Alef Logo
يوميات
              

أنا هيفا!!

د.هدية الأيوبي

2009-05-19


لا ينامُ العشاقُ إلا حين يهرسُ التعبُ أجفانَهم وتسقط كل مقاومتهم في فخ النعاس.
نومُهم خفيفٌ كالغزلان.. وحين تدغدغُ فراشة ُ الشوق ِ قلوبَهم ينتفضون كأن النوم خطيئة في الغياب.
ماذا يحدث حين تستيقظ امرأة ٌ عاشقة ٌ في الصباح و بها جوعُ ألف ِ لبؤة وألفِ نمرةٍ وألفِ قطةٍ فارسيّة؟
هل يكفي أن تغطي وجهها وترضعَ الغطاءَ كطفل لم يشفَ من عقدة الفطام؟
هل يكفي أن تضم الوسادة إلى صدرها، وتبكي بحرقة كل النساء المقبورات في الحياة؟
إنها اليقظة الأكثر ألماً حين تتساقط الروح دمعة.. دمعة .. حسرة .. حسرة..غصة.. غصة.....
كل صباح يشرق هو طعنة في وجوديتها وأحلامها وشكٌّ بإنسانيتها.
كل صباح لا تجرؤ على الخروج من السرير، لأن وحوش الفقدان تتسلى بجثتها طيلة النهار ، وترميها في الليل إلى جوارح الحنين والذكريات.
قدماها تنزفان من أسلاك شائكة غير مرئية تمنعها من الخروج. وضعت الحاسوب في حضنها، فتحت بريدها الالكتروني وأرسلت إليه صورة قلب مكسور، مع عبارة :"ليك الواوا".
أكيد ستصدمه هذه العبارة . فليصدم . فليهتز بدنه قليلاً. لن يصيبه سوء. ليته يشعر بآلامها المراقة على صقيع النهارات وصفيح الليالي الكئيبة.
لن تكتب بعد اليوم بأسلوب امرأة مثقفة ، لأن الثقافة لم تمنحها سوى البرد والمقام الرفيع على قمة العزلة.
الجوع والعطش حاجة طبيعية لا تحتاج إلى ثقافة، ولا تحتاج إلى وثيقة شرعية.
أجابها بعد ساعات::
"حياتي
سلامتك من الواوا!!.".
أرسلت إليه رسالة أخرى:
اشتقت إليك بجنون." "
أجابها:
"وأنا أيضاً
أحلى مساء دافئ."

يا إلهي ! ألن ترعوي أيها الرجل الضليل ؟ كيف يكون المساء دافئا وأنتَ لست فيه ؟ ألا تسمع صراخي؟ ألا تسمع اصطكاك أوصالي ؟ أم أنك وضعت قطناً سميكاً على أذنيك؟
كيف ينام المشتاق ؟
تزاحمت الأشواق والأسئلة في رأسها حتى بات من المستحيل أن تكظم غيظها.
أشعلت سيجارة. سكبت كأساً من النبيذ . منذ رحيله أصبحت مدمنة على " الروزي" الذي لا يشفيها بقدر ما يدحرج آلامها تحت السرير . وفيما هي ترفع الكأس إلى شفتيها وقعت عيناها على الجدار حيث علقت شهاداتها الجامعية في أطر مذهبة أنيقة.
وبكل ما فيها من براكين ثائرة أنزلتها عن الجدار واحدة ، واحدة.. كسّرتها ومزقتها دون تردد أو ندم.
كل ما فيها يعلن العصيان على الماضي و على الحاضر . لقد استيقظت المرأة المحرومة المظلومة وكسرت قيودها . سأتمرد على نفسي .سأخون نفسي، بل ربما سأنقذها من هذا السجن الافتراضي.
وإلى أين ؟ وكيف؟
نظرت إلى المرآة ، فوجدت امرأة لها عينان وشفتان ونهدان منتصبان أشهى من قمم "الهملايا" . فلماذا يهملها ؟ ماذا ينقصها لتكون امرأة شهية مشتهاة؟
أحبك؟ أكثر من الحب ما بي . لكن النار تحرقني من كل الجهات . وأنت لا تشم رائحة الحريق. مازلت تجلس على أطلالك دون أن تتقدم خطوة واحدة نحو بابي المفتوح.
لماذا لا تغلبني؟ لماذا تريد أن ترسمني وأنا في عز انطفائي؟ لماذا لا تلتقطني قبل أن تهوي روحي في حفرة الانهدام ؟
ماذا ستفعل حين أخرج من بيت الطاعة؟
وخرجت من البيت تحمل نفسها وعذابها وكل خيباتها ودخلت إلى صالون التزيين . طلبت من المزين أن يصبغ شعرها باللون الأسود مع تسريحة مثل الصورة التي أخرجتها من حقيبة يدها: صورة هيفا . كما طلبت من فتاة الماكياج أن تكحل عينيها تماماَ مثل عيني هيفا.
فتحت خزانتها وارتدت فستاناً أسود ضيقاً يبرز كل ما تبقى من مفاتنها التي لم يمسسها إنس ولا جن من زمن بعيد . تعطرت بعطر نادر يجذب أنف أي رجل من على بعد كيلومتر.
استعرضت نفسها أمام المرآة.هذه ليست أنا. معقول؟
ما أجمل هذه المرأة التي لا تشبهني.
وصرخت فيها المرآة: خائنة.
لا أنا لا أخون أحداً بل أخون نفسي. أخون اليمامة الوديعة.
خرجت.. ركبت سيارتها ووضعت "سي دي" متنوع يضم كل ما يسمى ب"الأغاني الهابطة"."
اكتشفت مؤخراً أن صوت فيروز ومارسيل خليفة يصيبها بالحزن والحنين إلى وطن بعيد ، وأحبة ليسوا على مرمى يدها.
فقررت الامتناع عن سماع هذه الأغنيات التي تذبح القلب.
وراحت تدندن مع نانسي: "يا طبطب وادلع..."..
وممَّ تشكو نانسي ؟
إن صوتها فيه غنج تحسدها عليه المثقفات اللواتي يدعين الجدية والرزانة ؛ وفي أعماقهن تشتعل الغيرة منها ومن قدرتها الجمالية و"الدلعيّة" على شد أنظار كل الرجال إليها لفترة أطول بكثير من شاعرة على منبر أو أستاذة في قاعة المحاضرات.
تسهر المثقفة المسكينة على تحسين مستواها الفكري وعلى إبراز قدرتها الفكرية من أجل إثبات وجودها بعد أن تشرّبت كل ما في الكتب والمحاضرات من مقولات المساوة بين الجنسين وحقوق المرأة وحرية التعبير... و نراها قادرة على منافسة الرجل الذي يصفق لها مستحسناً ومشجعاً على نضجها العقلي وتفوقها الإبداعي ، بينما عيناه تشتهيان الفاكهة الناضجة على فساتين هيفا ونانسي و أليسا!
حين دخلت إلى "تيراس" مقهى جورج الخامس كان كل ما فيها يفوح أنوثة وحلاوة . لاحظت أن كل من كان هناك استدار صوبها حتى النساء.
إنها المرة الأولى التي ترى فيها ذكوراً غير تلامذتها في الكلية وزملائها.
تقدم إليها النادل مشدوهاً ،منتظراً ، فطلبت قهوة. أشعلت سيجارتها، للمرة الأولى في حياتها تشعر بالغرور.
ما أزعج وما أجمل أن تكون محط الأنظار! أهكذا يشعر النجوم والمشاهير أم أنهم لا يجدون فرقاً كبيراً بين عدسات التصوير وعدسات البشر.
لم تعر ما حولها أي اهتمام.
غرقت في أفكارها و شعرت بالانتصار لأنها استطاعت أن تقتل المثقفة التي في داخلها وتنقذ الأنثى الجميلة.
في البدء كانت الأنثى وفي الختام.. هي الجنة وهي النار.
وفي الحالتين هي مؤنث. فلماذا تكذب على نفسها؟ وهل أن الثقافة هي رديف الصنميّة و التصحر؟ هل كونها مثقفة يفرض عليها أن تخلع جسدها وترتدي الأوراق وأغلفة الكتب ؟ هل الثقافة تعني الاسترجال؟ وهل هناك إبداع نسويّ دون أنوثة؟ حتى رائدات النسويّة في العالم العربي وكل الثائرات على تهميش المرأة مارسن أنوثتهن بكل تفاصيلها . لماذا كانت تصر على إخماد حرائقها ووأد رغباتها. لكنها واثقة أنها لا ترغب إلا فيه.
وهو ؟ إنه عاشق متناقض بكل معنى الكلمة . هو رجل في منتهى الرقة والحنان ، ولكنه يمضي أوقات فراغه في إعادة بناء الجدران التي تهدمها دوماً بصبر ومثابرة وحب.
تعبتْ ، تعبت من كتمان الألم لأنها تريد أن تبني مملكة وليس جدراناً عازلة . تعبت لأنها تريد أن تصرخ رغبتها وليس أن تضع على فمها كاتماً للإحساس. لم تعد قادرة أن تفهم لماذا يصر على إخماد عشقها له بدل أن يشاركها الحرائق والنبيذ!
ولماذا يصر على الفرجة من بعيد على منسوب العشق وهو يعلو وينخفض حسب طقسه وحسب رغباته هو؟
وماذا عنها هي؟ لماذا يريدها أن تبقى مصلوبة على لائحة الانتظار؟
لماذا لا يلتقطها وهي في عزّ سكرتها وفورانها؟
لماذا يتركها تشتعل وتنطفئ و تترمّد كل يوم، دون أن يمد يده كي يلتقط ثمار حبها المتساقطة تحت قدميها؟
هل يتوقع أن هناك حياة أخرى ؟ أو أن هناك فسحة أخرى في العمر لإحياء ما ترهل من العشق ومن الشهوات؟
هل يريد أن أكون نسخة ثانية من مي زيادة ؟ لا لن أنتهي في المصحة العقلية مثل كاميل كلوديل .. لا لست مجنونة ولست نصف امرأة... أريد أن أعيش حياتي معه مثل سيمون دي بوفوار وأكتب بحرية مثل نوال السعداوي .. و لماذا يريد أن ... وانتبهت من شرودها..
كان ثمّةَ رجلٌ وسيمٌ أنيق يقف أمام طاولتها ، يمد يده إليها بكل أدب، ثم قال بصوت هامس:
إسمي فرنسوا.." "مرحباً ..
نظرت إليه ، وأجابت :

"أنا هيفا!!"

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

المنفى والغربة في تجربة الشاعر بدل رفو المزوري

20-حزيران-2009

أنا هيفا!!

19-أيار-2009

دفاعا عن أدونيس حول احتضار الحضارة العربية

16-أيار-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow