Alef Logo
دراسات
              

الشاعر والمدينة / رعب التحول

سامح كعوش

خاص ألف

2007-06-21



منذ أن علت صرخة أحمد عبدالمعطي حجازي في ديوانه "مدينة بلا قلب"، معلناً موت الأشجار حين أشجار الإسمنت تتمطى ، والمدينة ظل شاعر بلا اسم ولا عنوان، صارت المدينة / المكان رعبَ التحول و الصيرورة عند الشاعر ، يقول أحمد عبد المعطي حجازي :
" ظل يذوبْ
يمتد ظِلْ
وعين مصباحِ فضوَليٌ ممِلْ
دست على شعاعِه لما مَرَرْتْ
وجاش وجداني بمقطع حزين
بَدَأته ، ثم سكتُّ
من أنت يا.. من أنتْ؟
الحارس الغبي لا يعي حكايتي
لقد طرِدت اليومْ من غرفتي
وصرت ضائعا
بدون اسم
هذا أنا وهذه مدينتي" .
هو الشاعر الذي يهجر المدينة بعد معاناته فيها، كإنسان لا كشاعر فحسب، هارباً من إسمنتها الصلب، وإسفلتها الاسود كقلوب ساكنيها الباحثين عن تحقق المصالح بكل الوسائل. هو الشاعر الخائف من ضوء المصباح الذي يسلبه فرديته و يسلط عليه ضوءاً فضولياً ماحياً خصائص ذاتيته الشعرية، ومن الحارس الغبي الذي يطرده أو يطارده، والمدينة تلاحقه بالاسئلة وأصابع اتهامها له بالغرابة، أوليس الرافض الأزلي لقيمها المريضة؟؟
ويبدو أحمد عبد المعطي حجازي شاعراً،
" إثاقلت أقدامه ُ
ثم سار
الكل متعبون ، والدخان
تغزله ُ أنوفهم ، تغزله ُ مدخنة القطار
العائدون من شوارع الغبار
من مطحن الأعصاب ، من مائدة القمار
من المدينة "
فالشاعر تائه في المدينة في ضيق شوارعها و أزقتها . ضائع ٌ في غموضها و عتمتها ، أعمى كعمى منعطفاتها و أنفاقها.
وإن كانت تجربة الشاعر الخاصة في المدينة قديمة العهد قدم َ الإلياذة و هوميروس الذي مجّد طروادة . و قدم َ الإنياذة لفيرجيل في قصصه عن قرطاجة و ملكتها الهاربة . فهناك مدينة خذلت شاعرا ً فخرج منها مهزوما ً منكسر َ القلب ، كما في قصيدة يوجاييني للشاعر الهندي كوروب ( ولد 1931) ، والمستوحاة من الشاعر الدرامي الهندي الخالد كاليداسا في القرن الخامس .
وعلاقة الشاعر بالمدينة لم تتخذ صفة الرعب والضيق إلا حديثاً، فالعصر الحديث حافل ٌ بشعراء المدن ، كلوركا الذي عاش تجربة في مدينة نيويورك . وللشاعر الهولندي فاندراجر تجربته في مدينة روتردام، وشارل بودلير الذي صعد الى أعلى هضبة «مونمارتر» في باريس و كتب يقول انه من هناك: " يمكن تأمل المدينة بكامل سعتها: مستشفى، مطهر، جحيم، معتقل"، و غييوم أبولينير، و جاك روبو. كلهم كتبوا عن باريس ، ً حيث ُ يتقاطع العقل و القلب في الحياة اليومية و يتصارعان.
وها هي صرخة الشاعر بلند الحيدري تتردد في مسامع أهل المدن:
"يهتز فانوس عتيق
فيهز قريتنا الضنينة
ماذا سأفعل في المدينة؟
ستضيع خطوتك الغبية في شوارعها الكبيرة
ولسوف تسحقك الازقات الضريرة
ولسوف ينمو الليل في أعماقك الصماء آمالاً حزينة ".
فالحنين عند الشاعر إلى قريته حنين أزلي لا يموت، ولا ينتقل الشاعر إلى المدينة ولو عاش فيها، فهو يحمل القرية في قلبه، بسواقيها و زقزقة طيرها، بصباحاتها الحالمة ومساءاتها المقمرة، بفوانيسها العتيقة الدافئة، والمدينة بالنسبة إليه ضياع وأزقة ضريرة لا يرشد فانوس فيها شريداً باحثاً عن عنوانه في شوارعها وأزقتها. والإنسان فيها مسحوق ينمو في أعماقه الحزن ويعشعش الفراغ ليجعل منه كائناً هلامياً بلا وجود.
ونسمع صرخة بدر شاكر السياب الهارب من ضوضاء المدينة إلى قريته الوادعة جيكور، فالمدينة بالنسبة إليه رديف للضغينة والكراهية، وللمدينة حبال تلتف حول القلب لتخنق كل فرح فيه، حبالٌ من الطين الذي تغرق الروح في وحله وتفقد ذاتها المحبة للحياة :
"وتلتف حولي دروب المدينة
حبالاً من الطين يمضغن قلبي
ويحرقن «جيكور» في قاع روحي
ويزرعن فيها رماد الضغينة".
ويصور عبد الوهاب البياتي المدينة كمرادف للقهر والحرمان، و تصير موطن الطغاة الذين استبدلوا جلودهم ولبسوا أقنعة أخرى جعلت منهم تجاراً و مرابين في المدينة يحتلون غرف الفنادق الفارهة ويمارسون علاقة القتل اليومي لأحلام الفقراء برغيف خبز وأحلام الشعراء بمدينة لا يسكنها رعب التحول، و عذاب الإنسان على يد أخيه الإنسان:
" عرفت ُ كيف استبدل الطغاة
جلودهم في زمن الهزيمة
و لبسوا أقنعة جديدة
ورددوا الأغنية القديمة "
يدرك الشاعر أن ّ الكون يضيق ُ ، و أن ّ أشياء هذا الوجود تتضخم كالقهقهة الفارغة . يصير ُ العيش ُ كئيبا ً و غريبا ً، و تتداخلُ الموجودات ُ بعضها ببعض ٍ كما لو أنها تبحث ُ في ذلك التداخل عن شكلٍ جديد ٍ ، غريب ٍ و مريب ٍ أيضا ً . و تصير ُ العوالم ُ المتداخلة ُ بوتقةً لصهر ٍ جديد ٍ يُحيل ُ الموجودات ِ كلّها إلى مادتها الخام الأولى ، الخام اللزج ، الطري، الـ ما قبل تشكله، فها هوالشاعر قيصر عفيف يرمي الأسئلة في وجه بشرية المدن المرعبة، إنسانية المادة والإسمنت، يقول:
"أنا الشاهد الوحيد على هذه المدينة الكثيرة التعب
على اللغة يملؤها الحزن والكذب
مَن غيري يستوعب هذا الرعب؟".
هو شاعر يرى بالقلب لا بالعين مرايا النفس المكسورة التي تواجه إنسان المدينة بتعرية مخاوفه وهواجسه، وتقيم عليه حدّ الفراغ، ضياع الذات في امتلاء المكان حولها وفراغها من مضمونها الإنساني والوجداني، يقول:
"كل هذه المرايا مكسورة
لكننا نرى وجوهنا فيها
كل هذه الأماكن مهجورة
لكننا نسكنها وتسكننا
كل هذه الأحلام حجارة
لكننا نبني بها قصورًا".
والمدينة لغة يكتبها الشاعر، ثم يعلن أنه ما كتبها إلا لينتهك حرماتِها وحدودها، ليضيع في حاناتها وحوانيتها، ثم يعود إلى الصراخ مجدداً، كمن أفاق من غيبوبة، "ما عدت أعرف أين تبدأ المدينة
ولا أين تنتهي اللغة
كل المارة غرباء
البيوت خرساء
الهواء أسود
الأشرعة مثقوبة
وأنت في غياب المعنى
لا أمن ولا مأوى".
نرى هذا التناقض الحاد بين الشاعر والمدينة بتشكيلاتها المدينية المعمارية الحديثة من ناطحات سحاب وأبنية شاهقة الارتفاع، وحياة متسارعة الخطى تمضي إلى غاياتها الحمقاء.
في قصيدة للشاعر السعودي غازي القصيبي بعنوان "لوس أنجلوس" من مجموعته "قطرات من ظمأ "، يقول:
"سأكتب عنك يا عملاقتي
المغرورة.. البلهاء
سأكتب عن ضبابك.. عن
شرور دروبك السوداء
وعن قلبك لم ينبض
وجف كصخرة صماء "
فالمدينة بلهاء مغرورة بارتفاع مبانيها وشموخ ناطحات سحابها، ولكنها عملاقة فارغة من عظمة، ككتلة إسمنتية لا قلب لها، ولا دفء حياة يجعلها قابلةً للحياة، تعيش وتحيا على زخم المشاعر الإنسانية الحقيقية في أبسط يومياتها:
" حتى الجار يصمت عن
(مساء الخير).. حتى الجار
ويلتصق الضباب على
الوجوه
كلعنة الأقدار"
إذا ً، نحن أمام قدرة إنسانٍ عابث ٍ ينشد ُ تغيير الوجود ، يعبث ُ بتفاصيلنا الصغيرة ، و يصيّرها جمعية ً مفتوحة ً قابلةً للتحوّل و التبدّل بحيث ُ أنها تصير ُ مجانية ً أيضا ً و ليست ملكا ً لنا أو لأحد . هو هذا التشكل العابث الذي يتحدى الطبيعة الأولى التي تشكل بها الكون و رتب له طريقة عيشه و سلوكه و سيرة حياته و صيرورته على أساسها.
هذا الخلق الزمكاني الجديد يصير ُ أقدر على التأثير الكلي ّ بالشاعر كجزء من وجود ٍ قابع ٍ في مكان ٍ ما ، لأن المكان مسرح الجريمة / الاحتفال بهذا الخلق . المكان كصدمة ، المدينة كانتحار عذرية القروي في الاكتشاف العُري لتفاصيل وجه الشاعر في تركيبته الجديدة الغرائبية في الإسفلت و غابات الإسمنت و ناطحات السحاب و المصعد الكهربائي الذي يتسع لمليون جريمة و لا يحتمل زهرة واحدة .
هذا الاكتشاف / الارتطام أحيانا ً كثيرة ً ، وإن كان لا يليق بإنسانية هذا الكائن الرخوي المسمّى إنسانا ً و ليس شاعرا ً بالضرورة ، فإنه مساعد ٌ على اكتمال وعي هذا الـ هو بالمكان الذي يقصيه ِ ولا يحتويه .
في المدينة الحديثة ، التي تخلو مما أدهش البحتري و أبا تمام ، و أرعن َ أبا نواس و والبة بن الحباب ، و أطرب َ بشارا ً بن برد ٍ وأثار صلاح عبد الصبور و أحمد عبدالمعطي حجازي ، يتسنجب الإنسان / الشاعر ، يصير ُ أقرب َ إلى بدائيته الموغلة في القدم ، يعود إلى " الدغلية و البعلية " بمعنى أنه يتغلب بطبعه ِ على كل تحضر ٍ لاحق به ، يعود ُ برّياً متوحشا ً ، في الافتراس و الاقتناص .
صلاح عبد الصبور يقول في قصيدته"أغنية القاهرة":
أهواك يا مدينتي
أهواك رغم أنني أنكرت في رحابك
وأن طيري الأليف طار عني
وأنني أعود، لا مأوى، ولا ملتجأ
أعود كي أشرد في أبوابك
أعود كي أشرب من عذابك".
فالشاعر يبقى على حبه للحياة رغم أنها لا تقدم له ما يريده من حب وفرح، تنكره وترمي به وحيداً يكابد الحياة وعذاب وحدته القاتلة في مدينة تكشر عن أنيابها كصحراء للروح أو شروداً مقيماً إلى ما لانهاية.
ويقول الشاعر المغربي عبد الكريم الطبال:
"البرد في المدينة يقتل حتى البرد
الريح في المدينة تقتل حتى الريح
أحيانا يحلم الحزن بقادم إلى المدينة
يركب فرسا من نار
يحمل وجه الحالم".
وهنا تتخذ المدينة لها صورة البرد الرديف للموت، لتحجر القلب و جليد المشاعر الإنسانية التي لا تعرف لها طريقاً على قلوب أهل المدن، فليس في المدينة إلا الحزن، وهذا الشاعر الغريب الذي يركب فرساً من نار، ويحمل في قلبه ثاراً قديماً من المدن التي تقتل حتى الريح فيها.
وإنسان المدينة ينتهز ُ الفرصة و يتحيّنها كي يعتلي مناكب أي ٍّ كان َ كي يصل هو إلى أعلى، و الأعلى هو السقوط بمقاييس المدينة الحديثة / المدنية المريضة بالضيق و الاختناق . لأن المدينة مساحات إسمنت على إسمنت في إسمنت، نوافذ لا تنفذ منها الروح، و أبواب مقفلة ٌ على مفاتيحها، و أبواق سيارات تصيح في آذان هذا الكائن الذي صار غريبا ً عن ذاته و قريبا ً إلى التبعثر و التشظي. و لأن المدينة أفقية الامتداد، تبشر ُ بهذا الاختناق، يقول الشاعر المغربي أحمد بن ميمون :
"مدينتنا في هذا الزمن الفاجع أضحت
قلبا ميتا حفرته الأيام
وتجسد فيه الحزن
فحدائقها أضحت تبخل بالأزهار
هذي الساحات حدائقنا الميتة الآن
أعطت للحب اللغة المفقودة
فتحت للشعر الآفاق الموصودة".
الاختناق، "لولا فسحة الأمل" هذا الأمل الذي يصير نظرية ً و افتراضا ً ، حين الشاعر يتحول كائنا ً فضائيا ً غرائبيا ً لا يشبه شكله الماضي الذي تشكله ُ عبر الآلاف السابقة من عمر وجوده على هذا الكوكب السائر بسرعة ٍ عجيبة ٍ إلى نهاياته.
و لكم أن تتصوروا شكل هذا الإنسان / المخلوق الغرائبي ، أرأيتم إنسانا ً تنـزرع ُ شجيرات ُ الورد على ثيابه و فوق هدب عينيه ِ ؟ أو تتدلى عناقيد العنب من عرائش جمجمته ِ ؟. أرأيتم ُ وجعا ً جائعا ً يمشي على الأرض و بلا وجه ٍ ؟. هو إنسان ُ الدهشة و الفراغ الذي وقف خارج المكان، ثم ّ عندما تقمصه ُ أضاع هويته الأصلية ، فلا هو بعد ُ و لا المكان مكان .




تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

افتتاح المؤتمر الدولي الثاني عن الآثار في الإمارات‏

03-آذار-2009

لا يشبهنا في الموت أحد

09-كانون الثاني-2009

الذاكرة تحفر في متخيّل شعراء الحداثة في دول الخليج

09-تموز-2008

لغتي ابتداءُ الكون

07-حزيران-2008

تحولات الرّمل: وعي الاستمرارية في التجربة الروائية في الإمارات

02-آذار-2008

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow