عن جدنا الأكبر: بيتهوفن.
خاص ألف
2010-01-23
لم يحبّني أبي مثلما شعرت أنه يفعل و هو يحدثني عن بيتهوفن. طفلاً صغيراً يتعثر بالكلمات لاحظ أبي أنني أحببت السيمفونية التاسعة و أطلقت عليها إسماً مما يخترعه الأطفال للأشياء التي تستهويهم. أطلبها منه فيشغّل جهاز الإسطوانات العتيق المحفوظ في المكتبة التي تغطي الجدار و التي صمّمها هو شخصياً، ليملأها مع أمي بكتب التاريخ و العلوم و الفلسفة و الشعر و الروايات و مجلدات الفن و كتب الأطفال. خلف هذه المكتبة كنت أتخيل العالم بصحاريه و غاباته و مدنه، و لم أكن مخطئاً.
كان يذكر بيتهوفن بنوع من الإعجاب الكامل لم أسمع مثيله منه إلا لدى كلامه عن الأحصنة، وعن الألبانية أمّ أبيه. إعجابه ببيتهوفن بدا لي يضاهي أو يفوق إعجابه بأبيه. جدي الرياضي بطل سوريا ولبنان في الصراع الروماني الذي درس الرياضة دراسة أكاديمية في مصر و أدخل رياضة الجمباز إلى سوريا. ُرويت عنه الأساطير، بعضها صحيح كرميه العساكر الفرنسيين بعضهم ببعض كأنهم وسائد بين يديه، كما أخبرني أبي نقلاً عن عمته التي شهدت هذا الشجار، أو قفزه فوق سيارة تمشي مقبلة باتجاهه أو فوق بعض الاشخاص الواقفين صفاً خلف بعضهم البعض كما وثّق عنه الكاتب الرياضي ميسّر السيد، و منها ما هو ملفّق: كالقصص التي شاعت عنه في شبابه: <<محمود البحرة! أدخل يده في بطن أحدهم مخرجاً أمعاءه>>، أو ما لفقته أنا شخصياً عندما أريت صورته معلقاً في الهواء لرفاقي في الصف الأول و أخبرتهم أنه كان يطير مثل سوبرمان، البعض اقتنع، حسام العش صديقي قال: <<لكنه يلبس مايو، أخذوا له الصورة و هو يقفز من المنط في المسبح>>. الملعون!
حديث أبي عن بيتهوفن كان شيئاً آخر، أبي الذي لا يطيل بالوصف و لا يحب كثر الكلام و تضجره المفردات مع أن الكتاب لا يفارق يده كان يختصر حبّه لبيتهوفن بل موقفه من الحياة برمّتها بتعبير بسيط: <<يحرق دينه! موسيقاه: تَك تَك تَك!>> يقصد بذلك أن بيتهوفن أيضاً لا يستهويه كثر الكلام و لا يستسلم للشرح و التداعي، لديه ما يقوله فيذهب إليه مباشرة ليعود به، انتهينا!
كنت في الرابعة ربّما عندما اصطحبني أبي لزيارة يوسف عبد الكي، الأرجح في الثالثة لأن ذكرياتي عن الزيارة غائمة، أنا المعروف بملفّات الطفولة الموسّعة. عرّفني أبي عليه بالإسم و الكنية، الأمر الذي فعله بعد سنوات مع فاتح المدرّس في نقابة الفنون الجميلة، فاتح تعامل معي برقة جدّ لا أنساها، بينما يوسف تعامل بنديّة الصديق ما جعلني فيما بعد أقول لأبي: خلّنا نزور يوسف عبد الكي! فيجيب أبي: يوسف الآن في الحبس!
أرانا يوسف لوحاته التي لا أذكر منها الآن شيئاً حتى بلغنا لوحة زيتية كبيرة له تصوّر بيتهوفن. هل هو حلم ما أرويه الآن؟ هل هو واقع دخلت عليه الاحلام عبر الزمان لتضيف إليه و تحذف كما تشاء؟ أظنني أروي وقائع: وقف أبي بجوار اللوحة وقال: هذا هو بيتهوفن الذي يعلمونكم عنه في المدرسة!
دائماً شعرت أن أبي ينتمي إلى عالم غير الذي أعيشه، كثيراً ما شعرت أنه أرستقراطي في حين أنا إبن ناس على قدّهم، أنه درس في مدارس و روضات أطفال غير تلك التي نرتادها. ربّما لم أكن مخطئاً فزمانه غير زماني، و مكانة أهله في المجتمع غير مكانة أهلي، أبوه كان بطلاً و مدرس رياضة ثمّ مفتشاً للرياضة في وزارة المعارف، أنا أبي رسام معروف و مدرس رسم، لكن الزمان غير الزمان و ربما المكان أيضاً. فجدّي كان ما كانه في سوريا القديمة، لا في سوريا الحديثة التي أنقل عنها هذه الأحداث.
طبعاً لم يدرّسونا في المدارس _كنت آنذلك ما أزال في الروضة_ عن بيتهوفن ولا أبي نفسه درسّوه عنه. كان أبي على عادته يريد أن يعبّر عن شيئ لكن الألفاظ لا تسعفه، ربّما لهذا السبب صار رساماً، و لنفس السبب كان يكيل اللكمات و الصفعات لمن يشتمّ فيه رائحة تهديدٍ لشرفه الرفيع الذي يخشي علي سلامته كالساموراي... كالشركسي.
أحببت أبي و هو أحبّني، لذلك تعلّمت أن أفهم الناس دون أن يتكلّموا، أو بالأحرى حتى لو تكلموا، فأفهم ما يخبّئ الكلام من معنى قد يعاكسه أو ربما يختلف عنه تماما،ً فعكس الشيء يسهّل الأمور أحياناً.
أبي كان يقصد: هذا هو بيتهوفن جدّك! هذا ما وصل إلى فهمي الصغير آنذاك...و إذا أردت الآن تحليل ما كان أبي يعنيه بجملته التي نطق بها فهو يقصد: هذا ما يجب أن تتعلمه في المدرسة، أو هذه هي المدرسة.
عندما كبرت قليلاً، و فهمت بما يقطع الشك أن بيتهوفن لا يمتّ لنا بأي درجة قرابة صُدمت حقاً. لا أذكر كيف كانت ملامح ابي يومذاك لكنني لا أنسى انطباع اللحظة، أبي واقفاً قرب لوحة بيتهوفن و يشير لي إليها كأنها الباب الذي دلفنا منه إلى هذا العالم أو الذي ينبغي أن نغادر منه ذاك المرسم.
أبي الآن جدّ أكثر رقة و كرماً من شجرة أوكاليبتوس.
عندما كنت أذكر شجر الكينا كما كنت أسميه في قصائدي الأولى كان يقول لي: شجر الكينا مو تبعنا، ليس له مئة سنة في المنطقة. إنظر إلي يا أبي!و انظر إليك! أنظر إلى ملامحنا المغّولية و طباعنا الذئبية! هل في المنطقة ما يشبهنا مثل هذا الشجر؟
لم يعد أبي بهذا النزق و القطعيّة، كان في ما مضى دائم التذمر من الآخرين يقفون على ما يقول و لا يصغون لما لم يقله.
الآن أبي أشبه بما لم يقله. أنا أيضاً عندما أسمع بيتهوفين لم أعد أسمع: تك تك تك فقط، بل الحنان العميق و دويّ الصمت و الحاجة إلى الحب أيضاً. تلك الأشياء لم يعرف أبي أن يقولها في كلامه عن أبيه ولا في كلامه عن جدنا الأكبر: بيتهوفن.
×××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
في المستقبل سنعلن عن أسماء جميع المواقع التي تنقل عنا دون ذكر المصدر
ألف
08-أيار-2021
17-تشرين الثاني-2010 | |
30-آذار-2010 | |
16-آذار-2010 | |
23-كانون الثاني-2010 | |
19-حزيران-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |