الفلاحةُ في السوقِ، و أنا في السوقِ يحنقني الضجرُ، ضجرٌ لا يقدر عليه ـ بل يزيدهُ ـ يقيني بعهدِها الضمني لي بالطعميةِ و البوظةِ بعد أن تبيعَ كلَّ كرياتِ الزبدِ الطافيةِ على اللبنِ الحامضِ في الحلةِ. كانت ليلةُ أمسِ قد جَمَعَتْ كلَّ قشدةِ الأسبوعِ الماضي نصفَ الصفراء نصفَ المرّةِ في هذه الحلةِ و أَخَذَتْ بيدها تُدَوِّخ القشدةَ في دواماتٍ لا نهائية، تشاهدُ المسلسلَ و تدوّم، وأنا لا أحوّل عينيّ عن الدوامةِ نصف الصفراء نصف السائلة أبداً، بالأحرى هي التي لا تفلتني إلا مغلوبةً ، متكسرةً، متحولةً إلى نتفٍ طافيةٍ قَتَلَتّها الفلاحةُ سفراً، بعد ذلك تصنعُ منها كرياتٍ في حجمِ الليمونِ من أجلِ السوق.
ــ بكام ؟
ــ التسعة .
يسألن و لا يشترين فأنادي: طب العشرة، تزغدني الفلاحة : اسكت ياله .
لم أحب السوقَ أبداً، بنسائهِ و غباره، بلحظاتِ الفنِ عشوائيةُ الظهورِ فيه، حتى للطعميةِ و البوظةِ كان حبي يليقُ بأن ينتهي بجريمةٍ، أقول لها مبرطماً : هتسيح .
كانت في الليلةِ السابقةِ قد صَعَدَتْ السلمَ الخشبي حاملةً الحلةَ على رأسها ، تسندها بيدٍ و تتشبث بيدٍ، لتتركها في طراوةِ الليلِ لتجمدَ، ثم خافت أن تعبثَ مخلوقاتُ الليلِ بها فصعدت حاملةً حجراً لتضعه فوق الغطاءِ، ثم خافت أن يتسربَ الترابُ العالقُ بالحجرِ إلى الزبدِ فصعدت حاملةً جلابيةً لتلفَ بها الحجرَ، لكن الزبدَ فعلاً سيسيح .
لم تعد هناك " طعمية ولا بوظة "، بعد السوقِ صارت هناك الوحدة الصحيةُ، بدّلنا البوظةَ بتذكرةٍ لخلعِ الأسنانِ، كلّ أسبوعٍ ضرسٌ، دوامةٌ، زبدٌ، سلمٌ، ضجرٌ، سيحانٌ، ضرسٌ.
ضرسُ ذلك اليوم كان الأصعبَ، أبكاني، أرادت أن تواسيني ، أن تشتري لي شيئاً، قالت: ـ بس هتاكلها ازاي؟ ـ لحظتها وَقَعَتْ عيناي على أولِ مجلةِ ميكي في حياتي، بعدها حَلّتِ المجلةُ محلَ تذكرةِ وحدةِ الأسنانِ و الطعميةِ و البوظةِ.
تَدْلِفُ الفلاحةُ إلى السوقِ بحقيبةٍ فارغةٍ ، و هذا يعني أنّ الامتلاءَ انتقل إلى (بكّها) ، أنا سأنتظرها في السيارةِ على حافةِ السوقِ، معي كتابٌ و زياد الرحباني . صارت عجوزاً، وأنا نصفُ شيخٍ ، أراها تنحني تُقَلِّبُ في الأشياءِ، بيدٍ كفّت عن صنعِ الدواماتِ في المساء، فبدا أن السوقَ يلقي لي على ساحلهِ بلحظةِ فنٍ عشوائيةٍ، لكني أضغطُ زرَّ رفعِ الزجاجِ لأمنعَ الغبارَ و الضجرَ من الدخول.
××××××××××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر ــ ألف