنّ قساة و عنيفين لهذه الدرجة دائماً لحسن الحظ.
بعد بلوغ الكحول و النشوة و السخرية السوداء التراكيز المرجوة، و الأصح بعد انتهاء جميع القناني و النقود عدا خمس ليرات في جيب كل منا للسرفيس، نغادر المكتب نغني، و نرقص أحياناً. غالباً ذكوراً فحسب، كثيراً ما نعبر ركضاً بدون إكتراث فوق قنطرة ضيقة لا يتجاوز عرضها أربعين سنتمتراً، تمتد أمتاراً وترتفع عشرة أمتار تقريباً فوق أرض تمر عليها سكة القطار. في طريق المجيء قبل الشرب كنا نعبرها خائفين على ركبنا، لنعدو عليها عند العودة كالغزلان. في الخمر الحقيقة ..و التهور.
إلى الآداب! باسم، مجدي، جوان، ظافر، نزار، وسيم أحياناً ..نجلس في الشمس على درج الصحافة الشهير أو مستندين إلى السور الذي تخترقه غصون الأشجار، نتأمل الذاهبة و الآتية، الذاهب و الآتي، نتخيل الحوارات الدائرة و نضحك كالمجانين. ثم نصمت و ننطفىء رويداً رويداً. كنا نتمنى في أعماقنا أن نكون محبوبين و أصدقاء للجميع، لكن الخشونة التي طبع عليها أغلبنا في البيوت و التي كانت العملة الدارجة لجميع أنواع التعاملات البشرية في التسعينات جعلتنا نخفي كل ما لا يتسم بإنعدام الحس و جفاف الطبع ونتجنب التعبير عن مشاعرنا الحقيقية كيلا نوسم بالضعف.
كنا نفتش على أبواب الكلية، نُمنع من تقديم الإمتحانات لعدم إكتمال اللباس الجامعي، نُجبر على حضور مؤتمرات إتحاد الطلبة، نستنطق عن أسباب عدم إنتمائنا للحزب. معظمنا تعرض لحوادث إعتداء بالضرب أو اضطر للدخول بمعارك جسدية لأن هناك من تحرش به و هو يمشي مع فتاة في شارع ما. هذا والده مات و ذاك سجن أو سرح من الجيش أو بلا عمل، بعضنا على خلاف عميق مع والديه الذين يريدانه أن يلتزم بما رسماه له، جميعنا نبصق في وجه الأرض شاعرين أننا مهدورو الكرامة ضجرون مهددون بالإنقراض أو الإنفجار نعامل دون ما نستحق. ما لم نجرؤ على إخراجه من فمنا كلاماً و إحتجاجاً أخرجناه سخرية و دخاناً و رائحة كحول رخيص.
لسنة أو إثنتين كنا نشرب كثيراُ، أحياناً كل يوم، أحياناً مرتين ثلاثة في الأسبوع، مرتين ثلاثة في اليوم! كل مصروفنا براندي و حمراء. عندما لم نكن نملك نقوداً كنا ندور على الأصدقاء بقبعة فارغة: ساعدوا على تعمير هذا النافوخ! مرة أو إثنتين تسولت من أِشخاص لا أعرفهم في الجامعة، البعض أعطى، محجبة قالت لي : الشحادة يوم الجمعة. إلى أن تخافتت أمواج البلوز من تلقائها، أغلبنا وجد امرأة تحتويه و تخفف عنه الغربة في الوطن، سافر البعض، وانزوى الآخر في البيت.
الآن لا أدخن، أشرب بكميات قليلة نبيذاً جيداً على الأغلب، لا آكل اللحم، بل أهتم بتناول الخضار و الفواكه، أشرب يومياً ثلاثة أكواب ماء على الريق. لكنني ما زلت أنفر من الرياضة كما ينفر حشاشو قاسيون من الشرطة. أتذكر تلك الأيام و أنا أستمع أغنيةStill get the Blues لغاري مور المرة تلو الأخرى. لا أندم! فعلاً لا أندم، لقد فعلنا أفضل ما يمكن فعله في التسعينات، بقينا مخدرين سكارى حتى عبَرَ الألم، بقي أغلبنا رافضاً لمحاولات التطويع، منيعين على التدجين سواء من قبل النظام أو الأحزاب أو من الروح الإنتهازية التي كانت تطبع كل شيء في دمشق.
افترقنا و تناهبتنا بلدان العالم، مات فادي سعادة، و كأنه يقصد أن هذا الأيام انتهت إلى الأبد، لا كما كانت تنذرنا شعارات التسعينات.
قال لي مرة: شفت حالي بالمنام معمّر تمثال للرئيس كبير بعلو بناية، الظاهر حيجيه خير مني!
كل ما استمعت إلى البلوز، أو كانت الشمس صفراء حزينة، أو استيقظت على حلم لا أصدق فيه أن سعادة مات، أو رأيت فيه أن تمثالاً نصفياً ذهبياً يجسده يلتمع فوق قبر رخامي عال في غابة تغرد فيها عصافير الصباح، أتذكر تلك الأيام و أفكر أنني يوماً عندما لا يتوقع أحد سأدير ظهري و أقول لم يعد الأمر يهمني. سأقول لا عندما لا يتوقعها مني أحد. عندما كنت أذهب إلى المكتب كان آخرون يذهبون إلى الإجتماع الحزبي أو لزيارة الفتاة التي خطبتها لهم أمهاتهم، عندما كان الآخرون يحضّرون للفحص الأميركي كنت أحضّر لسكرة، و عندما كانوا يرفعون أيديهم للتصويت كنت أرفع فمي بسيجارتي عالياً كمدخنة السفينة بعد أن أصرّح لرئيس اللجنة الطلابية أنه من المستحيل أن أحضر مؤتمر إتحاد الطلاب. اخترت الحرية و ضرائب الحرية. حينما أسند رأسي على الوسادة أعرف جيداً أنني رغم كل القيود الظاهرية لم أزل حراً. في أسوأ الأحوال سأشتري زجاجة براندي لأشربها مطلاً على أي خرابة .
08-أيار-2021
17-تشرين الثاني-2010 | |
30-آذار-2010 | |
16-آذار-2010 | |
23-كانون الثاني-2010 | |
19-حزيران-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |