ستموت ( بعضُ ) وفي نفسها شيء منّا
2010-01-13
يحكى أن سيبويه قال وهوعلى فراش الموت: أموت وفي نفسي شيء من (حتى)! وقبل الدخول في دهاليز (بعض) التي سأتحدث عنها, لابد من الإشارة إلى أن هناك من يؤكد أن القول أعلاه لم يكن لسيبويه بل للفرّاء! و الفرّاء يا سادة " هو رأس المدرسة الكوفية في أشهر الآراء, نظير سيبيويه رأس المدرسة البصرية, و دليلهم على ذلك أنّ الفيروزآبادي صاحب القاموس المحيط قال) : قال الفرَّاء: أموتُ وفي نَفسي مِنْ حَتَّى شيء) وقال مرتضى الزبيدي في تاج العروس، مادة (حتت): قالَ الفَرَّاء : أَمُوت وفي نَفْسِي مِنْ حتّى شَيْء.
ولكن لماذا فعلت (حتى) كل هذا بصاحبها – إن كان سيبويه أو الفراء – ؟ لأن (حتى) عمِلت في الأسماء والأفعال والحروف، ولها معانٍ كثيرة, أما غيرها فيختص بنوع واحد، إما الأفعال أو الأسماء أو الحروف.
والآن لنتكلم عن (بعض) فوالله ما عرفت كلمة لها ما لهذه ال(بعض) من سحر, يكاد يعمل عمل المنوم أو المخدر, أو حتى ملطف الجو! كما تعمل (بعض) في كل الظروف والأحوال, ولا تخضع لقواعد سوى قواعد الخوف, فهي إذاً عاقلة, لأن الخوف وسيلة للدفاع عن النفس والوجود! إنها لا تتورع عن العمل كمكابح تلجم سرعة الكلام, وتخمد سرعة تراشقه وإليكم أمثلة:
حين نتحدث عن العرب, أو الأنظمة العربية, أو الأشخاص العاديين, أو الفلاسفة, أو الرجال أو النساء, أو أو أو ..... سوف ينبري لنا من يقول: ليس كل العرب, ليست كل الأنظمة العربية, ليس كل الأشخاص, ليس كل الرجال أو النساء أو أو أو .....
حسن ... إن (بعض) هذه تفيد في عدم إطلاق الأحكام العامة, فالتعميم ضار, ومن الحكمة أن نستثني من الكل بعضه!
ولأننا جبناء – ليس كلنا بل بعضنا – ولا يمكننا أن نقول للأعور ( أعور بعينه ) ولأننا مضطرون للالتفاف والمناورة والتلون والتملص والمداورة والتلطي والوقوف في منطقة الرمادي الحكيم, ولأننا لا نجرؤ على تسمية الأشياء بمسمياتها, ووضع الإصبع في جوف الجرح, سوف نكثر في مقالاتنا وأحاديثنا من استخدام شيكات موقعة على بياض للتصرف برصيدنا من أموال (بعض ) !
طيب..إذا كانت غالبيتنا خائفة, فهل يجوز لنا أن نستثني الكل من بعض؟ المعروف أن نستثني بعض من الكل لا العكس, وإذاً فمن المنطقي أن تسود صفة الأغلبية, وهكذا من المنطقي أيضاً أن نقول نحن خائفون, لا أن نقول: بعضنا خائف! فمن ألزمنا التلويح بمناديل سلام ( بعض ) البيضاء وهل يحق لنا أن نتصالح مع وهم؟
بصراحة وبينما كنت أسير رأيت (بعض) تبكي بحرقة وتشكو من سوء معاملتها, وقد هددت - بصريح العبارة - باللجوء إلى مجلس (بعض) القومي العربي, ومنظمة (بعض) بلا حدود, ومنظمات أهلية أخرى تعنى بالشأن (البعضوي) فهي غير موافقة أبداً على استعمال معناها في غير موضعه, بل والتجرؤ على حرمة كيانها, إذ باتت تستخدم (بالشقلوب)! وقالت لي بالحرف الواحد: إن كانت جميع مراكزكم الثقافية تعيسة, فلماذا تضطروني للكذب على الناس وتقولون إن بعض المراكز مقصرة! إن كان معظم نقادكم مجاملين ومتثائبين, فلماذا تحشرونني في خرم إبرة وتقولون: بعض النقاد مجاملين, وبصراحة لا أريد أن أنقل لكم كل ما قالته, فأنا أخشى العين الحمراء ل( بعضكم ) التي صارت تعني- غالبيتكم - !
في كل بلادنا العربية يكاد الرقم يفقد وظيفته – فيما عدا إحصاء الأرصدة وعدد القتلى – فتغيب الإحصاءات وقواعد البيانات, وبالتالي من الطبيعي أن نستنتج غياب الدقة والموضوعية
هنا ايضاً نظلم (بعض), ونوظفها للتستر على تقصيرنا, فإذا بالظواهر تطفو على سطح اليومي في حياتنا فلا تثير فينا أي ردود فعل, سوى القول بأن بعضنا غير مهتم, وبعضنا غير مخلص, وبعضنا غير معني.....وبعضنا...
سأحكي لكم حكاية لا علاقة ل(بعض) بها:
كان ياما كان لحتى كان, بلدة يعاني أهلها من مرض غريب يجعل رؤوس الأطفال كلما كبروا تستدير إلى الخلف, فيمشون بأقدام تتجه إلى الأمام لكن عيونهم تنظر إلى الوراء. استدعى مجلس البلدة أشهر الباحثين لدراسة هذه الظاهرة الغريبة. بعد طويل بحث توصل العلماء إلى علاج يقضي بزرع شرائح الكترونية صغيرة جداً في أذرع الجيل الجديد. في البداية أرسل عدد من الأطفال خارج البلدة, ليتم العلاج في بلد أحد العلماء, نجح الأمر واستدارت رؤوس الأطفال بشكل تدريجي لتتوافق مع اتجاه الاقدام السائرة إلى الأمام. لم تدم فرحة سكان البلدة طويلاً فبعد مضي وقت غير طويل من عودة الأطفال إلى بلدتهم, كانت الرؤوس تستدير آلياً لتنظر إلى الخلف!
نهاية الحكاية تقول: اعتاد الأهالي على ذلك, وبعد مدة ومع تفشي وتطور المرض, صار كثير من السكان يمشون دون رؤوس فهي محفوظة في حقائب. حين نظر أحد العلماء في أرجاء البلدة رأى أن عقارب الساعات في هذه البلدة تعاكس كل ساعات الكون التي يعرفها!
بعضكم ( التي تساوي غالبيتكم ) سيقول: وما علاقة هذه الحكاية بحديثك عن (بعض)؟ وأقول: بعض الحكايات ترمز إلى واقع نخشى التصريح به, فتلعب الحكاية دور (بعض) في تغطية الحقائق والمحافظة على هدوء بالنا.
على فراش مرض كتب ماركيز وصية شهيرة رائعة, قد تتلخص في: لو أن كل منا علم أن هذا يومه الأخير في الحياة, فما عساه يفعل؟
من تلك الوصية أقتطف:
(هناك دوماً يوم الغد، والحياة تمنحنا الفرصة لنفعل الأفضل، لكن لو أنني مخطئ وهذا هو يومي الأخير، أحب أن أقول كم أحبك، وأنني لن أنساك أبداً.
لأن الغد ليس مضموناً لا للشاب ولا للمسن, ربما تكون في هذا اليوم المرة الأخيرة التي ترى فيها أولئك الذين تحبهم, فلا تنتظر أكثر، تصرف اليوم, لأن الغد قد لا يأتي, ولا بد أن تندم على اليوم الذي لم تجد فيه الوقت من أجل ابتسامة، أو عناق، أو قبلة، أو أنك كنت مشغولاً كي ترسل لهم أمنية أخيرة).
لو أن كل منا تعامل مع رصيده من الحياة على هذا الأساس, لو عملنا في اليوم على أنه يومنا الأخير وليس ثمة فرصة أخرى, ما عساها تكون النتائج؟
مرة أخرى ما علاقة كل هذا ب ( بعض) سأترك لكم هذه المرة أن تحكوا أنتم الحكاية!
سوزان ابراهيم
النشر الورقي جريدة الثورة
النشر الكنروني خاص ألف
08-أيار-2021
17-آب-2011 | |
10-آب-2011 | |
03-آب-2011 | |
27-تموز-2011 | |
20-تموز-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |