Alef Logo
ابداعات
              

هي : انعكاس

طارق الطوزي

2009-04-26


انبثقتِ الفقاعةُ من فمها، تنتهجُ مساراً عشوائياً إلى السطح. كانت غارقةً في حوضِ استحمامِها تبحثُ عن راحةٍ مفتقدة. تتحسسُ جسدَها في مواطنَ الرؤيةِ و الحرامِ، فتشعرُ بحضورِها القلق. تنفخُ بشدّةٍ فتبرزُ الفقاقيعُ على السطحِ مهتاجةً وقحة. في بَرنامجِها اليومَ موعدٌ مع رعبٍ قديم؛ ستتحدى هاجساً بليداً لا يحملُ معنىً. تبتسم. تخرجُ بعنفٍ من الماءِ، فتتناثرُ قطراتٌ عديدةٌ خارجَ الحوض. تتأملُ أثرَها على الأرضية؛ سيكونُ عليها تنظيفَ كلّ هذا الهرجِ بعدَ موعدِها اليوم. تبتسمُ في حيرة. يتحوّلُ نظرُها إلى السقف. تركّزُ انتباهَها على الفانوسِ المضاء. تحدثهُ ضاحكة: " سيكونُ عليك اليومَ عبءَ الشهادة ". تواصلتْ ضحكتُها العابثة، قبلَ أنْ تتحولَ إلى ابتسامةٍ ساخرة.
أغمضتْ عينيها. أخذت نفسا عميقا، و عادتْ إلى ما تحتَ سطحِ الماء. تحسّستْ بيدها اليسرى نهدَها. داعبته بحنوّ. تلمّستْ بنشوةٍ الحلمةَ بسبّابتها. لم ترَ حياةً تنتفضُ خارجَ رداءِ الصّمت؛ قذرٌ هذا التشتّتُ في عُتْهِ الشوق. كانت سبابتُها تعبرُ حُمَّى البطنِ قبلَ أنْ تبلغَ مملكةَ الفرْج. تلج عقال المحرج، فتستقرّ عندَ موطنِ الخبث. تداعتْ إليها صورُ الشيخِ وهو يحدّثُ عصبتَهُ الأتقياءَ قائلاً: " و ختانُها أن تقطعَ أعلى الجلدةِ التي كعرْفِ الدّيك! ". انتفضتْ خارجةً من تحتِ الماءِ وهي تضحكُ في لؤمٍ مردّدةً في صَخَب: " نِعمَ التشبيهِ هو يا شيخَنا الأقدس! ".
تقفُ داخلَ الحوض. تتناولُ منشفة. ترفعُ عن جسدِها الشقيِّ بعضاً من حركةِ الماءِ الماكرة. تتركُ شعرَها مبتلا. تقفُ خارجَ الحوضِ لتستقبلَ الموعد. يتلبّسُها دُوَارُ الرهبةِ من توقّعِ الخيبة، فهي تعلمُ ببساطةٍ مدى عجزِها عن مواجهةِ صورتِها في المرآة؛ لأنها متى وقفتْ في مُواجهتِها، يتملّكها شعورٌ منهِك بالخوفِ و الضعفِ و الألم، ثمّ ينتهي بها المطافُ إلى غيبوبةٍ مُطبِقة. إنها لا تعرفُ سبباً لهذا، لكنّ ما تعرفُه فعلاً مدى تحرُّجِها من غيبتِها القسريّةِ عن عينِ المرآةِ حتى لا يسكنَها نداءُ الغياب. لا ملمحَ يتبدّى منعكساً فيتمثّلها كما تكون. هكذا بلا هدي صورِ المرآةِ تحيى على هامشٍ غيرَ معلوم. فكان عليها الآن أنْ تواجهَ هاجسَها بتحدٍّ، و أن تقفَ أمامَ مرآتِها تلعنَ خوفَها.
تمسحُ البخارَ عن المرآةِ بمنشفتِها، و تنطلقُ في غمارِ محنةِ اللقاء. تتطلّعُ إلى المرآة. تبحثُ عن وجهِها فلا تلقاه. تحدّقُ في دهشة؛ هي ليستْ هناك! يتملكُها صداعٌ شديد. تواصلُ بحثَها منزعجةً عن وجهِها، فيتواصلُ غيابُها. تفكّرُ أنها من الضآلةِ بحيثُ لا تُرى، أو ربما هي مخفيةٌ في قبوٍ سِحريٍّ قديم. تنتظرُ و تنتظر، عسى أنْ تتبدّى أخيراً هناكَ في هذا الفضاءِ المبهم. تبرزُ في صدرِ المرآةِ نقطةٌ سوداءُ صغيرةٌ، تتعاظمُ بشكلٍ تدريجيٍّ، لتكتملَ أخيراً.. مشهدٌ لوجهٍ يلتحفُ سواداً، وتبرزُ منه عينانِ فاجرتان. كانت هيَ هي، على عتبةِ الظهورِ تنبلجُ كخسوف. تملكَها الجزعُ. دُوَارٌ شديدٌ يهزُّ ثباتَها. ترتعشُ أطرافُها. يصيبُها الغثيان...
تطوفُ على ذاتِها في دورانٍ سريع. تكتسي قنوطاً وهي تقدّرُ هزيمتَها.. لم تكنْ إلّا غياباً. توارتْ خلفَ رعبِ المرآةِ فامَّحى أثرُها. صارتْ فتنةً تُعدمُ في محفلِ قيامةِ الشيخ. كلمة لا تنطق. فراغ في مدىً بورٍ. لا شيءَ. هي مجرد نزوةٍ تُخفى في ديارٍ محروسة. ما هي سوى زينة تُمتلكُ فتُكتنز في أروقةِ المتاهاتِ البعيدة، وحسنُها من حسنِ طوقِها! هي صمتٌ في باحةِ عيشِ مجازاتِ الدِّيكة. عاودتِ النظرَ في مرآتِها. كانتْ مازالتْ هناكَ، بغطائِها الأمين، وعينيْها اللعوبَين. خمَّنوا في تَقواهم أنَّها مومسٌ توبتُها الغياب؛ تندثرُ فتُبرّأُ من فجورِ صفتِها. نظرتْ بحنقٍ في المرآة.. لن تكونَ في ميزانِهم إلّا بغياً خلفَ ستارِ القهرِ تعلنُ توبتَها: أنتِ الخَبيئةُ. أنتِ الدَفينة. أنتِ المطمورة. أنتِ الموءودة؛ و يبقى بعدَ ذاكَ الحجب من وراءِ الحجابِ يطمسُ لغتّك!...
تمسكُ زجاجةَ العطرِ بقبضتِها. تنهالُ على المرآةِ مكسرة. تُصابُ يدُها. ينسابُ دم.. تعاودُ الولوجَ إلى حوضِ الاسْتحمامِ. تستلقي. تغمضُ عينيْها. تغطسُ إلى ما تحتِ السّطح. تُسكنُ حركتَها. تتأملُ زمهريرَ حلقةِ الخلق...
حدَّثني الفانوسُ المضاءُ، قال: ثمَّ بُعثَ جسدُها من تحتِ رداءٍ أحمرَ قاتم....


تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الأسمى

24-كانون الثاني-2011

عيون وقحة

20-شباط-2010

هي : العتبة

11-أيار-2009

هي : انعكاس

26-نيسان-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow