Alef Logo
ابداعات
              

رواية / الشَّغَّالة : ج1

سامى عبد الستار مسلم

2009-09-06


(1)

إنه عالم كبير جداً اسمه (النت) يلبى كثير من الرغبات، بمختلف أنواعها؛ وأنا أرغب في صداقة. إن صداقاتي نوعان: الأول منها مريض بالنفاق والكذب والنفعية، الثاني نما معي منذ صغرى، يخلو من هذه الأمراض، لكنه يحمل صداقة جوفاء، وبحكم الجوار، والوجود في حي واحد، مدرسة واحدة، ملعب واحد لكرة القدم، سن واحد- حُسب النوع الثاني علىَّ صداقة حتى اليوم.
إن النت يحمل الكثير من مواقع الشات، من خلال الشات يمكنني التعرف على الكثير والكثير من البشر، من شتى بقاع الأرض . بحثت عن رغبتي؛ بل خضت التجربةبالفعل، حقاً النت يلبى كثيراً من الرغبات، لكن برغم خوضي وبحثي كيف لم أستطع الحصول على ما أرغب إلى الآن ؟! إنه حقاً يلبى الكثير من الرغبات !!
لن أترك الشات حتى أجد الصداقة التي أبحث عنها، فأنا أرفض كل هذه الصداقات؛ التي تمت إلى الآن عبر الشات، والتي من سني؛ فلا حديث يدور على ألسنتهم ـ إن كن فتيات عربيات أو شباب عرب (عفواً أنا لا أتحدث إلا العربية؛ لأنني لا أعرف غيرها ) إلا عن الملابس، الأغاني التافهة، الطعام، الشراب، الحكايات الغرامية غير القائمة على أساس مقنع. أنا لا أحتمل كل هذا؛ إنه ضياع للوقت، وإن لم يتم التأثير فيهم من ناحيتي ربما أنا الذي وقعت في فخ التأثر بهم وصرت واحداً منهم، هذا مستحيل تصوره بالنسبة لي، غير أنني أبحث عن صداقة تغير منّي إلى الأفضل.
لا بد من حل.
رحت أبحث عن هذا الحل جاهداً؛ حتى خطر ببالي العمر، أدركت أنني كنت مخطئاً حين قدرت الصداقة وحسبتها بالعمر؛ فالصداقة لا يحجمها العمر طالما يغذيها الصدق، وكل معانيها الجميلة.
شعرت براحة بالغة حينما لمست موطن الضعف والخلل، وجاء الدور إلى أن ألمس موطن القوة والاتزان؛ حتى أفوز بما أسعى إليه.
جلست أمام منضدة الكمبيوتر، طرقت باب الشات بيد جديدة غير التي طرقت بها عليه من قبل. فكرت قليلاً في النوع
هل أحدد نوع من أرغب في صداقته ؟
لا لا هذا خطأ؛ فمعاني الصداقة لا تتجزأ؛ يحملها أيا من النوعين، إذاً فلن أحدد النوع، كذلك لن أحدد الوطن؛ يكفى أن يكون وطن الصداقة بداخل الإنسان، لكن حتماً سيكون تركيزي على البلاد العربية؛ حتى أستطيع الفهم، وسيكون أول إجراء أتخذه هو البعد عن الأعمار التي تقارب عمري، أو تساويه.
فتح باب الشات أمامي، قمت بتسجيل كل بياناتي، حددت عمر من أرغب في صداقته من الخامسة والثلاثين إلى الخمسين عاماً، لم أحدد النوع والوطن، ضغطت على زر البحث، إذا بقائمة طويلة تظهر أمامي ارتجَف جسدي؛ كأني مقبل على عملية جراحية ستجرى به.
ماذا أصابني ؟
إن ما تخيرته جاءني. إذاً لابد أن اُقبِل عليه وأجرب.
إن أول اسم بالقائمة (عاشقة القهوة) حمداً لله؛ فالاسم باللغة العربية، عزمت على أن أرسل لهذا الاسم رسالتي، قبل أن أنقر على الأسم بالمؤشر، إذا برسالة تأتيني.
يا إلهي ما هذا ؟
إنها من الاسم نفسه، وإنها "بون جور" ممكن نتعارف ؟
كتبت ردى بسرعة:
- ممكن، بكل سرور. أنا عادل كامل، من مصر.
توالت الرسائل:
- وأنا ريـم سرى، لبنانية، أحب الزرع والقراءة.
- وأنا أيضاً مثلك، أهلاً وسهلا.
- ميرسى... كم عمرك ؟
- 27سنة.
- ما هو عملك ؟
- مدرس علوم بإحدى المدارس الإعدادية.
- تحياتي لمصر وأهلها.
- ولك منها ومنا كل التحية.
- يمكننا أن نتحدث على "الإيميلات" فما رأيك ؟
- بكل سرور.
تبادلنا الإيميلات، قمت على الفور بتسجيل إيميلها بإيميلى لم أنتظر كثيراً؛ إذا بها ترسل رسالة من إيميلها إلى إيميلى ، تقول فيها:
- بون جور مسيو عادل.
- بون جور.
- أتسمح لي بأن أرسل لك دعوة "فيديوكوول" ؟
- ابهذه السرعة ؟!
- لم لا ؟ ذلك لن ينقص من الأمر شيئاً؛ بل يساعد على الإنجاز أكثر من الكتابة، وبه ثمة مصداقية ما.
- حقاً. وهو كذلك، أنا جاهز.
جاءتني دعوة (الكاميرا والصوت) وقبِلتها.
صوت عصفور يأتي بانتظام؛ كأنه منبعث من جسد آلة، مكتبة يستقر بوسطها تلفاز يبث إرساله، مقاعد منشورة على شكل دائرة؛ كأنها أشباح بشر في اجتماع، أصيص زرع تخترقه نخلة متوسطة الطول؛ كأنها خادم قائم على خدمة المجتمعين. انبعث صوتها في نعومة؛ ليتفوق على أناقة المكان، بدت بوجهها وهى في حالة جلوس بطئ على مقعد.
أعادت علىَّ تحيتها الجميلة، بادلتها التحية وهى تصلح من حال سلك (الهيدفون) حتى أنهت ما تفعله، نظرت لي بعينين بنيتين متسعتين تصلحان إشارات لضبط حركة مشاعر وأحاسيس الكون ـ يتألق بهما لمعان متميز، تربعت على عرش وجهها خصلة شعر أسود ناعم كالهلال فلتت من قبضة عصابة زرقاء تحكم الرأس، تحركت الشفتان الممتلئتان، قالت:
- كيف حالك ؟
- الحمد لله، كم عمرك ؟
- 45.
يا لها من سيدة جريئة ! دفعت بالعمر بتلقائية؛ كأنها تجيب عن اسمها. الحق أنني لم أدهش من تلك الجرأة فقط؛ بل دهشت َمن هدوء الوجه، وعظمة العينين، وملامح يصعب فصلها والتحري عنها؛ فلا ترى إلا هكذا.
مازال العصفور يملأ إٍيقاع صوته المكان؛ إذا بها تلتفت يساراً وتداعبه مناديةَ عليه:
- زقـزوق حــبــيــبــي.
تطيل في كل كلمة؛ كأنها تغني، بحركة مفاجئة ضربت كفيها بعضهما ببعض؛ فرد عليها بنفس الإيقاع.
سألتها عنه، قالت:
- أحضره لي أخي منذ عامين، يملأ علىَّ المكان، يسليني ويقلد الأشياء ـ أعني أصواتها ـ أحبه جداً، يشعر بي وينصاع لأوامري.
طلبت منى ـ قاطعةً حديثها عن عصفورها ـ أن أذهب معها إلى المطبخ لعمل فنجان قهوة، لما أشرت لها بالموافقة؛ أدارت الكاميرا تجاه المطبخ، قامت في رشاقة لاعبي الباليه متجهة إلى هناك بجسدها الرشيق متوسط الطول، راحت كالنحلة تطير هنا وهناك بداخل المطبخ؛ حتى خرجت حاملة فنجاناً كبيراً من القهوة، بكــرم قالت ـ وهى تجلس وتعدل الكاميرا مرة أخرى:
- تفضل.
- أشكرك.
ابتسمت قائلةَ:
ـ ليت"النت" يستطيع فعل ذلك !
- لا عليكِ أشكركِ، كفاني كرمكِ الواضح، أقول لكِ شيئاً: أرسلي فنجان القهوة مع زقزوق من لبنان، وأعطيه عنواني. ما رأيكِ ؟!
ضحكت فجأة ـ كالمفزوع من شئ ـ ضحكة طويلة، راحت تنظر إلى العصفور حتى هدأت، قالت:
- لكني أقيم الآن بكندا.
يا للارتياح الذي ملأني بعد الذي رأيته وسمعته ! كانت صفحة الشات لا تزال مفتوحة أمامي أسفل الشاشة؛ أغلقتها.
عدت إليها، دار الحوار:
- هل هي رحلة وستعودين بعدها ؟
- نــو.
- فماذا عن الأمر إذاً ؟
- إنها حكاية طويلة.
حكاية طويلة ! من المؤكد أن هذه الحكاية تخلو من التافه من الأمور التي ضيعت بها وقتي وأنا أبحث عن صداقة من في سني أو اقرب من خلال الشات، إن كانت هذه الحكاية تخلو من هذه الأشياء المزعجة، فماذا عما تحمله بداخلها ؟!
اعتبرت السؤال عن ذلك عشوائية في الحوار؛ ناقشتها في ذلك، وفى بحثي السابق في الشات، ووجهة نظري في الصداقة؛ فرِحََت كثيراً لما سمعَته مني، أبدت احترامها لفلسفتي تجاه هذا الأمر (الصداقة ) وأبدت رأيها الشبيه تماماً لرأيي، لما عدت ثانيةً إلى مسألة العشوائية في الحوار، أبديت لها استيائي من السؤال عن الحكاية الطويلة؛ إذ أنه لابد أن أمتلك شرعية السؤال، لابد لها هي أيضاً أن تمتلك شرعية الإجابة؛ أظهرت سعادتها برأيي؛ بل صفقت بكفيها، إذا بها تقول:
- شرعيتنا هي الصداقة.
- أيكون ذلك من أول لقاء ؟!
- الله فوق الجميع، وكما يوجد ما يسمونه بالحب من النظرة الأولى، توجد أيضاً الصداقة من أول لقاء.
- وكيف لنا أن نُفَعّل هذه الشرعية ؟
صمتت، راحت تفكر - وهى تنظر بعينيها في كل اتجاه - حتى عادت نظرها ناحيتي، قالت
- عندي فكرة عظيمة نُفَعّل بها هذه الشرعية.
- ما هي ؟
- ليبدأ كل منا بقص حكايته على الآخر.
- أي حكاية ؟
- حكاية حياته، هكذا يسأل، هكذا يجيب الآخر.
- إنها فكرة عظيمة، لكن ما الدافع الذي يدفع أى منا لقص حكايته ؟!
- الحاجة إلى الصداقة بمعناها الحقيقي مسيو، ولا أخفى عليك فأنا أيضا دخلت الشات بحثاً عن صداقة، وأبهرتني فلسفتك الجميلة تجاهها؛ فتعطشت لها أكثر.
- أنى أتعجب أن يحدث ما اقترحته لمجرد لقاء !
- إذا نظرت لحياة الإنسان ستجدها كلها سؤالاً وإجابةً، فبكاؤه وهو طفل؛ سؤال تجيبه عنه أمه بالرضاعة، هكذا إلى أن تنتهي حياته. كل شيء يحدث حولنا، أو منا، أو لنا، هو في جملته لا يخرج عن كونه ـ إجابة لسؤال، أو سؤالاً ينتظر إجابة، أما عن تعجبك بشأن حدوث ذلك من اللقاء الأول؛ فإن أي لقاء أياً كان ترتيبه لن يخرج عن أسئلة وإجابات، أتنكر أن بحثك عن الصداقة عبر الشات كان إجابة لرغبتك في الصداقة ؟! إن سرد حياة أي منا منذ بدايتها يُطِلع الآخر على جذور تجعله يتفهم الحاضر، فالحاضر من الماضي؛ بذلك تنبثق الصداقة، فما رأيك الآن مسيو عادل ؟
- يا لها من فلسفة عظيمة !
- ميرسى ميسو، أود أن تكون قد اقتنعت.
- بالطبع اقتنعت؛ بل وتحفزت للحكى أو الاستماع.
- وأنا مثلك.
- برأيكِ من منا يبدأ بحكايته ؟ أخشى أن أبدأ فأكون بذلك كسرت قاعدة من قواعد الشياكة؛ فالسيدات أولاً، فضلاً عن أنكِ صاحبة الفكرة، وإن جاءت لإشباع حاجتي للصداقة، فما رأيك؟
- عظيم.. عظيم ميسو، لأبدأ أنا بحكايتي أولاً.
- وهو كذلك.
- كنت تود معرفة حقيقة وجودي بكندا، ونفيت لك أنها رحلة قصيرة وسأعود بعدها، وأخبرتك أنها حكاية طويلة؛ فلنبدأ حكايتي من هنا.
-عظيم.
فرشت ذراعيها على منضدة الكمبيوتر؛ كأنها تضم بهما شيئاً إلى صدرها، تلاحم الذراعان، استرخت برأسها عليهما، قالت:
- أبي سوري الأصل من حمص، أمي سورية أيضاً من اللاذقية، ذهبا إلى لبنان وهما في سن الطفولة، تقابلا في فترة الشباب، تم الزواج، استقر بهما المقام هناك.
أسرتي عامرة بالأفراد، أتوسطهم في العدد، قبلي ثلاثة: ( نادين و نورا) متزوجتان الآن، لديهما أولاد في سن الشباب، و(جهاد) وهو متزوج، مقيم مع أسرته هنا، ولي سارة تصغرني بعام، وثلاثة رجال ـ يقيمون هنا ـ هم (منذر، مازن، صافى) الحمد لله كلهم أصحاب أسر.
أما عن الشرارة التي أشعلت المجيء إلى هنا، قبلها حكاية، بمجيء هذه الشرارة، دفعتها هذه الحكاية دفعاً إلى أن صارت لهباً عظيماً؛ كأنك ترمي بالبنزين على قطعة جمر صغيرة.
الحكاية هي أن بعد ذهاب أبي إلى لبنان، ظل يسعى بكل جهده كي يحصل على الجنسية اللبنانية، عانى الكثير والكثير، تلقى وعوداً لا حصر لها تشير لحصوله عليها، لم يحدث شئ، إلى أن تربت بداخله عقدة صارت أزمة، فهو عربي ابن عربي بل كل أصوله عربية، لكن من السهل عليك أن تحصل على جنسية قمرية يمنحها لك القمر، ولا تحصل على أي جنسية عربية من أي بلد عربي.
قاطعتها:
- فهو إذاً لم يحصل عليها !
- بل إنه حصل عليها.
أكملت:

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الشغالة / ج2

13-أيلول-2009

رواية / الشَّغَّالة : ج1

06-أيلول-2009

ثلاث قصص قصيرة

28-شباط-2009

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow