Alef Logo
ابداعات
              

إليزا / الفصل الثالث

د. خضر محجز

2009-07-17


لم يكن عدنان مغتاظاً من حسين, عندما صرخ عليه وشتمه؛ بل إن كل هذا الصراخ وهذه الشتائم كانت في الحقيقة, موجهة إلى نفسه, بعد أن نام ليلة سوداء, لا يعرف كيف مرت عليه؛ إضافة إلى أنه الآن لا يعرف كيف يبدأ هذا اليوم مع حسين, وماذا سيقول له إن سأله: أين كان بالأمس طوال اليوم؟!. فهو لا يستطيع بالطبع أن يقول له: ذهبت أزوِّج سارة من بدو السبع, ثم جئتك كأن شيئاً لم يكن.
أما حسين, فقد كان متحيراً في هذا العدنان الصامت، على غير العادة. لم يقل له أين ذهب. ولم يقل له لماذا لم يكن هنا، ليشارك في المعركة مع أبناء موشي. ثم لم يقل له لم هو حزين هكذا ومُقْعٍ, مثل كلب يوشك على البكاء, رغم كل هذا التفاح الذي يأكله. كما لم يقل له لماذا... (يابن الكاااالب!... هل تزوجت سارة, ثم جئتني تتمطوح مثل جرو فقأوا عينيه؟!) .. وعند هذا الحد, قال قلبه: دي. فجلس على أول السلم, وقد أحس بأنه داخ.
ـ مالك يا حسين!.. في شيء؟!.
هرول عدنان بعد أن أنزل الصندوق على الأرض, وبدا مذهولاً مثل صبي كشفوا له عن عورته أمام زملاء الفصل.
ـ لا.. ما فيش شيء.. بس, وين كنت امبارح؟.
سأل حسين وكانت شفته السفلى ترتجف, مثل ابن عرس بعد أكله السم الذي دسه حكيمي, في حبة الفليفلة, تحت الشوكولاتة, قبل أيام.
ـ والله يا صاحبي ما أنا عارف إيش بدي أقول لك!.
رد عدنان وهو يتجنب النظر في عيني صديقه, متشاغلاً بإشعال سيجارة التايم (التي أخذها من محاسب الحانوت الليبي الجلدة, أجرة موافقته على إحضار كأس القهوة له ـ وكان بمقدوره أن يرفض, لكنه أراد التمتع برؤية وجه الكلب، وهو يتخلى عن عظمته ـ من كشك الروماني الذي لا يحسن العبرية, في أول الرصيف.. ابن الكلب الروماني هذا كانت زوجته جميلة, وصابغة شعرها ميش. وكان عدنان يحاول اصطيادها. لكن الروماني المعفّن كان متنبهاً مثل ثعلب, بدليل أنه صار يكشر في وجهه، كلما ذهب لشراء شطيرة البيض, الذي توشك صيصانُه على الصوصوة في بطنه).. لكنه عندما لمح الدموع في عيني صديقه, شعر بأنه خائن، وقليل الأصل، ولا يستحق مثل هذا الصديق. فرمى سيجارة التايم, وهجم عليه, وضربه في كتفه, فلم يرد. ثم ضربه مرة أخرى في صدره, فلم يرد. ثم أخذ يضربه ويضربه وهو يصرخ دون وعي منه: "راحت سارة.. أخذوها البدو"، وهو صامت مثل حجر. ثم هجم عليه، وتعانقا وهما يشهقان، وقد امتزجت دموعهما. وحكيمي واقف يضرب كفاً بأخرى، متعجباً من العرڤيم المشوچاعيم(1).
سارة كانت أجمل فتاة في الحارة. وحسين كان أكثر ولد غلبان في الحارة. وعدنان كان أكثر ولد شيطان في الحارة.
سارة كانت أجمل فتاة في الحارة, لأنها بيضاء مثل الشمع, وممدودة القوام مثل نخلة بين شجيرات النتش, وناعمة مثل أقحوانة نبتت على مسيل الماء, وأسيلة الخدين مثل حقل قمح في منتصف الربيع.. في عينيها نعاس، وفي صوتها نوم, عندما يراهما حسين، تتفكك مفاصله, ويغدو مثل تلميذ غبي، أخرجه المعلم على اللوح، ليحل أصعب المسائل. ولأن أباها كان أكثر واحد هامل, في الحارة، ويلعب القمار؛ فقد تزوج من أمها، التي كانت أجمل امرأة في الحارة, قبل أن تشتعل فيها النار، ويصبح اسمها "المحروقة" (وهكذا هي العادة في المخيم, حيث يتزوج الهمل في الغالب أجمل الجميلات ـ لا تعرف كيف ـ ثم يعاملونهن معاملة سيئة, ويصبرن، ويأكلن الحصرم، ويجعن, ثم يتفانين في خدمتهم, ويظلون متأففين: قسمة الله بين العباد, لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه!. حتى إن أفضل الرجال وأكملهم لا يتزوج إلا قبيحة, أو قليلة الجمال ـ كما لو أنهم عصبوا عينيه, ثم قالوا له: توكل على الله, فتوكل ـ أو بذيئة حمقاء, لا تحمده ولا تشكر ربها, مع أن مثله خسارة أن ينام في طولها), إضافة إلى كونه قليل الدين: لا يُحلِّل ولا يُحرِّم, وقليل الأصل دون، أهمل رعاية أمه في شيخوختها, وكان ينتهرها كثيراً، ويقول لها أمام الناس: يا خرفانة. ولولا المحروقة، لطلع الدود من بدنها. وقبل أن تموت، دعت عليه أن يرى من أولاده ما رأته منه.
وحسين كان أكثر ولد غلبان في الحارة, لأن أباه كان عديم المنفعة، ميئوساً من صلاحه, إضافة إلى كونه يجمع النقيضين: الهمالة والصعلكة (رغم أنه تطوع فدائياً مع مصطفى حافظ, وصار يسرق البيارات، ويتسافل على الغلابا, بالرشاش الذي أعطوه إياه ليقتل به اليهود, فصار يحضر برتقالاً وفواكه، أكثر من الآذان والأصابع, التي يطلبونها منه. ثم ذهب إلى مصر, وتزوج مصرية. وهجر "سعدة". ونسي الحب الذي كان بينهما. ونسي أنها من أجله تحدّت عمها ـ الذي ربّاها بعد موت أبيها في أول الهجرة, عندما ذهب إلى البلد ليسرق القمح من خوابيه, فطخّه اليهود ـ وقالت له بأنها لن تتزوج ابنه المنيك, وأن عليه أن يكف عن طرد الخاطبين. فهرش إليته هرشاً عظيماً, وبعد أن ضحك حتى ضرط, قال: والله أنت أرجل من ابني، وخسارة فيه، يا عم. وزوّجها لسعيد، بعد أن عرف أن عينه عليها، وعينها عليه) ولم يفعل شيئاً باستثناء إنجابه, ثم الغياب عن البيت, وتركه لأمه التي كان يأتيها كل حين ومين. وإذ أدركت سعدة خطيئتها بهذا الزواج متأخراً, فقد ركزت اهتمامها على ابنها, منشغلة به عن زوج موته خير من حياته, فأرضعته ست سنوات كاملة, حتى صار رأسه مثل الحديد, وذهب إلى المدرسة. ولما وصلتها ورقة الطلاق، رفضت أن تتزوج وترميه في معهد الأيتام, مع أن جوعها كان أكثر من شبعها. وصارت تعيّره بأبيه, وتشبع فيه ضرباً. ثم عندما تهدأ، تأخذه في حضنها وتبكي, وتلعن حظها، وتعاتب ربها بكلام صعب. ثم ترجع إلى عقلها، وتستغفر وتصلي على النبي المختار، وتقول: إن شاء الله يا ابني بتكبر وبتصير دكتور. ولما كبر قليلاً, عاقبها بالرسوب المتكرر, إلى أن طردوه من المدرسة. فأكلته بأسنانها، وفرّجت عليه الحارة. ثم نسيت كل شيء, وصارت تنظر إلى سارة وتمصمص بشفتيها وتقول: الله يجعلك من حظنا ونصيبنا.
وعدنان كان أكثر ولد شيطان في الحارة, لأن أمه المحروقة كانت تكثر من تدليله, وتتصدى لأبيه عندما يريد أن يؤدبه في آخر الليل، بعد عودته من لعب القمار، بسبب المشاكل التي يفتعلها في المدرسة مع المعلمين (لدرجة أنه هرب من الدراسة, واشتغل في الأستاذ, وصنع شُدّيدة، وصار ينقفه بها في صلعته كل يوم, في طريق الذهاب والإياب, لأنه عمل له فلقة على المنصة، أمام كل التلاميذ, وأعطاه علامة صفر في كل المواد, رغم أنه كان متأكداً من أن إجاباته صحيحة, لأن من غشّشه إياها كان أشطر ولد في الفصل) وتحضنه وتقول: بكرة بتشوف ابني كيف بيطلع, والله غير يصير أحسن من كل الناجحين اللي بتعرفهم. الأمر الذي يزيد أباه اشتعالاً, فيحوّل غضبه ناحيتها, حتى قيل إنها احترقت لهذا السبب.
أما الحارة، فكانت تحوي كل هذه التناقضات, واقفة على طرف المخيم، مما يلي الكروم والبيارات والغابة والبحر؛ حيث تفتح المحروقة شباك الصفيح, كل عصر, لتبترد غرفة القرميد. ثم تضع سارة في حضنها, وتفك ضفائرها, وتبدأ في تمشيط شعر كأنه أسلاك الذهب. وحسين جالس مقابل الشباك, في الشارع, مع عدنان. وعبد الحليم يغني: باحلم بيك. و"صفية" بنت مصلح بوابير الكاز تروح وتجيء, محاولة لفت انتباه عدنان. وعدنان ابن المحروقة لا يلتفت. وحسين سايح في ملكوت سارة, التي تسارقه النظر. والأولاد يبصبصون من بعيد, ولكن لا أحد منهم يقترب, لأنهم يعرفون أن من يفعل فسوف يأكل علقة تكفيه, ويفرّق من ورائها على الجيران.
ظل الأمر هكذا حتى جاءت حرب حزيران1967, وجاء اليهود, وجاء معهم بدو السبع، المتطوعون في الجيش الإسرائيلي, يركبون سيارات "البيك أب"، ويبرمون شواربهم, ويقتصون أثر الفدائيين, ويحملون بنادق العوزي, معتقدين أنهم يشتغلون شغلة شريفة, تتيح لهم الزواج من الجميلات: الواحدة بألف ليرة. ولما انخفضت قيمة الليرة, بعد ذلك, رفعوا السعر. وكبرت سارة, وكبر حسين (وعمل هوية, وصار يخرج في الطوق، عندما ينادي مكبر الصوت، يدعو الرجال إلى الخروج إلى الساحة, وأمه تولول لليهودي: صغير يا خواجا. فيقول لها روخ بيتك يا خمار). وكبر عدنان. وازداد أبوه همالة. وعرف بدو السبع أخيراً بيته. وخطبوا سارة, ودفعوا فيها عشرة آلاف ليرة. وخطب أبوها امرأة من أمثاله (سوداء مسلسعة كأنها المفتاح. أبوها ميت وأمها تشتغل في إسرائيل، وتنام هناك. والواسطة "درويش" زوج أختها, وصاحبه في طاولة القمار). وصار على سارة أن تنتظر موعد الزفاف. وصار على عدنان أن يبحث لأمه عن مأوى, فقد بدأت النهاية تتضح منذ الآن. ولم يبق أمام حسين إلا أن يشرب البحر, أو يرحل. فاختار الرحيل. وذهب إلى تل أبيب, وأخذ معه عدنان. وصارت أمه تدعو على زوج المحروقة وتقول عنه: جاسوس. وسمع الله دعاءها, فجاء الفدائيون من الجبهة الشعبية, وهددوه بالقتل، إذا زوج سارة لعملاء الاحتلال. لكنه طردهم, وقال إنه يعرف أن من أرسلهم هو حسين, وأنه لن يزوج ابنته من واحد مقطوع من شجرة، وتربية امرأة.
في الشهور الأولى, اشتغل عدنان في منجرة لصناعة صناديق الخضروات, بشخونات هتكڤا, يملكها الأخوة السبعة, قبل أن يأخذه جاسم ذو اليد المقطوعة إلى سوق الحشمونائيم, ليعمل معه في الحانوت رقم23. وهناك في الشخوناة, تعلم اللهجة العراقية, وضرب الخصم بقطعة الخمسة كيلوغرامات, وشرب الشاي الأسود المركز. وتعرف على تجار الكوك والحشيش والقوّادين وعصابات المرتزقة (فإذا أردت قتل أحد أو تأديبه, فما عليك إلا أن تدفع لهم المبلغ الملائم, ثم تنسى الأمر), وصاروا يحبونه, مثل واحد منهم. ورغم أنه عربي ولا يعمل أعمالهم, إلا أن هيئته صارت تشبههم, وصار يلبس القمصان المشجرة نصف الكم, وينزل بنطلونه إلى أسفل حوضه, ويتخنصر ويشخر ويبصق من بين أسنانه, فتخرج البصقة مثل سهم نحو الهدف. وصار رجال الشرطة يظنونه عراقياً مقطّعاً وموصّلاً ولا يعرف ربه, فأكنّوا له احتراماً عميقاً, وسموه عزرا... ثم أحبته إليزا, الفتاة الشيوعية المعجبة بعبد الكريم قاسم, وتقص شعرها مثل الأولاد. فلما علمت أنه من غزة، ويحب جمال عبد الناصر, بصقت في وجهه، وسبت دينه؛ فسب دينها، وقبلها غصباً عن إرادتها. ثم تخاصما وافترقا خمسة أيام. ثم تدخل الأصحاب وصالحوهما, على أن يحترم كل منهما دين الآخر. وظل الأمر هكذا, إلى أن جاء أولاد الطيرة الشيوعيون, وعلموا أنه عدنان لا عزرا, وأنه من غزة ويحب جمال عبد الناصر, فاتفقوا عليه, وقرروا أن يعملوا له علقة نصفها موت.
ـ عبد الناصر عميل أمريكا...
هكذا قال الولد الطيراوي الطويل, وهو يحدق في عدنان, الذي رد على التحدي بأقوى منه:
ـ أنت العميل، وأبوك العميل... يا ملحد يا كلب. وأسيادك، اللي قاعدين في الكنيست الصهيوني، هم اللي علموك تسب زعيم الأمة العربية.
ولم يكن الولد الطيراوي محتاجاً لهذا الرد, لأنه كان قد هجم على عدنان قبل أن يفتح فمه. ولم يكن عدنان بدوره محتاجاً لهذا الهجوم, لأنه كان قد بادر من جهته بضرب رأس الولد الطيراوي، بالصندوق الذي في يده. لكن رأس الطيراوي كان مثل الحديد, فلم يبدُ عليه أيّ تأثر.. واشتعلت المعركة. وتكاثر الطراونة على عدنان, وأصابوه بكدمات متعددة. لكن حضور حسين، بعد أقل من ساعة, قلب المعادلة, وأعاد المعركة إلى بدايتها، مرة أخرى.
حسين كان في سوق الحشمونائيم, عندما اتصلت إليزا بتليفون الحانوت, وأخبرته بما جرى. فذهب يجري على طول الطريق إلى الشخوناة, مثل المجنون عندما يقولون له: هوس. ولم يعرف لماذا لم يستأجر سيارة تاكسي, فالمسافة لم تكن قريبة. ما يعرفه فقط, هو أنه في أقل من نصف ساعة كان هناك. وعندما دخل ورأى الكدمات في وجه عدنان, وإليزا واقفة إلى جانبه صامتة, كان الهجوم الثاني قد بدأ, بصراخ الطيراوي الطويل:
ـ وين هو؟.
ثم هجم على حسين بمقص الحديد, وهو يسب دين الغزازوة المتشردين. لكن الأمر اختلف الآن, إذ أن حسين جاء من السوق مستعداً. وعلى الفور, أخرج من جيبه موس الكبّاس(2), وضربه في بطنه, فوقع على الأرض, وصار يعوي مثل ابن آوى. وتناول عدنان قطعة الخمسة كيلوغرامات (وكانت قد دبّت فيه الروح من جديد) وضرب بها رأس واحد آخر, فوقع إلى جانب الطيراوي الطويل. وعادت المعركة جذعة مثل نار أُلقمت حطباً جديداً.. وتناولت إليزا الشاكوش وضربت واحداً من رفاق العقيدة في رأسه, فسخسخ... وهكذا... إلى أن طابت البلاد, وهرب المتبقون. وحضر جاسم على الفور, ونقل المصابين إلى المستشفى, ثم أخذ معه عدنان إلى السوق. ورشا الشرطة, فأغلقت الملف (فقد كان المتعاركون مجرد عرب). وبعد أن خفّ الشغل عند جاسم, انتقل عدنان إلى حانوت رقم7, ليعمل مع حسين. وصارت إليزا تحضر إليه في السوق يومياً. وصار يذهب إليها, في الشخوناة, في بعض الأيام, بعد انتهاء العمل, وينامان سوياً في الأزقة المظلمة.
عدنان كان أطول من حسين قليلاً, وأنحف منه كثيراً (لكنه كان يأكل أكثر من ثلاثة أشخاص كحسين, خصوصاً عندما يكون الأكل دجاجاً أو لحماً أو سمكاً. أما إذا كان الأكل مجرد حمص أو بيض أو ما شابه, فقد كان يشبع بسرعة). ورغم أن أمه كانت بيضاء, قبل أن تصبح محروقة, إلا أنه جاء مثل أبيه: صغير العينين, أسمر ممصوصاً, يمشي مائل الرأس (كما لو كان جسمه ينوء بحمل رأسه، الذي لم يكن كبيراً). ويحب أمه المحروقة، بقدر ما يكره أباه. ويحب أخته سارة، كما لم يحب شيئاً من قبل. ويحب صديقه حسين، ويحب حبهما, ويراه شيئاً طبيعياً, لأنه لم يكن ليتصور حدوث شيء يمنع زواجهما, خصوصاً مع هذه الصداقة، التي تربط بين أم حسين والمحروقة. لذا فقد كان هو الذي ذهب إلى أصدقائه في الجبهة الشعبية, وطلب منهم أن يهددوا أباه ـ وحسين لم يكن يعرف بالأمر ـ ولولا ذلك لما احتمل الفدائيون هذا الأسلوب، الذي واجههم به زوج المحروقة. وبالأمس, عندما جاء بدو السبع, ليأخذوا سارة, أوشكوا على الاشتباك معهم؛ لكنهم, عندما رأوا الناس يملأون البيت والشوارع المجاورة, خافوا أن يتحول الأمر إلى مذبحة شاملة. فانصرفوا متأففين.
لحظة خروج العروس كانت أصعب اللحظات (إذ تمنى عدنان أن لو حدثت المذبحة فعلاً, ولا يجري هذا الذي جرى. وتذكر دعاء جدته على أبيه، فأوشك على تلبيته, ولكنه خشي أن يقول عنه الناس: ابن حرام) فقبل صعود سارة إلى السيارة, هاهت أم حسين فجأة: "غريبة غرّبوها رجالها.. ما غربوها إلا كثر الدراهم". ثم زغردت زغرودة طويلة تقطعها الحشرجات. فارتفعت أصوات نساء الحارة بالنشيج. ودبت المحروقة الدنيا بالصوت, فلطمها أبو عدنان على وجهها، أمام الحاضرين, ولعن أباها وأصلها الواطي. وارتمت سارة في حضن أخيها، وهي تشهق بالبكاء. وبكت أم حسين. ورآها الحاضرون تشق ثوبها وتصرخ في وجه عدنان:
ـ ليش صاحبك ابن الكلب ما أجاش, علشان يشوف له صرفة في هالجواسيس!.
ووقعت على الأرض. فهجمت النسوة عليها ينضحن وجهها بالماء البارد, ويواسينها. ثم أخذتها صفية بنت مصلح بوابير الكاز, إلى دارها, وعملت لها كوب سكر وليمون, وتحايلت عليها حتى شربته, ثم أعطتها حبة أسبرين. وظلت إلى جانبها حتى أغمضت عينيها. فرمت عليها اللحاف, وهي تسمي باسم الله. وخرجت على أطراف أصابعها. وركب عدنان السيارة إلى تل أبيب. ونامت الحارة تلك الليلة كأنها في عزاء. ولكن ظل صوت أم حسين ينوح, حتى طرق مسمعها صوت الشيخ عثمان المؤذن يلعلع: "سبحان من أصبح الصباحْ. سبحان الملك الفتّاحْ. سبحان مطيّر الجناحْ. سبحان من أذهب الليل وأتانا بالصباح... سبحان الواحد الأحدْ. سبحان الفرد الصمدْ. سبحان من قسم الأرزاق ولم ينس من فضله أحدْ". فأيقنت أن رزقها على الله, وأن الذي خلق سارة خلق غيرها. فاستسلمت ونامت. وتوكلت على الذي لا يغفل ولا ينام. ورأت في منامها أن حسين واقع في ضيق شديد, لكنه سرعان ما أفرج عنه. فقامت مستبشرة, وهي تصلي على النبي المختار, وترضى على ابنها الغائب الذي طلعت به من الدنيا. وتقول: الله يسهل عليها ويسعدها.
ـ الله يسهل عليها ـ قال حسين وهو يفتح عينيه، بعد ليلة مثل الخراء السائل، نام فيها على وجهه، وعانى طوالها من الكوابيس ـ الزواج قسمة ونصيب. مين عارف. مش يمكن ربنا يسعدها؟.
فرك عدنان عينيه من بقايا النوم، وهو يلحظ حسين باستغراب وألم, غير مصدق مما قال حرفاً واحداً, ثم قال بعد تردد شديد:
ـ الدنيا الصبح, واليوم السبت.. يعني خلاص خش السبت في طيز اليهودي. وما فيش فايدة من كل هالكلام.. صدقني صرت خايف عليك، أكثر ما أنا خايف عليها.. تعال نطلع نشوف وجه ربنا. يللا يا شيخ... يللا..
وبعد أن شطف الاثنان وجهيهما بالقليل من الماء ـ ودون أن يتنبها إلى غياب وجيه ـ أخذ عدنان بيد صديقه, الذي صار يمشي معه بالتصوير البطيء. وذهبا إلى إليزا.
في أول حوش الخردة، الذي تقطن إليزا جزءاً منه, استقبلهما الكلب الوولف الضخم، مزمجراً بالترحيب على طريقته. ثم اقترب من عدنان وصار يتمسح به, قبل أن يجري باتجاه غرفة الصفيح مبشراً. فخرجت إليزا على الفور، وقد عرفت هوية القادمين. وبعد الترحيب والقبلات مع عدنان, أمرت الكلب بالتقاط بطة من القن لطعام الغداء. فأخبرها الصديقان أن هذا اليوم هو يوم السمك. فتهللت فرحة وهي تصرخ: يافا؟. فأجابا: نعم. فركضت عائدة إلى غرفة الصفيح, ونزعت ملابسها, وارتدت مايوه البحر, دون أن تكلف نفسها عناء إغلاق الباب وراءها. ولما صرخ فيها عدنان, ضربت الباب بقدمها, فاهتزت ألواح الصفيح, ثم ارتدت بنطلون الكاوبوي، الذي اشتراه لها عدنان من غزة، ووضعت موس الكباس في الجيب الخلفي, ثم غطته بقميص التي شيرت الواسع, ثم ألقت على وجهها نظرة في المرآة المعلقة وراء الباب, ونكشت شعرها بأصابعها قليلاً. وبعد أن شعرت ببعض الرضا عن مظهرها الخارجي, خرجت تنكش الأرض بقدميها مثل حمار محرن. لكنها عندما رأت طبقة الحزن الكثيفة على وجه حسين, أحست بتأنيب الضمير, وعاتبت نفسها قائلة: إيش هالهبل!.. واكتفت بالتحديق الغاضب في وجه عدنان. ثم افتعلت ابتسامة لترضيه, قبل أن تغمغم: بدكش تبطل هالغيرة؟. فقرصها عدنان من خدها, فنسيت كل شيء, وخرجوا سوياً إلى يافا.
الزقاق الذي كان يخترق حي العجمي, من أول الشارع العام إلى البيوت الملاصقة للبحر, كان مزدحما بالمتسوقين اليهود، القادمين من أحياء تل أبيب. وعلى الجانبين كانت البضائع, التي جاء بها الغزازوة, تملأ الزقاق الترابي والأزقة المتفرعة: كل أنواع البضائع الرخيصة الثمن (فيوم السبت, الذي تغلق فيه محلات اليهود, هو اليوم المناسب لمثل هذا السوق الأسبوعي. حيث تحضر اليهوديات لشراء السمك المغشوش, الذي اشتراه بالأمس جباليّة يافا من الثلاجات, ووضعوه في بحر غزة, ورشوا عليه رمل الساحل, ليتمكنوا من القسم بأنه خارج من بحر غزة, ويبيعوه بسعر السمك الطازج). وكان يحلو لبعض اليهوديات النَصَف انتهاز هذا اليوم للمتعة؛ فيرتدين السراويل القصيرة الضيقة, ويتسكعن في السوق، ليعبث بمؤخراتهن الأولاد الغزازوة الجوعى, وربما انتهى ببعضهن اليوم بصحبة ولد من هؤلاء, تأخذه إلى بيتها، وتتسلى بفعالياته البكر, طوال الليل, بدلاً من الكلب البولدوچ، الذي ملت أفعاله في الأيام الأخيرة.
اشترى عدنان السمك، من بائع موثوق تعود على الشراء منه. ورغم ذلك فلم ينس أن يهدده بالذبح, إذا ما اكتشف بأن سمكه مثل هذا الموجود هنا. وبعد أن أكد له الرجل بأنه غير مستغنٍ عن عمره؛ انطلق الثلاثة إلى البحر, مخترقين تجمعات المصطافين حول الميناء القديمة, حتى غابوا عن أعين الناس, عند الصخرات اللاتي تعودوا على اللجوء إليهن كلما جاؤوا. وخلع كل من عدنان وإليزا ملابسهما, ثم قفزا إلى البحر مثل سمكتين, وسبحا نحو الأزرق البعيد في الأعالي, ليمارسا شبابهما هناك تحت خط الأفق. وتناوم حسين على الرمل، محاولاً تصور سارة في بيوت الشعر... من كان يصدق أنه سيعيش ساعة بعد زواجها من غيره!. لكنه عاش, وهاهو الآن هنا، ويخرج في نزهة بحرية, وعما قليل يأكل السمك, ثم ينقضي النهار ويذهب إلى النوم, و... (يا إله السماوات والثعابين وكلاب البر والبحر والجواسيس والشياطين والقبح والمومسات وقوادي الأرصفة ـ تصور في هذه اللحظة سارة بين ذراعي البدوي، الذي يقتص الأثر ليدل على الفدائيين ـ كيف يمكن أن يحدث هذا!.) وقام يجري بكل قوته على طول الشاطئ جيئة وذهاباً، مثل مجنون, حتى أصابه الإعياء. فضرب رأسه في الصخرة بعنف، حتى غرق في الدماء... وعندما تهاوى على الأرض, شعر بأنه الآن محتاج إلى صدر أمه لينام عليه. فنام. وعندما عاد عدنان وإليزا، كان كل شيء في مكانه, كأن شيئاً لم يكن. وقد صحا حسين من غيبوبته، وغسل وجهه في البحر، واضطجع ساهماً.
ـ إيش يا حسين؟.. بدكش تشتغل اليوم سمكة!.
هتفت إليزا مصطنعة الاستغراب، وهي تقطر بالماء. فغمزها عدنان، فصمتت, وقد أحست أن الأمر أخطر مما تتصور. فلما رفع حسين بصره عن الرمل, ورأت الدموع في عينيه، والكدمات في وجهه, انقبض قلبها، وقد أحست بأن مصيبة قد حلت بالمكان. لكنها لم تكن تعرف قصة سارة, بل لم يخطر ببالها أن هذا الخشن المتوحد, مثل حجر في فلاة, يمكن له أن يحب فتاة, أو أن تحبه فتاة مثل القمر, ثم تفضل الموت على فراقه.
لقد كان زواج سارة من البدوي, الذي يقتص الأثر, أسوأ من الموت, في اعتقاد الجميع. يعرف ذلك عدنان، فيزداد ألماً وندماً (ولكن ماذا كان يمكن له أن يفعل, باستثناء ضرب أبيه، ومنعه الزيجة بالقوة!. وربما كان هذا ما يتمناه حسين, ويجد نفسه عاتباً على صديقه، لأنه لم يفعله. ولو فعله، لما رضي حسين آخر الأمر.. حيرة شديدة, وظلم لا يرضي الله, ولا يرضي أحداً)، ويعرف ذلك حسين, فيزداد يأساً. فلما رأى أخيراً أنه موشك على إفساد الرحلة على الحبيبين, قفز إلى البحر بكامل ملابسه، سابحاً نحو الصخرة البعيدة, وشيء في داخله يتمنى أن تحمله دوامة حاقدة, إلى أعماق بحر لا يراه فيه أحد. لكن مخططه فشل، وعاد بعد ساعة وقد أُفرخ روعه بعض الشيء, وارتمى على الرمل, ينظر إلى إليزا وهي تؤدي التمارين العنيفة, التي تعودت عليها منذ سكنت شخونات هتكڤا, وعاشت بين الصعاليك.
كانت مثل ولد في كل شيء, إلا في جمالها المخبوء تحت هذا التجهم السياسي, الذي لا مبرر له. وفي هذه اللحظات، التي بدت فيها عارية من هذا التجهم, ظهرت على حقيقتها: أمازونة سمراء قليلاً بملابس البحر, فيها أنوثة مسلحة، تجعل الإقبال على الموت أمراً لا فرار منه, وجمال هادئ يبعث على الاطمئنان. وقد بدت سمرتها الآن مثل سمرة مياه الأنهار, تخفي تحت سطحها الساكن كثيراً من الكنوز. (ولطالما قاد هذا النوع من الجمال الرجال, من أنوفهم, إلى القفص الذهبي, وقد تملكتهم رغبة الأجداد النازلين تواً عن الأشجار). لقد أحسن عدنان صنعاً عندما اختارها: فلم تعد إليزا, بعد وقوعها في حبه, تائهة كما كانت من قبل. وصار هو خروف الرب العائد إلى الحظيرة: لقد وجد أخيراً في حضنها حظيرته, كما وجدت في عينيه أهلها الغائبين.
جلست إليزا على الرمل غير بعيد. وتمدد إلى جانبها عدنان على ظهره, وقد أغمض عينيه. وبدأ يهمس لها بالقصة. وعندما ذكر لها ما فعلته أم حسين, أحست بانقباض يوشك أن يقذف قلبها من بين أضلاعها, وبكت, وقد أحست بحنين إلى صدر أمها التي لم تعرفها. فأدرك عدنان أنها تذكرت طفولتها في الكيبوتس، فكف عن الكلام، وكفت عن البكاء. وقاما ليواسيا المنكوب الجديد.
ـ ياللا... تعال نشوي السمك...
ـ بلا سمك بلا زفت.. أنا بدي أروح على سارة.
ـــــــــــــــــــ
الهوامش:
1ـ عبرية تعني: العرب المجانين.
2ـ سكين قرن الغزال.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الفكرة والدخان لمعين شلولة(*) محتوى الشكل وشكل المحتوى

06-آب-2016

نصوص المرأة في غزة / الجسد يتكلم

25-أيار-2015

عابرون في ثياب خفيفة ناصر رباح وكلاب النثر السوداء

28-أيار-2014

قراءة في قصيدة الشاعر سائد السويركي

01-آذار-2013

نظرات في كتاب حاج حمد (إبستمولوجيا المعرفة الكونية)

25-تموز-2011

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow