Alef Logo
دراسات
              

الدولة الديمقراطية العلمانية في فلسطين

د. خضر محجز

2007-11-23

كلمة العلمانية(Secularism) في أصلها تعني "العالم" أو "الدنيا" في علاقاتها المحسوسة، مقابل الآخرة في علاقاتها الغيبية. فسلطة العلمانية تعني سلطة الدنيا على الدنيا، مقابل "الأخروية" التي تعني سلطة الغيب على الدنيا.
ويتمثل مفهوم العلمانية ـ تطبيقياً ـ في ضرورة الإقرار بأن أمور العالم الحاضر، الذي نحياه، متأثر كل التأثر بعلاقات مفهومة؛ يمكن تحليلها وفهمها والتعامل من خلالها، لتحقيق مصالح الناس الدنيوية.
وعلى العكس من ذلك، يتمثل مفهوم (الأخروية) في سيطرة علاقات الغيب ـ دينيا كان أو أسطورياً ـ على الدنيا، أو العالم المحسوس.
ولئن كانت تجليات العلمانية ـ واقعياً ـ متعلقة بالخبراء الدنيويين، الذين يوكل إليهم حكم العالم؛ فإن (الأخروية) كذلك متعلقة ـ في تجلياتها الدنيوية ـ بالخبراء الدينيين (الأخرويين)، الذين يوكل إليهم حكم العالم الدنيوي.
فمجال الصراع، بين كل من الخبراء الدنيويين والدينيين، هو الدنيا أو العالم. هكذا كان الحال مع بدايات عصر التنوير والنهضة الصناعية في أوروبا. وهكذا هو الحال في المجتمعات المتخلفة، التي نعيش فيها الآن في العالم الإسلامي: إذ يجادل (خبراء العالم الغيبي) بأنهم أعلم بحاجات الإنسان الدنيوية والدينية. وفيما يوافق خبراء العالم الدنيوي، على أن لخبراء العالم الغيبي أن يرعوا عالم الغيب ومفاهيمه، فإنهم بدورهم يجادلون بأن مجال العالم الدنيوي يختص به خبراء دنيويون.
هو صراع بين مفهومين، يمثلهما بشر يعيشون في الدنيا، ويتأثرون بعلاقاتها إذن.
وبحسب التجربة البشرية، فقد رأينا أن هناك جانباً آخر للمسألة، يقول بأن العلمانيين ـ أو خبراء الدنيا ـ مستعدون، بل مقررون سلفاً، بأنهم غير مختصين بالآخرة، ولا يهمهم أن يتدخلوا في علاقاتها، مفضلين ترك هذا الموضوع للمختصين (الأخرويين) باعتبارهم من يقرر في هذه المسألة. فالعلمانيون مؤمنون بإمكانية إصلاح حال الإنسان، من خلال الطرق المادية، دون التصدي لقضية الإيمان قبولاً أو رفضاً. لأنهم في الأصل لا ينكرون وجود عالم ميتافيزيقي أو كليات أخلاقية.
وعلى هذا يتبن لنا أن العلمانية ليست أيديولوجيا: أي أنها لا تنبع من نظرة شمولية تفرز برنامج عمل، بل هي مجرد موقف جزئي، يتعلق بالمجالات غير المرتبطة بالشئون الدينية. فالعلمانية لا تعني اللادينية، بأي حال من الأحوال؛ بل تعني فصل الممارسة الدينية عن الممارسة السياسية. أي أنها، في الواقع العملي، تفصل بين مؤسسات الدين المتحققة مادياً، ومؤسسات الدولة التي هي مادية بطبيعتها. فقد أثبتت التجربة التاريخية أنه لا يمكن بالفعل أن تتوحد المؤسستان: الدينية والسياسية، في أي مجتمع حضاري مركب.
وفي الواقع، فإن هذا التمايز هو مجرد تمايز في الاختصاص كما نرى: لأن القيمة الحاكمة والمرجعية النهائية للمجتمع ـ وضمن ذلك مؤسسات صنع القرار ـ سوف تظل دائماً نابعة من ثقافة المجتمع ودين الأفراد ومرجعياتهم الروحية. وكل ذلك متجاوز لعلاقات للدنيا، وللرؤية النفعية.
ومن جهة أخرى يمكن القول، بأن اهتمام العلمانية منصب على كيفية تنظيم العلاقات الاجتماعية، على أسس إنسانية، تقوم على معاملة الفرد على أنه مواطن، ذو حقوق وواجبات. وبالتالي؛ إخضاع المؤسسات والحياة السياسية لإرادة البشر، بهدف تمكينهم من ممارستهم حقوقهم، وفق ما يرون، ووفق ما يحقق مصالحهم وسعادتهم الدنيوية، التي هي قابلة للقياس بطبيعتها.
أما الأخروية فقد أثبتت التجربة ـ في العالمين الإسلامي والمسيحي ـ أن اهتمامها منصب على إكراه الأفراد على تنظيم علاقاتهم الاجتماعية، على أسس تفسيرية مستمدة من فهم المختصين للنصوص السماوية.
فالأخروية ـ وفق الطبعة الرسمية الصادرة عن المختصين ـ تقوم على معاملة الفرد على أنه مخلوق للعبادة وطاعة الخالق؛ وبالتالي فهي تصر على ضمان إخضاع المؤسسات والحياة السياسية لإرادة مجموعة من مفسري النصوص، المجادلين بأنهم يحكمون بـ(كلمة الله)، وكأنهم منزهون عن علاقات الدنيا!. ورغم ذلك فقد ظل الناس، طوال العصور وفي كل البلدان، يرون كثيراً من هؤلاء المفسرين لا يخضعون لـ(كلمة الله)، في حيواتهم الخاصة. الأمر الذي تسبب في كثير من الأحيان في فقدان ثقة الناس بالدين، كونه يبيح هؤلاء النيابة عنه.
من هنا يمكن فهم أن الممارسة الديموقراطية، في جوهرها، هي ممارسة علمانية بامتياز. لأن الديموقراطية نظام سياسي اجتماعي، يقيم العلاقة بين أفراد المجتمع والدولة، وفق مبدأين: المساواة بين المواطنين، ومشاركتهم الحرة في صنع التشريعات التي تنظم الحياة العامة. فالديموقراطية تقول بأن الشعب هو صاحب السيادة، ومصدر الشرعية. وبالتالي، فإن الحكومة مسؤولة أمام ممثلي المواطنين، وهي رهن إرادتهم، وعليهم ممارسة حقهم في مراقبة تنفيذ هذه القوانين، بما يصون حقوقهم العامة، وحرياتهم المدنية. فهي "حكم الشعب، لصالح الشعب، بواسطة الشعب". في حين ترفض الأخروية ذلك، مقررة بأن "الله هو الذي يحكم الناس". وإذ ظل من المعلوم تماماً أن الله تعالى لن ينزل بشخصه لفعل ذلك، فقد ظلت الفرصة متاحة أمام من يزعمون أنهم نوابه ومفسرو نصوصه للزعم بأنهم هم من سينوبون عنه في ذلك، دون حاجة للرجوع إلى الناس. فالناس في ـ نظر الأخروية ـ هم إما لا يعرفون حكم الله، وإما لا يرغبون في الانصياع له، خصوصاً حين يتعارض مع مصالحهم الدنيوية.
وعلى هذا يتحصل لنا أن الديموقراطية العلمانية تعني بوضوح: المساواة الدنيوية التامة بين الأفراد في الحقوق والواجبات، دون النظر إلى ما يقرره رجال الآخرة.
ونحن لا يهمنا، في هذه السطور، أن نقيس التجارب الديموقراطية العلمانية في العالم، وفق هذا المفهوم الذي قررناه، بقدر ما يهمنا أن نفحص إن كان هذا المفهوم للدولة قادراً على الحياة والاستمرار، هنا في فلسطين التاريخية، في يوم من الأيام.
ودعونا نطرح السؤالين التاليين، ثم نفحص الواقع من خلال الأجوبة المتوقعة:
هل يمكن للفلسطينيين المسلمين والمسيحيين القبول بالديموقراطية العلمانية؟. أو بمعنى آخر: هل يمكنهم القبول بالمساواة التامة مع اليهودي (القادم من وراء البحار) في الحقوق والواجبات واقتسام الثروة؟.
وهل يمكن لليهود المسيطرين على فلسطين فعلياً القبول بالديموقراطية العلمانية؟. أو بمعنى آخر: هل يمكنهم القبول بالمساواة التامة مع العربي (الأصلاني المتخلف الضعيف) في الحقوق والواجبات واقتسام الثروة؟.
ربما يمكن المخاطرة بالقول بأن الطرف الأول سيقبل. ولكن من هو الذي يمكن له المخاطرة بالادعاء بأن اليهود سيقبلون؟!. إن واقع الحال لا يشجع على المخاطرة باستنتاج كهذا.
إن فحص الواقع على الأرض يقول بأن مجموعة الأهداف الخاصة، لأفراد مجتمع ما، هي التي تنشئ النظام السياسي في الدولة. إن هذا العالم ـ حتى في صورته الأخلاقية للأسف ـ هو الجملة التي تتكامل وتتجمع فيها الأهداف الخاصة. أو هو منظومة الوسائل التي تتيح لمصلحتي ومصلحتك، أن تتحقق في مؤسسة هي الدولة؛ كما يذهب إلى ذلك كثير من الفلاسفة. فأين هي المصلحة التي تتحقق لليهودي ـ الذي امتلك كل وسائل القوة والمعرفة، وسيطر من خلالهما على الأرض والثروة ـ في التخلي عن يهودية الدولة؟!. أو فلنقل: لماذا يقبل اليهودي بتقاسم الثروة والسلطة، مع أناس لا يملكون القوة لانتزاعهما من يده، خصوصا وهو مقتنع بأنه مخلوق متميزٌ، صنع الله باقي البشر لخدمته؟!.
لا بد من وجود قدر من القوة، يستطيع التلويح بخلق واقع قهري، قادر على فرض التغيير، خلافاً لمصلحة اليهودي المستوطن لأرض فلسطين. وربما بعد ذلك يمكن التفكير في تحقق الدولة الديموقراطية العلمانية في فلسطين.
إن المشكلة الرئيسية، التي تعترض تحقق الدولة الديموقراطية العلمانية في فلسطين الآن، ليست في أن من تمثلهم الدولة الحاكمة في إسرائيل يرفضون تحقيق مصلحتهم، بالاندماج في المنطقة، بل تتمثل المشكلة في أنهم لا يعتقدون أن ذلك الاندماج هو مصلحتهم على المستوى البعيد. المشكلة ليست مشكلة تمثيل، بل اعتقاد. وليس هذا هو عصر الدولة التي تجعل من المصلحة العامة موضوع اعتقاد، ولا حتى النظام الديموقراطي يسمح بهذا.
ليس من الصعب، على المراقب الحر، أن يلاحظ أن أساس الدولة، التي أنشأها اليهود في فلسطين، قائم على النيابة عن الشعب اليهودي، في تحقيق أفضليته على الناس، ضمن دولته الخاصة. وهذا الفهم العنصري متجذر وعميق في الوعي اليهودي، لم تنتجه مذابح اليهود في أوروبا، بل أنتجته مفاهيم توراتية، حرص الحاخامات على ترسيخها داخل المعازل (الغيتووات) التي أنشأوها باختيارهم، وفرضوها على الشعب اليهودي، لضمان استفرادهم بالسيطرة على وعيهم. ولعله قد بات واضحاً أن هذا الاستفراد آخذ بالترسخ، في ظل الحروب الخارجية والفساد الداخلي.
ثم إن هناك سؤالاً لا يزال الوعي اليهودي يطرحه باستمرار: لماذا نقبل بدولة لكل مواطنيها هنا في فلسطين، وقد كنا نعيش في دول تتمتع بهذه الصفة، فغادرناها، واخترنا دولة اليهود؟!. ماذا كان ينقص اليهودي الغربي إذن، ليأتي إلى هنا، وينشئ دولة محاصرة بالحراب والكراهية؟!.
ولئن كانت فكرة الدولة الديموقراطية العلمانية في فلسطين، تنطلق من حقيقة موضوعية، تقرر بأن حدود فلسطين التاريخية تؤوي أقواماً مختلفين: إثنياً، وثقافياً، ودينياً؛ إلا أنها إلى ذلك تضمر أمنية طوباوية، بتعايش هؤلاء المختلفين. ولئن أمكن القول بأن أغلب العرب، والفلسطينيين منهم، يوافقون على هذه المقولة، ويرددونها بصوت مرتفع. إلا أنه لا يمكن القول بأن أغلب اليهود موافقون عليها، خصوصاً وهم يرون في الواقع أن ما أجبر العرب على اختيار هذا الشكل للدولة هو شعورهم الطارئ بالعجز؟. ألا يناقش اليهود، في كل مفاوضات، مسألة ترحيل العرب إلى الدولة الفلسطينية الممسوخة، التي يقولون أنهم سيوافقون على نشوئها، في نهاية المطاف؟!.
سوف يجادل عدد من العرب (المتفائلين) بأن القنبلة الديموغرافية الفلسطينية، هي ما يمكن له أن يجبر اليهود على حل الدولة الديموقراطية العلمانية. وهذا الجدال من جانبهم، مبني على تصور أن دولة اليهود، لن تستطيع ممارسة العنصرية الحالية، في العقود القادمة، وأنها لا تستطيع مواجهة العالم كله، بكونها الدولة الوحيدة التي تمارس التفرقة العنصرية. لكن هذه التفاؤلية الوردية تتناسى أن طبيعة الدولة الصهيونية ـ ككيان وكيل عن الغرب ـ لن يتيح للعالم، الذي يتحكم به الغرب، أن يقف في صف مقابل ومعادٍ للدولة، التي أوكلها بحفظ مصالحه في المنطقة. كما أن المؤسسة الحاكمة في إسرائيل محتاطة بالفعل لهذا الاحتمال البعيد: يتمثل ذلك في رفضها المستمر لدمج سكان الضفة الغربية وغزة في الدولة، مما يعني أن الأمور سوف تندفع في نهاية المطاف باتجاه إلى أحد حلين: إما السماح للفلسطينيين بإنشاء دولة لهم، محصورة وضيقة وفقيرة ومتخلفة، وإما قذف العرب الفلسطينيين خارج الحدود، في لحظة تاريخية مناسبة.
إن حل الدولة الديموقراطية العلمانية، في فلسطين، يستدعي من الشعب اليهودي تنازلاً مصيرياً،ً بصفتهم المنتصرين في هذه اللحظة من الزمن. وفي غياب احتمالات ذلك، لا يتبقى إلا حدوث نصر عربي حاسم، يمكن المنتصر من فرض وجهة نظره، في تحقيق الفكرة، لصالح المهزومين. فهل يمكن تصور حدوث ذلك؟. أم عدنا إلى الطوباوية مرة أخرى؟.
دولة لكل مواطنيها: الممارسة السياسية فيها مفصولة عن الدين. والممارسة الدينية فيها مكفولة الاحترام. وقوانين الأحوال الشخصية، لكل طائفة دينية، مستقلة عن السلطة المركزية، وكذلك اللغة. والعسكر فيها بعيدون عن ممارسة السياسة، بل مقصون عنها بنص الدستور. والنظام الاجتماعي، الكفيل بالمزج بين حرية السوق وكفالة حق المحرومين، هو المنصوص عليه دستورياً والمطبق قضائياً... فهل يمكن للمتدينين الجدد من الطرفين القبول به؟. أشك في ذلك ولا أتوقعه، في ظل تنامي الهجمة الأصولية على جانبي حلبة الصراع.
إن التاريخ ليحدثنا بأن علاقات القوة المادية، دوماً، كانت هي التي تقول كلمتها، في نهاية المطاف. وإن على من يطرح شكل الدولة أن يقرن طرحه بقوة القوة، التي تنوب الآن في السياسة الدولية عن قوة المنطق.
أيها السادة، لا حل ـ في ظل هذا الضعف العربي والإسلامي ـ إلا فيما يتصدق به علينا المنتصرون. وأظن أنه من العبث الطلب من المنتصرين، أن يتنازلوا طواعية عن ثمرة انتصارهم للمهزومين. إن من يفعل ذلك لا بد له من أن يكون منطلقاً من مجموعة تصورات أخلاقية مثالية، لا تتحقق في عالم السياسة الدولية اليوم.

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

الفكرة والدخان لمعين شلولة(*) محتوى الشكل وشكل المحتوى

06-آب-2016

نصوص المرأة في غزة / الجسد يتكلم

25-أيار-2015

عابرون في ثياب خفيفة ناصر رباح وكلاب النثر السوداء

28-أيار-2014

قراءة في قصيدة الشاعر سائد السويركي

01-آذار-2013

نظرات في كتاب حاج حمد (إبستمولوجيا المعرفة الكونية)

25-تموز-2011

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow